الانسان “كائن مكرم”

mohamad-ghani

موقع إنباء الإخباري ـ
الرباط ـ د.محمد غاني*:
تعددت النعوت التي ألبسها المفكرون لمفهوم الانسان فمن اعتبره كائنا اجتماعيا بمعنى أنه لا يمكن له أن يعيش منعزلا بصفة تامة عن أخيه الانسان ، حيث يذهب علماء البرمجة اللغوية العصبية الى أنه بمقدار إتقان الفرد لفن ربط العلاقات مع الآخرين بمقدار ما يكون هذا الفرد ناجحا و سعيدا في حياته (1) .
ومن رأى من علماء الانتروبولوجيا أنه كائن صانع مرتكزا على فكرة مفادها أن صنع الأدوات هو ما يميز الانسان عن غيره من المخلوقات (2).
و من ذهب الى أن الانسان كائن ثقافي حيث يرى أن ما يميزه عن الحيوان هو العقل و هو ما يجعله كائنا ثقافيا بامتياز و يتجلى ذلك في   العديد من المظاهر و التجليات، و من أبرزها اللغة و المؤسسات و انماط العيش و التبادل و من أبرز رواد هذا الاتجاه كلود ليفي ستراوس (3).
و تساءل نيتشه (4)  لماذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضحك? فخلص الى أنه لما كان الإنسان هو أعمق الكائنات شعورًا بالألم كان لابد له أن يخترع الضحك. فالتعس هو الذي يضحك لكي يبدل بتعاسته الفرح, وليس من الغريب أن تنبع أجمل فكاهة من أعمق الناس حزنًا.
بل إن البعض اعتبر الانسان حيوانا مفترسا حيث قارن بينه و بين الذئب ووجد أن كليهما يقتل ببرودة دم بل وصلت به مقارناته الى أن الانسان أكثر نذالة من الحيوان  فالأسد لا يأكل لحم أخيه الأسد والنمر لا يأكل لحم النمر ولكن  بني الإنسان يأكلون لحم بعضهم بعضا بالوشاية والتدنيس وتزييف المعتقدات وبالتآمر على الآخرين (5).
و ذهب البعض الى أن الانسان حيوان ناطق (6) وهم في هذا التعريف يتقاطعون مع جعل  اللغة خاصية لتعريف ماهية الانسان كما فعل كلود ليفي شتراوس ليبرهن على أن الثقافة هي الميزة في انسانية الانسان و ليس الصناعة كما يذكر بعضهم لاننا نجد بعض الحيوانات لديهم نوع من صناعة الاشياء.
يرى فريق آخر أكثر بعدا في النظر أن الإنسان ذو تاريخ بمعنى أنه يستفيد من تجارب غيره فيتعلم و يعتبر من إفادات أو أخطاء الغير إما ليقتبس من الإفادات فيطورها أو ليعتبر من الأخطاء فيتجنبها و هذا الرأي هو ما أورده الأستاذ أحمد بهاء الدين في مقدمة  كتابه “أيام لها تاريخ”.
و نظرا لكثرة زوايا النظر التي ينطلق منها الباحثون في دراسة ماهية الإنسان فقد صعب على بعضهم تعريفه فألف كتابه المشهور”الانسان ذلك المجهول” (7) .
ويعتبر العلماء المختصون في السيميائيات الانسان بأنه (حيوان سيميائي)لأنه قادر على استخدام وإنتاج العلامات، او كما يصفه كاسيرر(Cassirer) بأنه (حيوان رمزي) في لغاته وأساطيره وديانته وعلومه وفنونه (8) .
يتضح من خلال ما سبق أن الظاهرة الإنسانية معقدة جدا مما صعب مهمة تحديد ماهيتها على المفكرين و الفلاسفة و الباحثين لكن إذا وجهنا فكرنا بنور الوحي المنزل على سيد البشرية من قبل خالق الإنسان فقد يسهل أمر الاجتهاد في تعريف أمرك أيها الإنسان.
يقول تعالى في سورة الإسراء “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ” (9).  و هكذا أتساءل مع القراء الكرام عن إمكانية تعريف الانسان بهذا النعت الذي نعته به خالقه الذي هو أعلم بحاله منه فنصوغ هذا التعريف بأن الانسان “كائن مكرم” لأنه جمع كل ما تبادر الى ذهن المفكرين و الفلاسفة و إن تقاطع في بعض خاصياته مع بعض المخلوقات الاخرى كالضحك  مثلا ، حيث ثبت علميا أن من أنواع القردة الضاحك ، أو الكلام حيث ثبت بنص الآيات القرآنية أن النمل يتكلم، أو الصناعة حيث أن لبعض المخلوفات كالنحل قدرة عجيبة على هندسة صناعة الخلية…. الخ من القواسم المشتركة بين الانسان و الحيوانات أو الكائنات الأخرى، الا أن السمة الاساسية التي تميز الانسان عن غيره هي أنه مكرم بمعنى أن نسبة إتقانه الاشياء تعلو بكثير غيره من الكائنات الاخرى و ما ذلك الا لان الله سبحانه و تعالى فضله على سائر المخلوقات الأخرى و سخر له ما في الارض جميعا ليحقق خلافة الله في الارض بمعنى عمارتها و مع حسن التصرف في الأمانة الملقاة على عاتقه بدون علو في الارض و لا فساد.
إن الله كرم الانسان بالتكليف بأن أمره بالقراءة في قوله “اقرأ” و التعلم و التزكية في قوله و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم” كما كرمه بالعقل المعتبر “فاعتبروا يا أولي الابصار” الى غير ذلك من الاوامر و النواهي التي ان تدبرنا فيها سنجد أن كل تعريفات الفلاسفة و المفكرين قد أصابت جانبا من الصواب لكنها لم تنظر للانسان تلك النظرة البانورامية التى تحتويه ظاهرا و باطنا حيث أن من اعتبر أن الانسان كائن ذو تاريخ فقد أصاب نوعا من الصواب لان من أدوار العقل الذي فضل الله به الانسان عن غيره مهمة الاعتبار فيستفيد من افادات الآخرين و يتعلم من أخطاء الآخرين فيتجنبها و هو المراد من قوله تعالى ” أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة “كما أنه يتقاطع مع رأي من قال بأن الانسان حيوان عاقل ، و يمكن أن نضيف بأن من رأى في الانسان كائنا عاقلا يتقاطع مع من رأى في الانسان كائنا أخلاقيا (10) لان من معاني العقل كبح جماح النفس و هذا عين المقصود من الأخلاق.
وهكذا فإنا إن اجتهدنا في تعريف الانسان بأنه “كائن مكرم” فذلك لأنا وجدناه يحقق معاني نعته بها القرآن الكريم يكون بها انسانا ، سواء بالقوة أو بالفعل، منها أنه كائن قارئ ، و مفكر ومعتبر وعاقل ومتعلم ومزكى .

