روسية العُلومية في عيدها الأُممي

marina-soudah-russia-sciences

موقع إنباء الإخباري ـ
مارينا سوداح*:

 

لم أرغب بإختيار عنوان سياسي لمقالتي هذه. فعيد العلوم الذي يُصادف الأول من سبتمبر/أيلول من كل عام في روسيه، يَعني الكثير لها وللشعوب والبلدان والعائلات، فقيرة كانت أم غنية. ففي مثل هذا اليوم يَكبر الاطفال ليصبحوا تلاميذاً، ويَخْطون خطوة الألف ميل الاولى في حياتهم الانتاجية وتلقي العلوم النافعة للإنسانية، برغم الحروب والمعارك والارهاب الدولي المتواصل الذي يَضربهم بسياط قتّالة، مدمّراً أوطانهم، ومُقتّلاً مُحبيهم، وحارقاً الكتب والمَعارف، ومُكفّراً مُبدعيها، والحالة الراهنة لا يُرى لنفقه المُعتم نهاية.

أذكر بأن عيد العلوم – الأول من سبتمبر /أيلول2014، شهد إفتتاح أول مدرسة روسية مُعاصِرة في بيت لحم، المدينة الوادعة تاريخياً. فقد كانت روسيه وماتزال حريصة على تعليم التلاميذ العرب في مدارسها التي أقامتها في فلسطين وبلاد الشام الكبرى، عن طريق الجمعية الامبرطورية الارثوذكسية الفلسطينية الروسية، ووصل عددها على الأقل الى114 مدرسة كما يُحدّثنا التاريخ الذي سبق عام 1917، منها100 مدرسة شرعت أبوابها في بيت لحم لوحدها!

أنذاك كان التعليم الروسي في تلك المدارس مجانياً لجميع التلاميذ..، لرقيقي الحال جرّاء فقر مدقع كانوا أم لمَن يرفلون بثياب الغنى الفاحش. حينها كانت الوزارة الروسية المعَنية، وكانت تسمى وزارة المعارف الشعبية للامبرطورية الروسية، تدفع الرواتب بانتظام لمعلمي تلك المدارس من خزينة الامبرطورية الروسية، أي من جيب دافع الضرائب الروسي، دون أن تتلقى من العرب فلساً واحداً لقاء هذا التعليم المتميز، الذي أفضى حرصه عليهم بتخريج العشرات من أساطين وعلماء لغويين وأدباء ومستعربين وقلميّين عرب، على مِثال البروفيسورة الفلسطينية المًبدعة كلثوم عودة فاسيليفا، التي أغنت العلوم والمكتبات العربية و الروسية والعالمية بما فاضت به من عبقرية علمية غزيرة، فمنحتها روسيه ومنحها الاتحاد السوفييتي أوسمة جد رفيعة، ومايزال أثر فاسيليفا الاستشراقي باقياً للآن في العلوم الروسية وجامعات روسيه، ومعروفاً في العالم..

في بيت لحم، التي رفض السيد المسيح عليه السلام ان تكون صغيرة، إذ رأى فيها عظمةً أبديةً تسود على مدن الأرض، غدت الإرادة الروسية فاعلة علومياً وصداقةً وانتساباً، فقد أكّدت روسيه بجهودها في بيت لحم وبلاد العرب أنها دولة تُعطي ولا تنتظر أن تأخذ ، والتاريخ يَشهد على هذا السلوك الروسي المِعطاء لمَن يريد أن يَعرف ويُدرك ويَرى. فالفِعل العلومي الروسي يَملأ القلب فخاراً بهذا المنهاج الثابت، الذي يتّسع اليوم من خلال المدرسة العلومية البوتينية، التي جل تركّز جهدها على العلاقات العربية الروسية في مختلف المجالات، وعلى الانتاج العلمي والثقافي، والإفادة للطلبة العرب والتلاميذ في رياح فلسطين وسوريا.

