الجولاني واستراتيجية الحرباء

موقع شاهد نيوز الإخباري ـ
د. محمد محمود مرتضى:

عندما وصل الى الساحة السورية بعد اشهر من انطلاق الازمة فيها، لم يكن «ابو محمد الجولاني» سوى ضابط عند «ابي بكر البغدادي»، أُرسل بمهمة محددة مع بعض الضباط الاخرين لدراسة الساحة السورية وأوضاعها الجديدة وامكانية العمل فيها لإطلاق فرع لما كان يعرف آنذاك «بالدولة الاسلامية في العراق». وما أن بدأ العمل على انشاء بعض المجموعات حتى استأثر الجولاني بها، مطلقاً ما عُرف «بجبهة النصرة لأهل الشام». الا أن حسابات البغدادي لم تكن تطابق بيدر الجولاني. فقرر الاول حل الجبهة ودمجها بتنظيمه الذي عُرف «بالدولة الاسلامية في العراق والشام» (داعش)، قبل ان يحلها ويعلن اقامة «الخلافة الاسلامية».

لم يجد «الجولاني» في ذلك الوقت بُداً من الاحتماء بتنظيم القاعدة، فإن ايجاد موطئ قدم له في ساحة «السلفية الجهادية العالمية» لن يمر الا عبر واحد من اثنين: اما داعش واما تنظيم القاعدة، فأعلن بيعته للظواهري مستفيداً من زخم اسم التنظيم. 

وعندما بات الارتباط بالتنظيم الام عبئاً على الجولاني، أعلن الاخير بتاريخ 28 تموز/يوليو 2016 عن فك ارتباطه به، مغيراً اسم الجبهة الى «جبهة فتح الشام»

كان الجولاني يأمل من فك الارتباط تلميع اسم الجبهة وتسويقها تمهيدا لتبنيها من قبل المجتمع الدولي. «أعدم» الجولاني عدة مصطلحات من قاموسه الدينيالسياسي؛ بحيث غاب مصطلح «العدو اليهودي والصليبي» من خطبه وبياناته التي صدرت بعد فك الارتباط، ثم مد خطوط تعاون مع الاسرائيلي في الجنوب السوري، أو على اقل تقدير تجاهل هذا التعاون بينهما، وانحصر خطاب العداء بأطراف ثلاثة: النظام النصيري في سوريا وحلفائه المجوس في ايران والميليشيات الرافضية»، مع محاولة «سورنة» الجبهة.

منذ خطوة الانفكاك، كان من الواضح ان عين الجولاني على الصفوف الداخلية للجماعات المسلحة، ومحاولة استقطاب من يمكنه استقطابه، ومن كل هذه الجماعات، كانت «أحرار الشام» هي الطرف الاهم الذي يضعه الجولاني نصب عينيه لعدة اعتبارات أهمها: ان احرار الشام هو الطرف الاكبر بين التنظيمات المسلحة اذا ما استثنينا داعش، اضافة الى انها الاكثر «سورنة» بينهم، دون اغفال العنصر العقدي فيها، ونعني بالعنصر العقدي ان قياداتها وعناصرها تحمل الفكر القاعدي نفسه (الجهادي).

ومنذ الانفكاك، جرت محاولات عدة لدمج الفصائل في اطار جبهة واحدة، الا ان هذه المحاولات باءت بالفشل بسبب اصرار الجولاني على احتكار «جبهته» للسلطات العسكرية الاساسية في التشكيل المقترح. وبحسب التسريبات والمعلومات، فان الجولاني ابدى عدم رغبته بالمراكز السياسية في أي عملية اندماج، معلنا استعداده ان تتولى شخصية من خارج «جبهته» الامارة العامة للتشكيل شرط تسليمه القيادة العسكرية. يعلم الجولاني تماما ان جميع التنظيمات العاملة في سوريا هي تنظيمات عسكرية لا احزاب سياسية تمتلك جناحا عسكريا. ومع تركيبة كهذه فإن من يمسك العسكر والمسؤوليات الميدانية هو من يمسك فعليا بقرار التشكيل.

بعد ذلك حصلت تطورات متسارعة على الساحة السورية، توجت بتحرير حلب ميدانيا، وبمؤتمر «أستانه» سياسيا. وهذا الاخير نتج عنه قرار بمحاربة التنظيمات الارهابية في سوريا، وقد تم تصنيف «فتح الشام» واحدة منها. ورغم مشاركة العديد من الفصائل الفاعلة ميدانيا في المؤتمر الا أن أحرار الشام رفضت المشاركة فيه، معللة ذلك باستبعاد «فتح الشام» عنه. وهذه نقطة هامة سنعود اليها فيما بعد.

