«ثنائية الجيش والدفاع الشعبي» تعمّق مأزق العدوان الأميركي

 

صحيفة الناء اللبنانية ـ
العميد د. أمين محمد حطيط:

بعد إيران ولبنان والعراق وسورية، ها هي فنزويلا تخطو خطوة مماثلة وتعتمد نظرية «الدفاع الشعبي» الرديف للجيش الرسمي، حيث أعلن الرئيس مادورو هذا القرار معتبراً «قوات الدفاع الشعبي في البلاد، ستصبح جزءاً من القوات المسلحة الفنزويلية». قرار جاء ليشكل ضربة قاسية لما تخطط له أميركا من غزو لفنزويلا، وتجعل كلّ سلوكيات التهويل والتهديد الأميركي جوفاء لا يكترث بها، فأميركا تعلم جيداً ما معنى أن يكون كلّ الشعب مقاوماً وما معنى أن تواجه القوات المحتلة حركة مقاومة شعبية تنطلق ضدّ الاحتلال ولا تتوقف حتى زواله. وللوقوف على أهمية اعتماد هذه النظرية نعود إلى ما سبق واعتمدته الدول الاستعمارية من سياسة في مجال بناء الجيوش للدول الأخرى. وكيف جاءت هذه النظرية رداً عليها وأفشلتها.

ففي سياق الإمساك بالدول في العالم الثالث اعتمد الغرب عامة وأميركا بشكل خاص سياسة الإمساك بالقدرات العسكرية والتحكم بالجيوش وبسياسة التسلح في تلك الدول. وكان واضحاً أن جيوش دول العالم الثالث تلتزم بالإطار التنظيمي الذي تضعه لها احدى دول الغرب، كما أنها تلتزم بالعقيدة القتالية ومستوى ومصدر التسليح وأنظمة القتال التي توضع لها من قبلها وكان ذلك يبعث الطمأنينة لدى الغرب بأن تلك الجيوش التي لا تملك مصادر تسليحها والتي تخضع مباشرة أو مداورة لإملاءات الخبراء الأجانب، أن تلك الجيوش لن تجازف في القيام بأيّ مهمة عسكرية لا تكون محلّ رضا او قبول او تشجيع دول الغرب، وبهذه الصيغة معطوفة على الصيغة السياسية للحكم تكون دول الغرب حافظت على الإمساك بقرار تلك الدول واطمأنت لانصياعها وعدم الخروج عن سيطرتها.

لكن دولاً في المنطقة خرجت عن السياسة الأميركية وتملّصت من قيودها واستطاعت في حقبة من الزمن أن تحقق إنجازات وطنية هامة كما هو الحال مثلاً في مصر وسورية اللتين استطاعتا تنظيم جيش لكلّ منهما امتلك القدرة على تحقيق انتصارات في الميدان على «إسرائيل» كما حصل في العام 1973، لكن أميركا والغرب كانت تتنبّه للثغرات في سياستها التضييقية وتسارع إلى سدّها بشكل يمكنها من العودة للتحكم بمسار الأمور وتمنع عن مثل هذه الدول التي لا تخضع لقرارها السياسي الوصول إلى مصادر القوة.

أما الشيء الذي لم تستطع دول الغرب إيجاد حلّ له، فهو ما بات يُعرف بنظرية الثنائية العسكرية لقوى الدفاع الوطني في الدول التي تحفظ استقلالها الوطني وتمتنع عن الدخول في دائرة التبعية للقرار الوطني، فكرة عرفتها إيران ونفذتها تحت عنوان الحرس الثوري والجيش الرسمي ومعهم قوات الباسيج. ثم بدأت الفكرة تنتشر في المنطقة، فشهد للبنان المقاومة إلى جانب الجيش وأرسى معادلة القوة القائمة على الجيش والشعب والمقاومة، وشهد العراق الحشد الشعبي إلى جانب الجيش وفي سورية كانت قوات الدفاع الوطني إلى جانب الجيش السوري ثم كانت الضربة الكبرى التي تتلقاها أميركا اليوم هو ما تشهده فنزويلا من الاتجاه إلى تشكيل قوى الدفاع الشعبي التي ينتظم فيها ملايين من الفنزويليين ليرفدوا الجيش في مهام الدفاع عن الوطن ويفشلوا أي مخطط أميركي لغزو فنزويلا وإسقاط حكومتها الشرعية برئاسة مادورو وتنصيب حكومة انقلابية عميلة لأميركا بدلاً منها.

إن الفكر العسكري المقاوم الذي ابتدع فكرة الدفاع الوطني القائم على الثنائية المؤسسية، حول المواجهة مع العدوان والاستعمار الاحتلالي من مواجهة مع الجيش يقود فرد إلى مواجهة مع الشعب لا يمكن أن يصادر قراره حاكم واعتمد للمواجهة أساليب قتال تجعل سلاح الخصم المتطوّر والفتاك، سلاحاً محدود الفعالية في مواجهة خلايا تتقن القتال من الجيل الرابع، أو تشحن نفسها لتتحوّل قنابل بشرية ترعب العدو وتفتك بمراكزه وتحشداته.

