“رسالة الميلاد” إلى اللبنانيين

 وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي رسالة الميلاد بعنوان “من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء” الى اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا مقيمين ومنتشرين في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، في حضور المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات والاكليروس.

وقال الراعي في رسالة الميلاد: “يطيب لي وللأسرة البطريركية أن نعرب عن أحر تهانينا وتمنياتنا بالميلاد المجيد والسنة الجديدة 2018، لكم أيها الحاضرون، من أساقفة ورؤساء عامين ورئيسات عامات ورهبان وراهبات، ولكل أبناء كنيستنا وبناتها، إكليروسا وعلمانيين، في لبنان والنطاق البطريركي ودنيا الانتشار؛ كما نهنئ جميع اللبنانيين، راجين أن يشع نور المسيح على الجميع، فيبدد ظلمات الحياة: ظلمات الخطيئة والشر والنزاعات والحروب؛ ظلمات الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية؛ ظلمات الفقر والحرمان والعوز”.

وتابع: “لا ننفك نحن مع الكنيسة وباسمها ندافع عن الإنسان، كل إنسان. فمن حق الكنيسة وواجبها أن تحكم في صلاح الأفعال البشرية وشرها من حيث تقييم هذه الأفعال في ضوء الشريعة الالهية والأدبية. إنها تعطي “حكمها الأدبي” في جميع الشؤون، بما فيها الشأن السياسي، عندما تقتضي ذلك حقوق الشخص البشري الأساسية وخلاص النفوس. كل نظام أو اداء سياسي يهدد كرامة الإنسان وحياته إنما يمس الكنيسة في صميم فؤادها وإيمانها بابن الله الذي بتجسده وفدائه، اتحد نوعا ما بالانسان . فلا يحق لها أن تصمت عن المظالم، بل عليها ان تتسلح بالجرأة وتعطي صوتا لمن لا صوت له، وتعيد دوما صرخة الانجيل في الدفاع عن بؤساء هذا العالم والمهددين والمحتقرين والمستضعفين والمحرومين من حقوقهم الإنسانية. ولايستطيع أحد أن يوقفها عن ذلك .

على الكنيسة ان توجه الضمائر وتنيرها، لكنها لا تحكم في فائدة هذه السياسة أو غيرها، ولا في تناسب هذا الاقتصاد ولا في وجهه العلمي، بحيث يتصرف العلمانيون في الشؤون الزمنية فيضيء ضميرهم المستنير، لأن ما من عمل بشري، حتى في الشأن الزمني، يستطيع التفلت من سلطة الله . ومن ناحية أخرى، لا تعتنق الكنيسة أي نظام سياسي خاص، ولا يمكنها أن تتلون بهذا أو ذاك من الألوان السياسية، بل ترضى بكل اداء ونظام يضمن للانسان حقوقه وخيره واستقراره وكرامته، ويفسح في المجال لجميع المواطنين ليحققوا شخصيتهم في مناخ من الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص ما لا يمكن القبول به”.

وأشار إلى أنّ “لا يمكن القبول بأن يبقى ثلث الشعب اللبناني تحت مستوى الفقر، كما أظهرت دراسات البنك الدولي. هذا اللبناني الخلاق الذي اعتاد على البحبوحة والكرامة، كيف القبول به يعيش في الحرمان، لا يستطيع أن يؤمن حاجيات الحياة الأساسية من غذاء وكساء ودواء وتعليم وماء وكهرباء؟ وبالتلازم، أي ضمير عالمي يقبل بأن تعيش 58% من أسر النازحين السوريين عندنا في فقرٍ مدقع، كما أظهر تقرير 2017 للمفوضية العليا للاجئين.

وأسف لأن “الأسرة الدولية لا تفي بوعودها والتزاماتها وهي التي فرضت الحرب على العراق وسوريا وحرضت عليها، وأن دولا مقتدرة بالمال والسلاح أججت نارها في هذين البلدين وفي سواهما، تهجر المواطنين الآمنين من بيوتهم، وتلقي بثقلهم على الدول المجاورة، ومنها لبنان الذي يستضيف مليون وسبعماية ألف نازح سوري ومئات العراقيين بالإضافة إلى نصف مليون لاجئ فلسطيني، الأمر الذي ضاعف حاجات اللبنانيين”.

وقال: “لقد كشفت في رسالتي العامة ” خدمة المحبة الإجتماعية” التي أصدرتها في 25 اذار من العام الحالي، كم الكنيسة تقدم من فرص عمل وإنتاج، ومساعدات مالية، وخدمات متنوعة. هذه الكنيسة الأم تستمر في التزامها بكل ما لديها من وسائل. ومن واجب الدولة دعمها والقيام بموجباتها المالية تجاهها لكي تستمر هذه المؤسسات في إداء خدمتها كمساعدة للدولة، فيما حاجات اللبنانيين تتضاعف”.