وفي الاردن نطمح نحن ونأمل بألاّ يَطول البحث والتمحيص والدراسات لإتخاذ القرار في مجال إتّساع العلومية والمدارس الروسية نحو عمّان والمدن التاريخية من خلال الجمعية الامبرطورية نفسها، فقد أبدع سيرغي ستيباشين رئيس الجمعية في وصف أمر غياب روسيه عن مسرح منطقتنا العربية الواسعة، عندما كان دقيقاً قبل سنتين ونصف تقريباً في وصفه حال وحالة روسيه مع العرب، بعد ان حلّت بها الكوارث لفترة من الزمن،  حينها صرّح بالتالي حرفياً: “إن البخيل يَدفع مرتين، يجب ألاّ نخسر الشرق الأوسط!”. لذلك، وعد ستيباشين، كما فهمنا من تصريحاته، أن يكون مَجمع سيرغي الكنسي هو الأهم في المنطقة.

وفي الاول من سبتمبر من كل عام، تشهد روسيه تدشين إحتفالات ثقافية ومعرفية كبرى، وهي تذكّرنا كيف نهلتها تلك البلاد من فلسطين وبلاد الشام، إذ ترتكز روسيه في ثقافتها وديانتها على هذا الوطن العربي الذي اختاره الله مركزاً لرسالاته التوحيدية، حيث يَعمل غلاة المتطرفين على سحلِهِ وتهميش الفرح في قلوب أبنائه وتجفيف منابع السعادة فيه.

قد يَعتقد البعض بأن الاحتفالات السنوية بالاول من سبتمبر عادية في روسيه، إتساقاً مع واقعهم هم، لكن احتفالات روسيه تكتسب أهمية أخلاقية وجمالية وتعليمية وتربوية وعالمية كبيرة، وهي تربط الوطني بالاممي، وتعكس بالضرورة رقي العلوم الجمالية والسلوكية للمدرسة الروسية والنظام التعليمي الروسي، وتتواصل مع بُعدِها التاريخي المشهود منذ العهد السوفييتي، إذ يتم فيها حمل تلميذة أو تلميذ يتهيّأ للانتظام في الصف الاول للمدرسة، بقرعه الجرس بيده خلال تجواله في ساحتها وأروقتها، لذلك يتوق كل شخص ومواطن روسي المشاركة في احتفالات الفاتح السبتمبرية،  حيث تختال روسيه روائع احتفالية تشارك بها ناس أمم الارض على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم وتوجهاتهم، فتجتمع هذه كلها على احترام العلوم والزام أطفالهم وابنائهم بها وبأهميتها الفاصلة في حياتهم .

ولعل أهم ما في الاحتفالات هو أن على تلميذ شاب، وليس تلميذة، يُنهي المدرسة في العام الدراسي ذاته،  أن يحمل الطفلة أو الطفل – التلميذ على كتفه، ويَدور به أو بها “ما وسعه الأمر” في حديقة المدرسة وساحتها مُعلناً أن آوان الدراسة والجَد قد أزف. ومن الطبيعي أن يَحمل العديد من التلاميذ والتلميذات في هذا اليوم المشهود باقات الزهور لمعلماتهم ومعلميهم، وهم يتجمّلون بأزياء مدرسية زاهية تعكس نضارتهم وأهمية التلاقي الوطني على هذا اليوم التاريخي.

أجواء عيد العلوم في روسيه متّسعة ومتنوعة، ولعل الأهم فيها أن عنوان الدرس الاول أو القراءة الاولى لجميع التلاميذ(أكثر من 14مليون تلميذ) في صفوف كل المدارس الروسية (54 ألفاً بحسب الاحصاءات المُتاحة)، تحمل عنوان “درس السلام”، وقد تمت الموافقة على إقتراح مُقدَّم من مسؤول ملف حقوق الاطفال في روسيه بافل أسيتاخوف، ان يشتمل الدرس الاول على محاضرة في توعية النشئ بمستقبلهم المهني في سبيل خدمة وطنهم الروسي والعالم الواسع والسلام الشامل، وهو مايؤكد مرة أخرى الجوهر الاممي والأثر الانساني العميق للعلومية الروسية، وتطلعها لخدمة البشرية وليس لروسيه وحدها فحسب..

* كاتبة وعضوة ناشطة في رَاَبِطَة الَقَلَمِيِّين الاَلِكْتْروُنِيّةِ مُحِبِّيِ بُوُتِيِن وَرُوسيِّهَ فِيِ الأُردُن وًالعَالَم العَرَبِيِ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.