#الصين تخرج من “كونفوشيوسيتها” من بوابة #سوريا

cdb653fe-ff4b-4409-b46c-c9f4fbf4aa49

علي جواد الأمين – صحيفة السفير

لم تعودنا الصين يوماً أنها تدخل في صراعات وحروب الشرق الأوسط عسكرياً، لأنّ الدخول في نزاعاته يخلّ بميزان الاقتصاد ويثقل كفة رأس المال السياسي، على الرّغم من أن المنطقة تُعد فرصة ذهبية للتنين الاقتصادي. تبدو سوريا استثناء في ظل هذه السياسة مع الموقف الصيني الأخير، الذي تعدى حدود «كونفوشيوسية» الاختلاف في الموقف المعهود مع سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
لا تثق الصين بنوايا واشنطن في سوريا أو غيرها، فهي تعتبر أن السعي الغربي لإسقاط النظام السوري مقدمة للسيطرة على المنطقة والإحاطة بها سياسياً واقتصادياً. لكنّ الجديد في موقف بكين الأخير تجاه الأزمة التي طالت، أنه وصل إلى الحديث عن «دعم عسكري» و «تدريب للجيش السوري» ضد الجماعات المسلحة المدعوم بعضها من الولايات المتحدة حد التصادم، في سابقة تعد الأولى من نوعها من جانب الصين في المنطقة. تحول صيني يسهم في الإخلال بواقع توازنات المعادلة السورية إلى جانب كل من روسيا وإيران في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، إن لم نقل في الشرق الأوسط.
يُعدّ إعلان بكين رغبتها في «علاقات عسكرية» أوثق من خلال توسيع التعاون المباشر مع الجيش السوري، صياغة جديدة لدور الصين في المنطقة. وتفسر زيارة الضابط العسكري الرفيع الأدميرال جوان يوفي، رئيس قسم التعاون الدولي في اللجنة العسكرية المركزية الصينية التي تشرف على القوات المسلحة المؤلفة من مليونين و300 ألف فرد، إلى سوريا الأحد الماضي «اعتراف بكين الدائم بالحكومة السورية» بحسب الباحث في قسم الدراسات الدولية في جامعة بكين وانغ ليان، كون الزيارة أتت لتنسيق المساعدات العسكرية للحكومة السورية ضد الجماعات المسلحة. و «يجب الأخذ بالاعتبار التغيرات الحاصلة في سوريا والمنطقة بما فيها تعافي العلاقات التركية ـ الروسية» يقول ليان في حديث مع وكالة «أسوشييتد برس»، مرجحاً أن يكون الهدف من هذه الزيارة رغبة الجيش الصيني بفهم الوضع الحالي للنزاع في سوريا قبل الإقدام على أي خطوة عملية.
الخطوة الصينية تبدو ابتعادا عن موقف بكين التي شددت عليه قبل وقت طويل، بأن الحل للأزمة السورية ليس عسكرياً، فقد كانت بكين تلتزم في السابق بمبدأ الحل السياسي في سوريا، في محاولة لتجسيد المبادئ الصينية الخمسة للتعايش السلمي في التعامل مع القضايا الدولية الساخنة منذ إطلاقها قبل ستين عاماً. ويتخطى الحديث عن دعم عسكري وتدريب للجيش السوري هنا، اللعبة الدولية الديبلوماسية الناعمة التي مارستها الصين طوال السنوات الست للأزمة بإحباط قرارات مجلس الأمن بقوة الفيتو، مع الإشارة إلى أنّ لسوريا النصيب الأكبر من الفيتو الصيني، كون الصين، إحدى الدول الخمس الدائمة التي نادراً ما تستخدم حق النقض، لم تلجأ مثلاً إلى استخدامه لتقويض إصدار قرارين وجههما مجلس الأمن ضد النظام الليبي في عهد الرئيس السابق معمر القذافي، وهي مشابهة للتي وجهت ضد الرئيس السوري بشار الأسد، بل اكتفت بالاعتراض عليها. أما في سوريا، بدا الموقف الصيني مختلفاً، فقد استعملت بكين الفيتو أربع مرات لإحباط صدور قرارات عن مجلس الأمن، اثنان منها تضمنا دعوة إلى تنحي الأسد وثالث طالب بتطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي نص على فرض عقوبات، والرابع سعى إلى إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية.
العين الحمراء الصينية واضحة أمام الغرب وأميركا في ما يخص سوريا في الأمم المتّحدة، على الرغم من أنّ بكين تحرص في العادة على مكانتها كي لا تبدو حجر عثرة في المجتمع الدولي، ما دفعها إلى تقديم «خطط بديلة» عند رفض قرارات الأمم المتحدة منها ما عرفت بـ «خطة النقاط الأربع» لسوريا، التي تقدّم بها وزير الخارجية الصيني حينها يانغ جيتشي في العام 2012، والتي أتت في أعقاب الانتقادات التي وجهت إليها إثر انضمامها لروسيا في عرقلة قرارات الأمم المتحدة ضد سوريا.
