القدس وغزو القطعان

Settlers-in-the-Al-Aqsa-Mosque-1556

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
خيري منصور:

مشهد يندر أن يحدث في عصرنا، وعلى هذا النحو المتكرر، قطعان من المستوطنين اندلعت من أوكارها وزحفت إلى القدس لإعلان يهوديتها ووحدتها تحت راية الاحتلال . وأهمية هذا المشهد رغم وحشيته وبدائيته أنه يتيح لمن لم يشهد ما حدث قبل ستة عقود أن يعيد النظر، ويقرأ بأثر رجعي تلك الدراما التي عانت الصمت والتواطؤ ما لم تعانه أي دراما في التاريخ .

أما التوقيت فله رواية أخرى، إضافة إلى التزامن بين هذا الاندلاع وبين ذكرى ذات وجهين، أحدهما عرس والآخر مأتم، فلم يحدث من قبل أن كانت ذكرى استقلال شعب هي ذاتها ذكرى احتلال شعب آخر واستيطان أرضه، اللهم إلا في روايات الرجل الأبيض مع الهنود الحمر والسكان الأصليين الذين تمت إبادتهم، ونهضت على أطلالهم وأكواخهم ناطحات سحاب .

إن مشاهد من هذا الطراز تنفي عمن يشكلونها أي استحقاق، سواء بالمعنى التاريخي أو السياسي أو حتى الأخلاقي، فالقدس عاصمة الروح على امتداد هذا الكوكب وسُرة الجغرافيا الرسولية لا تعامل على هذا النحو البدائي والدموي، بحيث يتم اقتياد رجال دين إلى السجون، ودلالة ذلك هي أبعد من العنصرية التي باتت منهجاً يومياً، إنها فلسفة احتكارية لكل العقائد، مادام الآخرون هم “الغوييم” أو الأمميين والأغيار الذين لا بأس من استباحة دمهم وانتهاك مقدساتهم .

إنها حرب دينية، وأدواتها ليست بالضرورة دبابات وطائرات بالرغم من أن هذه الأدوات هي الاحتياطي القابل للاستدعاء حتى في باحة مسجد أو كنيسة .

إن من يفعل هذا في القدس قافزا كاللص على سورها وليس من بواباتها يسمي فعلته يوم القدس، ليكون له يوم واحد هو هذا الذي شهدنا ظهيرته السوداء، لكن الأيام والأعوام كلها ليست له، وليست من تقاويمه . لأنه باختصار يكسر القفل بالمسدس ويخلع الباب بالدبابة والجرافة، ومثل هذا السطو لا يدوم لأنه مجرد جملة معترضة في كتاب التاريخ والخبرة الآدمية التي لم تعد تسمح بمثل هذه العودة آلاف الأعوام إلى الكهف .

ولا ندري إلى متى سيظل عدد قليل من أهل القدس وما حولها ينوبون عن مليار ونصف عربي ومسلم إضافة إلى أصحاب عقائد أخرى يجري تدنيسها وتدمير رموزها؟

فالمقدسيون الذين لم يعودوا أكثر من نصف سكان المدينة محاصرون ومهددون بالبطالة ونسف البيوت والتهجير تحت مختلف الذرائع، لكنهم يقاومون بما تيسر وأحياناً تعسر لديهم من أسباب البقاء والمناعة .

مشهد أصاب ملايين الناس الذين شاهدوه بالغثيان على اختلاف خطوط الطول والعرض في عالمنا، لكن تكراره كما يبدو أدى إلى تأقلم أهل الشأن معه . بحيث لم يعد رد الفعل أكثر من عبارات معلبة، ومنزوعة الفاعلية .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.