وعلى اي حال، منذ ان بدأ الاستعداد «لاستانه»، بدأت الجبهة تحضر اعلاميا لما بعدها، فاطلقت حملة اعلامية تتعلق بأحداث حلب، والقاء اللائمة على الجماعات الاخرى بانها كانت وراء الانتكاسة الحلبية، بحملات تخوين تارة، وعدم الكفاءة تارة اخرى، وعدم التوحد ثالثة. ثم جاءت مقررات «أستانه» لتكون بمثابة «قميص عثمان» الذي ستحمله الجبهة لتبرير حربها المقبلة.

بدأت الجبهة بحملة عسكرية على كل من «جيش المجاهدين» اولا ثم اعقبته بحملة على «فيلق الشام» ثانيا، وكلاهما مقرب من احرار الشام. ورغم اعلان الفصيلين عن انضمامهما لأحرار الشام، الا ان الحملة لم تتوقف.

وبعد ايام قليلة على بدأ الحملة العسكرية تم الاعلان عن اندماج عدة فصائل وولادة تشكيل جديد أطلق عليه اسم «هيئة تحرير الشام» عماده «فتح الشام» و«حركة نور الدين الزنكي»، وانيطت امارة التشكيل الى هاشم الشيخ ( ابو جابر الشيخ)، فيما تسرب لاحقا ان القيادة العامة العسكرية تولاها الجولاني نفسه. ثم ما لبثت ان التحقت به بعض الجماعات والكتائب والمشايخ الشرعيين. فكيف يمكن قراءة هذه الخطوة وهذا التشكيل الجديد؟ ما هي ابعاده واهدافه، ومدى حظوظ نجاحه؟ ما هو تقييم أداء الجماعات الاخرى خلال وبعد هذا الاندماج لا سيما أحرار الشام؟

يمكن الحديث هنا عن نقاط عدة:

1- ان اختيار «هاشم الشيخ» لامارة التشكيل، وهو القائد العام السابق لاحرار الشام، خطوة ذكية من الجولاني لمحاولة استقطاب ما أمكن منهم الى التشكيل الجديد.

2- ان اختيار «الشيخ» ان دل على شيء فانه يدل على ما قدمناه من أن الجولاني يعير «حركة أحرار الشام» وعناصرها الاهتمام الاكبر وان عينه على الحركة لمحاولة تفكيكها.

3- ان تسلُّم الجولاني للقيادة العسكرية يؤكد ما قدمناه من أن من يمسك بالقيادة العسكرية يمسك بقرار التشكيل.

4- تركزت حرب الشائعات التي شنتها مجموعات الجولاني بعد الاندماج على انشقاقات تحصل داخل الجماعات الاخرى والتحاقها بالتشكيل الجديد. وقد كان لأحرار الشام الحصة الاكبر من هذه الشائعات. وهذا يؤكد مدى استهداف الجولاني للحركة.

5- في الوقت الذي اعلنت فيه بيانات «فتح الشام» عن ان ما حصل في «استانه» هو سبب حملتها العسكرية، الا ان الاستهداف الابرز كان يطال الجماعات المقربة من «حركة أحرار الشام» بشكل اساسي وهي التي لم تشارك في «استانه»دفاعاً عن فتح الشام واقصائها عن العملية السياسية ووقف العمليات العسكرية، ما يكشف أن الحملة برمتها لا علاقة لها بمسار «استانه» وانما باحتكار قرار الحرب والسلم بين الجماعات المسلحة؛ علما ان «فتح الشام» نفسها قد تحدثت مرارا في البيانات التي اصدرتها بعيد انطلاق العمليات العسكرية ضد «جيش المجاهدين» و«فيلق الشام» عن ضرورة توحيد قرار الحرب والسلم.

6 لم تقتصر هجمات النصرة على الجماعات المقربة من احرار الشام والتي اعلنت انضمامها اليها بل استهدفت ايضا مراكز تابعة للحركة مباشرة كان آخرها الهجوم على المحكمة الشرعية في دارة عزة والسيطرة على حواجزها ومصادرة محتوياتها. وهو ما يعزز ان الاستهداف الاساس هو «لحركة احرار الشام».

7- اعلان الاندماج جاء بعد قيام حركة احرار الشام وبعض المشايخ الشرعيين باقتراح ضرورة انشاء «محكمة شرعية» تبت بالشكاوى التي رفعت ضد «فتح الشام» وتحكم بين الاطراف المتنازعة وهي : فتح الشام وجند الاقصى من جهة، وجيش المجاهدين وفيلق الشام من جهة اخرى. الا أن فتح الشام سارعت الى اعلان الاندماج الجديد وأطاحت بكل دعوات «الاحتكام الشرعي». ما يعني ان الحركة تتملص من هذا «الاحتكام» وهو ما يؤكد الاتهامات السابقة التي كان قد اطلقها «حذيفة عزام» نجل الشيخ «عبد الله عزام» عندما اتهم النصرة بانها ترفض «المحاكم الشرعية» وتعرقل المصالحات بين الجماعات، وان معظم الاشكالات التي كانت تحصل كانت تُحل في بعض الاحيان «باتصال هاتفي» الا الاشكالات التي كانت النصرة طرفا فيها. كما أن خطوة النصرة بإعلان الاندماج يدلل على ان ورقة جند الاقصى تلعبها عند الحاجة ولا مصلحة لها في تعريض عناصرهم «للمحاكم الشرعية».

