الجمهوريّة ” العربيّة ” السّوريّة .. كانت وستبقى كذلك

 

موقع إنباء الإخباري ـ
د . بهجت سليمان:
في ظروفٍ حمقاء تعاني المعرفة البشريّة من حصارٍ ظرفيّ تحت زخم الجهل و التّجاهل و التّهتّك ، غير أنّ هذا لا يعني أنّ ” أهلها ” قُتِلوا ضحيّةً للصّمت الثّقافيّ الذي يُخفي وراءه إتجاراً بالفوضى و الخلاعة ؛ و هم إلى ذلك معنيّون ، كذلك، بالأحاجي و التّحدّيات التي تؤلّفها أو تُفرزها السّياسة في المحيط العالميّ.
ارتياد السّياسة ليس وقفاً على الموظّفين!
و حيث لم تعد الحرب السّوريّة حكراً على سورية و الإقليم ، بل تجاوزتْ في الأصول و المفاعيل ، الحدودَ ، و أصبحت قضيّة عالمية ؛ فإنّ من نتائج هذا الأمر مفعولين رئيسيين :
الأول : تدويل الصّراع و عولمته بإدخاله في الحصيلة العامّة لمنتجات النّظام العالميّ الذي لا يعتاشُ إلّا على الدّمج العنيف ما بين العسكرة و الاقتصاد و السّياسة و التّجهيل و التّكفير و التّيئيس و طحن الشّعوب في لوثةٍ مرعبة..
الحرب علينا حرب أدوات الحضارة العالميّة الأكثر تخلّفاً و توحّشاً و شراهةً و عطشاً و سُعاراً على قلب حضارة هذا العالم في النّشوء الثّابت و الأكيد.
و الثّاني : تَعَمُّقُ الأزمة الاجتماعيّة – السّياسيّة السّوريّة و ظهور ملامح انزياح تاريخيّ للطّبقات و الحدود المؤلِّفة لهويّة المكان الطّبيعيّة، و علامات انزلاقةٍ سياسيّة و ثقافيّة تتهدّد الشّخصيّة الوطنيّة في جوهرها الأنثروبولوجيّ الذي يُعدّ الأساس في البناء على المستقبل.
إنّ الذي يُرادُ للبديل البُنيويّ المادّي و الطّبيعيّ ( الجغرافيّ ) هو أنْ يدخلَ في إبهامٍ و ميوعةشاملة ، بينما يُرادُ للبديل البِنيويّ النّفسيّ و الثّقافيّ أن يدخل في إغماءةٍ يجري معها تزوير الوطن بمكوّناته الأساسيّة البسيطة المعروفة. .
و يجري تحفيز هذا و ذاك بالتّهجين التّفكيكيّ لموجودات السّلطة الحاكمة للمكان ، جرّاءَ حاكميّتهاللجغرافيا و التّاريخ.
و من أجل تحقيق هذه الأغراض الثّأريّة ، يجري التّحرّشُ العالميّ الوقح بالوديعة الحضاريّة التي استخلفتها المقادير عند “السّوريين”، و العبث بها و ممارسة أعتى أشكال الاستباحة عليها ، في الحرب و السّياسة و الثّقافة و الدّوبلوماسيّة ، في أنٍ معاً.
و في هذه ” الّلغبصة ” يجري تفكيك الثّوابت البيولوجيّة – الحضاريّة ” السّوريّة “، فيما المفاجأة أن يكون لهذا المشروع السّياسيّ مفضوحِ الأدوات و الأهداف. أنصارٌ “سوريّون” يُساهمون في ارتكاب هذا الحدث التّاريخيّ الخطِر المتمثّل في مبادلة التّبعيّة و الذّيليّةالشّاملة باستقلال الهويّة و القرار.
و الأمر لا ينتهي عند المساومات الدّستوريّة على “العروبة”، و لو أنّ “العروبة” هي أهمّ الثّوابت التي يجري العمل على تفكيكها و إعادة طرحها للتّفاوض و الحوار ، لولا أنّ العروبة ليست مسألة دستوريّة أو سياسيّة. كلّ ما في السّياسة متغيّرٌ، و كلّ ما في العروبة ثابت!
يميل المؤرّخون و المستشرقون و الباحثون و المحقّقون ، بغالبيّتهم، إلى أنّ شعوب الصّحراء العربيّة الآسيويّة و ” البادية السّوريّة ” قد توالت في اكتشاف محيطها الجغرافيّ واعيةً ًو مدفوعةً بأسبابَ التّوسّع في طلب الأمان في الغذاء و الماء و المُناخ ، على شكل موجات بشريّة ، قدّرها المؤرّخون بخمس موجات. .