أضاف: “إن رأسمال اللبنانيين هو العلم والتربية الرفيعة. ومن حق الأهالي اختيار المدرسة التي يريدون لأولادهم. يؤسفنا أن يكون قانون سلسلة الرتب والرواتب قد أحدث بعض الشرخ في قلب الأسرة التربوية الواحدة: بين المعلمين وأهالي الطلاب والمدارس الخاصة. إن المدرسة الخاصة، ولا سيما الكاثوليكية، معنية بالمحافظة على المعلمين وضمان حقوقهم، وعلى أهالي الطلاب بالتخفيف عن كاهلهم، إيمانا منها بدورها ورسالتها على المستوى العلمي والتربوي والاجتماعي والوطني.

من واجب الدولة أن تدرك أنها مسؤولة عن تعليم اللبنانيين بحكم الدستور، وتعتبر أن المدرسة الخاصة ذات منفعة عامة. وعليها بالتالي أن تتولى دفع فروقات رواتب المعلمين الناتجة عن السلسلة الجديدة، وتمنع بالمقابل رفع الأقساط المدرسية. وعليها أن تحافظ على المدرسة المجانية، وتؤمن لها سنويا المستحقات المالية، لكي تستمر في خدمة التلامذة والعائلات المعوزة، وتؤمن فرص عمل لإداريين ومعلمين وموظفين. وعلى الدولة في المدى الطويل أن تدعم رواتب المعلمين في المدارس الخاصة، مثلما تؤمن كامل رواتب المعلمين في المدارس الرسمية، حيث كلفة التعليم فيها أعلى منها في المدراس الخاصة. فلا بد من تعاون مسؤول بين الدولة والمدارس الخاصة لحسن صرف المال العام”.

وتابع: “في لبنان، التنوع ملازم للحرية، وهذا ما يميز لبنان عن جميع بلدان الشرق الأوسط. يخشى اللبنانيون، جراء ما يحدث في هذه الأيام، انزلاقا سلطويا نحو استحداث أنماط لتقييد حرية الإعلام والصحافة والتعبير، والتضييق عليها لأغراض سياسية أو لمشاعر كيدية. من الواجب أن يبقى الجميع تحت سقف قانون الإعلام والتقيد به، وبالأخلاقية التي يقتضيها. ولا يحق على الإطلاق تسييس القضاء، لكي يظل عندنا “العدل أساس الملك”.

وقال: “إن عيد الميلاد ينقلنا بالروح إلى الأرض التي تجسد عليها ابن الله، مخلص العالم وفادي الإنسان، يسوع المسيح. ينقلنا إلى القدس، المدينة المقدسة، حيث تتأصل فيها كل جذور المسيحية: التجسد، وإعلان إنجيل الملكوت، والآيات الإلهية، والفداء، وإنشاء الأسرار لتقديس الإنسان، واعلان سر الله الواحد والثالوث، وتأسيس الكنيسة وإرسالها إلى العالم أداة خلاص شامل. هذه المدينة المقدسة، التي تحافظ عليها الأسرة الدولية منذ سنة 1947 لعلها تنعم بكيان خاص، عبر قرارات من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، على أمل أن تصبح يوما ذات نظام دولي يحمي أماكن عبادة الديانات التوحيدية الثلاث وممتلكاتها، ويضمن حرية الوصول إليها من قبل الجميع، ويحافظ على الحرية الدينية وعلى حرية العبادة وفق تقاليد وعادات هذه الديانات”.

أضاف: “وهاهو الرئيس الأميركي السيد دونالد ترامب ينقض كل هذا التاريخ بقراره الصادر في 6 كانون الاول الجاري، والقاضي بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وبنقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب. وقد تحدى العالم كله، وصم أذنيه عن كل نداءات الشعوب والدول. إنه بذلك قرر تهويد هذه المدينة المقدسة. الأمر الذي نرفضه رفصا قاطعا، لأنه قرار جائر ومعاد للمسيحية والإسلام، وللشعب الفلسطيني على الأخص. ولأنه قرر أن يهدم كل مداميك مفاوضات السلام، ويشعل نار انتفاضة جديدة بل حربا، لا سمح الله. وكم يؤسفنا أن تتخلى الولايات المتحدة الاميركية، عن رسالتها الرامية أصلا إلى حماية حقوق الإنسان والشعوب، وحماية الديمقراطية وتعزيزها، بعد هذا القرار، الجائر وتكراره باستعمال حق “الفيتو” الذي عطل به مشروع قرار سحب الإعلان حول القدس، بوجه الأربعة عشر عضوا الآخرين في مجلس الأمن الدولي، في جلسة الثامن عشر من كانون الأول الجاري. وكان الأحرى والاعدل أن تمتنع الولايات المتحدة عن التصويت لأنها صاحبة مصلحة خاصة، احتراما للديموقراطية العالمية”.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.