8- ان اسراع «فتح الشام» للاندماج بوقت قياسي وبعد يوم واحد فقط من فشل الاجتماع الذي حصل بين الفصائل لمناقشة الاندماج، يؤشر الى ان الجبهة بدأت تتحسس رأسها، وان خطوة فك الارتباط عن القاعدة لم تؤتِ أكُلها، ولم تؤدِ الى النتائج المرجوة منها، وبالتالي فان «فرض» الاندماج بالقوة هو السبيل الوحيد لتذويب جماعتها في بوتقة تشكيل جديد. كما أنه يؤشر الى ان الجبهة وصلت الى حائط مسدود فيما يتعلق بعمليات الاستقطاب الاضافية لا سيما بعد خسارتها للنخب العسكرية في معركة حلب الاخيرة.

9- في المقابل، ظهر اداء «حركة أحرار الشام» متردداً، فهي لم تدافع عن الجماعات التي بايعتها رغم أنها اصدرت بيانات قبلت ببيعتهم لها، واقتصرت ردود افعالها على بيانات الاستنكار. ومن المرجح ان بقاء «الحركة» على نهجها هذا سيدفع بمزيد من الانشقاق داخلها والالتحاق بالتشكيل الجديد.

10- اصدرت الحركة عددا من بيانات التهديد الا أنها بقيت حبرا على ورق ما سيضعف من مصداقيتها أمام الجماعات التي تفكر بالاندماج معها بدعوى انها مترددة وغير قادرة على حماية حلفائها، فيما التشكيل الاخر قادر على ذلك ولو كان«باغيا» والمثال على ذلك «جند الاقصى».

11 بقاء ردود فعل «حركة أحرار الشام» على التهديد الكلامي سيؤكد ما يقوله الاخرون عن قيادتها الضعيفة، وسيعزز من أوراق «هاشم الشيخ».

12- ان الانشقاقات التي حصلت سيكون لها تأثير عقدي كبير على المديين المتوسط والبعيد للجماعات «الجهادية» لأنها وجهت ضربة كبيرة لمفهوم «البيعة» ونشرت الفوضى فيها. لان الانشقاق بحسب التوصيف «الشرعي» وفق أدبياتهم هو نوع من «النكث بالبيعة». وقد علق أحد الناشطين (أبو مؤيد الادلبي) بالقول: «ان كان أميرهم (يقصد الجولاني) قد امتهن النكث بالبيعة منذ انفصاله عن البغدادي ومن ثم الظواهري فكيف سيكون الحال فيما هم دونه؟ وكما قيل في المثل الشعبي: فرخ البط عوام».

13- برز في عملية استهداف «فتح الشام» لبعض الجماعات دور «فتوائي» للمدعو عصام البرقاوي (ابو محمد المقدسي). وقد اتُّهم المقدسي سابقا بانه المسؤول الاساس عن تشكيل الشخصية العنفية «لابي مصعب الزرقاوي» بسبب السنوات الخمس التي قضياها سويا في السجون الاردنية بتهمة عرفت باسم قضية «بيعة الامام»، الا أن المقدسي سرعان ما تبرأ من التهمة المتعلقة بالزرقاوي. ان تدخل المقدسي واعطاء الغطاء «الشرعي» للجولاني لهجماته على الفصائل الاخرى قد دفع أحد النشطاء في حركة أحرار الشام ( أبو مؤيد الادلبي) للقول : «ان مثل المقدسي ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾».

وبالخلاصة فإن الجولاني الذي بدأ مع الزرقاوي كما يقولون، قد غيّر «بدلته» ثلاث مرات بأقل من خمس سنوات. وفيما يشبهه البعض بالحرباء التي تغيّر لونها، يشبهه آخرون بالافعى التي تغير جلدها. فما هو «اللون» او «الجلد» الذي سيلبسه الجولاني في المرة المقبلة؟

هذا مجمل ما يمكن ملاحظته فيما يتعلق بالأحداث الاخيرة بين هذه الجماعات. يبقى أنه لا بد من الحديث عن السيناريوهات المستقبلية التي يمكن تصورها والخطوات المحتملة لكل فريق، وهو ما سنتحدث عنه في مقالة منفصلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.