حدثت الموجة الأولى ربّما في الألف الخامسة أو الرّابعة قبل الميلاد ( الموجة الأكّاديّة )، و كانت الأخيرة هي الموجة الإسلاميّة في عام ( 636هـ ).
و لقد بلغت هذه الموجات البشريّة إلى الشّمال حتى جبال طوروس و آسيا الصّغرى،
و في الشّرق حتّى جبال زاغروس بما في ذلك حوض النّهرين،
و في الغرب حتّى جبال الأمانوس و سائر ساحل البحر المتوسّط إلى أقصى الجنوب من سيناء، ممتدّة على ما يعرف اليوم بجغرافيا “سوريا الطّبيعيّة” التي كان أوّل من اصطلح عليها بالهلال الخصيب المؤرّخ و عالم الآثار الأميركيّ ( جيمس هنري برستد: 1865- 1935م ).
هكذا عرف التّاريخ الحضاريّ الأوّل للإنسان العالميّ شعوباً كالأكّاديين و السّومريين و الأموريين و البابليين و الكلدانيين و الآراميّين و الآشوريين و الكنعانيين و الفينيقيين – ( كنعانيّو السّاحل السّوريّ الذين أسّسوا ( قرطاجة )و أبدعوا فيها أوّل دستورٍ عربيّ سوريّ أخرج ( أرسطو ) عن طوره فأبدى فيه إعجاباً صريحاً مكتوباً في التّاريخ ، و نفروا إلى المحيط الأطلسيّ فأسّسوا ( قادش ) في ( أسبانيا )، منذ الألف الثاني قبل الميلاد)- و العَبريين و الأنباط.. و أخيراً العرب المسلمين.
امتزجت موجاتُ هؤلاء الشّعوب الأولى في حوضٍ طبيعيّ واحد ، فساهموا مجتمعين و على التّوالي في تأسيس أولى حضارات العالم المعروفة في التّاريخ ، بزراعتها و صناعتها و علومها و آدابها و فنونها و قوانينها و روحها ، التي أضاءت رقيّاً و معرفة على شعوب العالم المجاور، كالفرس و الفراعنة و الإغريق و الرّومان.
و “يُجمع علماءُ اللغة بغالبيّتهم إلى الاعتقاد بوجود لغة أمّ تعدّدت لهجاتها أو ألسنتها إثر انتشارها الجغرافيّ الواسع ، و خضوعها لمؤثّرات إقليميّة مختلفة..
و أنّ هذه الّلغة الأمّ هي لغة الصّحراء العربيّة القديمة التي تحدّرت منها تلك الّلهجات أو الألسن ، إثر موجات الهجرة المتعاقبة باتّجاه الشّمال- حوض النّهرين ، و الشّمال الغربيّ – سوريا الوسطى و الغربيّة حتّى شواطئ المتوسّط الشّرقيّة”. [ د. جورجي كنعان – تاريخ الله- منشورات النّدوة الكنعانيّة – مودرن برس للطّباعة و النّشر – بيروت- الطّبعة الأولى – 1990م- ص: 85].
وهذه الّلغة هي الأمّ هي التي دعاها المستشرق الألمانيّ اليهوديّ ( لودفيك شلوتزر )منذ عام ( 1781م ) بـ ” السّاميّة “، بانياً على ما جاء في ” التّوراة “- في الوقت الذي كان فيه هذا “الكتاب ” مرجعاً شبه وحيد للباحثين في أصل شعوب و حضارات العالم القديم – و رامياً من وراء ذلك إلى تأصيل الشّعب ” العبري ” الذي ينتمي إلى مجموعة تلك الشّعوب و الألسن ، بنسبته المفترضة إلى( سام ) بن (نوح) ..
و يردّد ( أرنولد توينبي ) المؤرّخ الكبير ، خلف ( شلوتزر ): ” و كلّ الجموع التي هاجرت من بلاد العرب إلى آسيا و أفريقيا كانت ساميّة الّلغة ” . [ المرجع – ص: 88].