* باحث مشارك بمركز جاك بيرك للعلوم الانسانية والاجتماعية ، الرباط ـ المغرب

الهوامش:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جاء في موقع مختص في علم تنمية الذاتwww .uppower.net  : اثبتت الدراسات العلمية انك لو تعلمت كيفية التعامل مع الآخرين فانك تكون قد قطعت 85% من طريق النجاحو 99% من طريق السعادة الشخصية .
و15% من النجاح يرجع الى التدريب التكنولوجي والى العقول والمهارة في الاداء الوظيفي
و 85% من النجاح يعود الى عوامل الشخصيه ذاتها والى المقدره على التعامل مع الناس بنجاح.
هناك شخصان من كل ثلاثة فقدوا وظائفهم بسبب فشلهم في التعامل مع الناس بنجاح
(2) يذهب سمير عبده  على الموقع العالمي لبيع الكتب goodreads ” و هو كاتب و صحفي سوري له مؤلفات كثيرة في التحليل النفسي و السياسة ”  أن:  من خيرة التعاريف التي عرف بها الانسان أن كائن صانع.
(3) الانسان كائن ثقافي، محمد الشبة
(4) انظر أول علاج للاكتئاب في العالم ، منتديات ستارتايمز
(5)  انظر أصل الانسان حيوان مفترس ، جهاد علوانة، الحوار المتمدن.
(6) صاحب هذا التعريف كما هو معروف هو أرسطو، وقام هيجل بإحياء تعريف الإنسان عند أرسطو (الإنسان= حيوان ناطق) ليوحِّد بين دلالتي النطق: الفهم (العقل)، واللغة (الإفادة الخبرية). للتفصيل انظر : الانسان حيوان خجول جدا، حيدر الجراح.
(7) صاحب هذا الكتاب هو العالم البيولوجي الشهير ألكسيس كارليل.
(8) نفس المصدر
(9) الاسراء 70.
(10) انظر طه عبد الرحمن ، سؤال الاخلاق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.