التوقيت الذي اختارته الصين للتحول في سياستها تجاه سوريا، يترافق مع ارتفاع غبار معركة حلب الأهم في الخريطة السياسية السورية، والتي وصفها مراقبون بـ «رمز الصراع الدولي»، فيما لا ينفصل تشديد بكين رقابتها على مسلمي «الإيغور»، الثقل البشري في إقليم شينغيانغ جنوب غرب البلاد، عمّا يضيفه هذا التحول على الحشد الروسي الكبير للمعركة الحاسمة، بتوسيع رقعة العمليات وتفعيلها من إيران إلى تركيا ربما في المستقبل، حيث لا يمكن للصين أن تتجاهل وجود تيار إسلامي متطرف يتفاعل وينمو بشكل متسارع على أراضيها، في حين بدأت مطلع العام الحالي، التشديد بالفعل على المساجد وحظر أنشطة بعض الجمعيات المتطرفة خوفاً من عمليات عنف قد ينفذها إسلاميو «الإيغور»، الذين تدعمهم تركيا لدوافع قومية، فضلاً عن طموحات «تركيا ما قبل الانقلاب» التوسعية داخل سوريا. وقد وجهت الصين اتهامات لتركيا بمنح «الإيغور» وثائق هوية ثم تسهيل سفرهم لسوريا والانضمام إلى «داعش»، خاصة مع وجود حوالي 9 ملايين مسلم من «الإيغور» الذين يشعرون باستياء شديد من وضعهم، ويتهمون السلطات الصينية دائماً باضطهادهم.
من جهة أخرى، يأتي إعلان بكين رغبتها في دعم الحكومة السورية عسكرياً، خطوة في إطار تكريس «القوة الناعمة» التي تعاني الصين من نقصها أيضاً، وهو ما اعترف به الرئيس تشي جين بينغ عندما كان يستعد لتولي السلطة في العام 2014 بشكل ضمني، حين كرست اللجنة المركزية الـ 17 للحزب الشيوعي الصيني (الذي يرأس تشي أمانته العامة) جلسة عامة كاملة لمسألة الثقافة، وأعلن البيان الختامي حينها أنّ على الصين زيادة «القوة الناعمة» وطرح «سردية صينية جديدة». وتترجم الهدف الصيني الجديد بحسب ما يشير تقرير لمجلة «فورين أفيرز» الأميركية، بسيل من المبادرات الجديدة في عهد تشي: «الحلم الصيني»، و «حلم آسيا والمحيط الهادئ»، و «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير»، و «ملاحة طريق الحرير للقرن الحادي والعشرين»، و «نوع جديد من العلاقات مع الدول الكبرى»، وغيرها الكثير. وذلك بالتزامن مع وصول «سوق الصين العظيم» إلى المنطقة من بابها الواسع، وارتفاع التجارة بين الصين والشرق الأوسط وفقاً لمجلة «إيكونوميست» البريطانية بنسبة أكثر من 600 في المئة خلال العقد الماضي.
في غضون ذلك، لا تبدو عودة العلاقات التركية ـ الروسية إلى مجرى أعمق من مجراها السابق، نقطة هامشية بالنسبة للصين اقتصادياً أيضاً، فالتوازن الذي كانت تبحث بكين عنه بين القوتين المستقرتين في الشرق الأوسط السعودية وإيران، لم يكن منفصلاً عن تركيا الغاضبة من الاتحاد الأوروبي، حيث أنها من الدول التي يمر منها «طريق الحرير الصيني» القائم على إستراتيجية «حزام واحد، طريق واحد» لتوزيع الموارد من الصين إلى أوروبا، والذي تعهدت الصين بإنفاق ما يقرب من 50 مليار دولار عليه، لبناء السكك الحديد والطرق وخطوط الأنابيب وخطوط الشحن.
ميزان الصين السياسي، لم يجعلها يوماً في عزلة عن المنطقة، لا سياسياً ولا اقتصادياً، إذ إنّها كدولة كبرى لها تأثير كبير على المعادلات السياسية والاقتصادية حد قلب الموازين، سواء من إجراءاتها في مجلس الأمن الدولي، إلى ميلها للأنظمة بوجه ثورات «الربيع العربي» وشبكة علاقات اقتصادية مع دول المنطقة (خصوصاً حلفاء أميركا)، وهي في كل ذلك لم تعتمد مبدأ المسايرة، إنّما الحفاظ على المصالح. لكن منذ أن بدأ التوتر في بحر الصين الجنوبي، بدأت تقارير غربية عدّة تشير إلى أن البحر الذي تعبر ثلث الشحنات البحرية العالمية بمياهه، يضمر في أعماقه الإستراتيجية «حربا عالمية ثالثة». وقد استطاعت الصين خلق مكان لها في ليبيا والعراق وإيران والسعودية والإمارات وفلسطين المحتلة (إسرائيل) وتركيا، بحسب تقرير في صحيفة «فور أوبزيرفر» نشر الإثنين الماضي، فبعد أن ذهبت أميركا إلى بحر الصين بحثاً عن التنين وجدته اليوم في سوريا، محور الشرق الأوسط الجديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.