نستطيع بهذا المتوافِر بين أيدينا من أبحاث المستشرقين و المؤرّخين ، إذاً ، تفسير ورود الكثير من الكلمات الآراميّة في لغة ” القرآن الكريم ” الذي كتب بلغة شعوبِ و ” جماهير ” العالم القديم ، لما فيها من تعدّد و وَحدةٍ جذوريّة في المرجعيّة القاموسيّة الواحدة ، المتمثّلة بالّلغة العربيّة الأمّ الجامعة لتلك المرجعيّات الثّقافيّة في التّاريخ. .
و يقول التّاريخ إنّه ” في سنة 523 ق.م كانت ولاية سوريا من حرّان شمالاً إلى سيناء جنوباً تسمّى ( أثّورا عَربايا Athoura Arabaya)”. [ المرجع- ص: 113].
هنا يمكن لنا القول إنّ ” القرآن الكريم ” قد شكّل في لحظة ثقافيّة في سياقه التّاريخيّ ، وسيطاً ثقافيّاً و وجدانيّاً لجميع شعوب المنطقة.
و إذ تَثبُتُ ” الّلغة العربيّة ” كأصلٍ ثقافيّ واحد لشعوب هذا المكان ، فإنّها تُثبِتُ ، بذلك ، قدرتها على أن تكونَ الأولى من بين جميع عوامل ” الأمّة “، سواءٌ أكانت هذه الأمّة أمّة سوريّة أو أمّة عربيّة ، مع أنّ الأَولى أن يُقالَ ” الأمّة العربيّة ” لأنّ العربيّة – في عامل ” الّلغة ” الأهمّ في عوامل القوميّة – هي ” الأصل الثّقافيّ” و ” الأصل الّلغويّ ” لسوريا الطّبيعيّة أو الهلال الخصيب.
إنّ الثّقافة ناتجٌ سياسيّ ، كما أنّ السّياسة ناتج ثقافيّ.. و حيث تصل ” السّياسة ” و ” الثّقافة ” معاً إلى جبهات الصّراعات و الحروب ، فإنّهما لا يمكن لهما – و لا ينبغي لهما – أن تصادرا ” الأصل الصّلب ” لكلّ ” حضارةٍ ” و قوميّة و أمّة ، و أعني به ” الّلغة “.
و تكفي ” الّلغة ” – دون سائر عوامل ” الاجتماع ” الأخرى – بما هي ” الّلسان” و ” الكتابة ” و ” التّاريخ الواحد ” العضويّ و الحَيّ ، و بما هي- بالتّالي – ” الوجدان ” و ” الخيال ” و ” الشّخصيّة الحضاريّة ” و ” الحوض السايكولوجيّ ” الواحدأيضاً ، و الانتماء ، و نسمة النّفس و أداء الجسَد ؛ تكفي لكي تمنح الكتلةَ البشريّة المجتمعة ذلك التّسويغ الثّابت للكيان الوجوديّ – السّياسيّ الواحد الذي يُسمّى ” القوميّة “.. و لكنْ حيث لا ” قوميّة ” من دون “دولة” الأمّة.
يُفضي سياق حديثي إلى القول بثبوت ” العروبة ” كجذرٍ تاريخيّ في هويّة الدّولة في ( سورية ) ، و هي ” الأرجحيّة ” التّاريخيّة التي لا ترتقي إلى مزاحمتها أيّةُ أرجحيّةٍ أخرى ، و هي ” النّواة ” الثّابتة في قلب أفلاك الثقّافة و فضاءات السّياسة و مجالات النّزاع..
و إذ تكون الأمانةُ التّاريخيّة مقرونةً بالضّرورات الحضاريّة و السّياسيّة ، في عالَمٍ يطرح ، بالعنف ، أحجيّة الوجود ، فإنّ ناتج هذا المُعطى الحاسم يؤدّي إلى التّمسّك بحقيقة الشّخصيّة الاجتماعيّة و التّاريخيّة لمواطني هذا المكان ..
الأمْرُ الذي ينجم عنه ، حقّهم في الانتساب جهراً إلى ذويهم و أسلافهم الحضاريين العظام ، و حقّهم في إشهار ذلك ، في إسْمِ الدّولة التي يُدينون لها بالمواطنة و الوَلاء.
ليس من حقّ ” قوّة ” في العالم ، و لا يُمكن لها ، تجريدنا في دولتنا من عروبتنا ، و لا كذلك من إسم ” الجمهوريّة العربيّة السّوريّة “..
و نحن هنا ، لا نكرّر بديهيّاتٍ و ثوابِتَ ، بل ُنعيد العربةَ إلى خلف الحصان!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.