لقد وقفت أميركا عاجزة عند المشهد الجديد في دفاعات من لا يرضخ لحكمها وقرارها، ما جعلها تتجه أيضاً إلى اعتماد الثنائية المعاكسة فلجأت إلى استراتيجية القوة الناعمة وابتدعت منظمات إرهابية تواجه بها قوى المقاومة والدفاع الوطني الشعبي من جهة أولى، واعتمدت سياسة التجويع للتركيع عبر اللجوء إلى التدابير الكيديّة والحرب الاقتصاديّة التي أسمتها عقوبات بحق الخارجين عن إرادتها.

وباتت المواجهة بين أميركا وبين الآخرين المتمرّدين على قراراتها وسياستها الاستعمارية تشمل اليوم حرباً إرهابية وحرباً اقتصادية مع تلويح بالحرب العسكرية التي تشنّها الجيوش التقليدية، وقد أثبتت السنوات الماضية من هذا العقد انّ الحرب الإرهابية قادرة على التدمير والتشريد، لكنها غير قادرة على فرض الإرادة الأميركية على الدول المستهدفة إذا توفرت إرادة المقاومة لدى حكامها واعتمدت الثنائية الدفاعية المتمثلة بالجيش وقوى الدفاع الشعبي المتعدّد التسميات حرس ثوري – مقاومة حشد شعبي دفاع وطني الخ… أما العقوبات الاقتصادية فرغم أنها أحدثت بعض الأثر في حياة الشعوب وعرّضت رفاهيتهم لأضرار شتى فإنها ومع وجود الإرادة والصلابة والوطنية تبقى عجزة عن الوصول إلى الأثر الذي تتوخاه أميركا.

ومع هذا المشهد ونتائج المواجهة، ترى أميركا أنّ التهديد والتهويل بالحرب لا يجدي نفعاً مع وضوح الرؤية لدى الأطراف التي يوجه إليها التهديد مع وجود إرادة الدفاع لديها ووجود قوة قتالية متنوّعة مستعدة للمواجهة وقادرة على خوض الدفاع والقتال الدفاعي المتعدّد الأشكال والأجيال، وهذا ما حصل في غربي آسيا ووضع أميركا أمام حالة العجز الميداني الذي ألجأها إلى قرارات استراتيجية علاجية برأيها، كان أولها قرار تجميد الوضع السوري مع اللجوء إلى حرب استنزاف منخفضة السقف، وقرار الانزياح إلى أفريقيا وتفجير الوضع مجدّداً في بعض دولها العربية الجزائر والسودان فضلاً عن ليبيا وقرار تصنيف مؤسسة رسمية إيرانية منظمة إرهابية الحرس الثوري .

لكن أميركا تدرك أنّ الغرض الأساسي من سياستها وهو تركيع دول مركزية في منطقة الشرق الأوسط وفي طليعتها ايران وسورية أمر لن يتمّ بالعقوبات والحرب الاقتصادية ولم تنجح في تحقيقه الحرب الإرهابية، وأنّ الحرب العسكرية أمر ليس مضمون النتائج في ظلّ إرادة وطنية فولاذية لدى الأنظمة الحاكمة واحتضان شعبي لها وخاصة مع وجود تلك الثنائية الفذّة في تنظيم القوى المدافعة القائمة على جيش رسمي وتشكيلات شعبية، لذلك تشدّد أميركا على سياسة العقوبات الاقتصادية التي هي أيضاً باتت محلّ شكوك في إحداث الآثار المطلوبة مع الخشية إلى انقلاب السحر على الساحر فيها والاضطرار في تطبيقها إلى عمل عسكري ما لا يضمن أن يبقى محدوداً، او القبول بارتفاع جنوني لأسعار النفط واكتواء أميركا بناره.

إذن… وخلافاً لما تريد أميركا إشاعته إعلامياً ودبلوماسياً، فإنّ أميركا ليست طليقة اليد في فعل ما تشاء ضدّ الدول التي تستهدفها بقراراتها العدوانية، وليس لأميركا هامش واسع للمناورة فيه ضدّ هذه الدول خاصة مع تلك التي عرفت كيف تنظم دفاعها على الفرعين من التشكيلات وأن تحصّن قرارها بإيلائه إلى حكام وطنيين غير مرتهنين للاستعمار، ولهذا لا يكون مستغرباً أن تشنّ أميركا هذه الحملات العدوانية الشعواء على مثل هؤلاء الحكام وتعمل على تغيير أنظمة الحكم التي يعتمدونها كما وتعمل بكلّ جهدها لحلّ التنظيمات الدفاعية الرديفة للجيوش بعد أن تصنّفها إرهابية وتحشد أوسع الطاقات لمحاربتها والضغط لتصفيتها وأن تمنع عن الجيوش الرسمية أيّ عمل تدريبي او تسليحي يمكّن هذه الجيوش من امتلاك القوة الوطنية المستقلة… ويبقى المستقبل للشعوب التي عرفت كيف تدافع عن حريتها واستقلالها وسيادتها…

أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.