سل عنهم القمر

iman-moustafa-shouhada

موقع إنباء الإخباري ـ
إيمان مصطفى:

عاد شباط أيها القادة… أنتم ثلاثي الجهاد والشهادة… أنتم راغب عباس وعماد.
كلماتي عاجزة وحروفي مثقلة، ولم يسبق أن نجحت محاولاتي أن أكتب لكم، وأعرف أنكم قد جسّدتم بالعشق والصدق معنى القيادة، و رحلتم بصمت، لكن بريق ابتساماتكم وصدى ضحكاتكم يلوح في طيات الأيام، ويترك أجمل الآثار، ومسيرة الجهاد والشهادة تتناقلها الأجيال عاماً بعد عام .. فقد سار خلفكم الآلاف من عشاق الحسين، و تركوا بعد رحيلهم حكايةً دمع العين حبرها، وبطولةً من خيبر علي نشأتها، ومن كربلاء الحسين والعباس مدرستها.
في ذكراكم سأتحدث عن أهل فارسٍ من الفرسان الذين خلفوكم، عرف الميدان بأسه، وهل هناك كلمة يمكن لها أن تصف عوائل الشهداء؟
مرة أخرى استسلم قلمي، كما استسلمت عباراتي عند مقابلة أهل الشهيد الحسن علي فقيه.. كانت أولى المقابلات لي بل أجملها.
وصلت إلى بيت الحسن فقيه على الموعد المحدد… وقفت أمام الباب، تأملته… ترددت كثيراً قبل أن اطرقه… عشرات الأسئلة دارت في مخيلتي… كيف سأقابل أما فجعت بولدها؟ و كيف سأتجرأ سؤال والده عنه؟ كيف سأسأل عن حالهم بدونه؟
استجمعت قواي وطرقت الباب، استقبلتني تلك السيدة الزينبية بوجه بشوش وتركتني في غرفة الاستقبال لبضع دقائق… هذه اللحظات كانت كفيلة بأن أغرق في افكاري وأتوه في خيالي.. من صور للشهيد.. من مشاهد تخيلته بها يحدث والدته.. من آخر ضحكة له بين اهله.. آخر سهرة له معهم… و لفتتني أغراضه التي زيّنت زاوية الغرفة وبطاقته الجامعية وقلائد له.. و حذاؤه المصبوغ بالأحمر القاني.. نعم هذه دماؤه الطاهرة التي تحكي عشقه للحسين…
كيف أصف هذا المشهد! من أين أبدأ؟! كلما عزمت على الكتابة استصغرت كل كلمة سأقولها.. آه من علقم أيام فراقكم أيها الشهداء، ومن قساوة الشوق والغربة.
قطع صوت والدته الدافئ افكاري وهي ترحب بي مجدداً… جلسنا نتحدث عن الشهيد ريثما يصل أخوه ووالده ونجري المقابلة. حدثتني عن برّه لها وأنسها به، عن ذكريات لها معه، عن آخر لقاء…
تقول والدة الشهيد الحسن فقيه في وصف آخر لحظاتها مع ولدها الغالي: “كان الوداع هذه المرة مختلفاً عن كل المرات، الحديث كان صامتاً، كان أشبه بحديث النظرات بيني وبينه، وكأنه أراد إيصال رسالة الوداع لي وأنا تلقيتها… حمل حقيبته، قبلني قبلات كثيرة وقبلته، ضمّني إلى صدره، نظر إلي نظرات لم أفهم معناها، ثم قبّلني وضمّني مجدداً… كانت المرة الأولى التي لم يرافقه دعائي فيها، و كنت دائماً أقف لأتابعه من الشرفة وهو يمشي وأبقى ألاحقه حتى يغيب عن عيني، ولكنني هذه المرة لم أفعل… وقفت في حيرة من أمري وأخذت أحدّث نفسي، أسالها عن السبب، وكأنني أحسست أنه الوداع الاخير”.
هذه الكلمات خنقت عباراتي المثقلة بدموعي، وبريق عينيها قتلني وأعجزني عن أي رد أو تعليق… بل اكتفيت بالقول: “هنيئاً لك لقب أم الشهيد”.
بعد حضور والد الحسن وأخيه حضرت في بالي صورة الشهيد يجلس بين أهله وتألمت و تساءلت… كيف هو حالهم، بالله عليكم أي قلوب امتلكتم يا عائلة الشهيد؟! كيف تمر عليكم ضحكاته، كلماته، همساته، عينيه؟! والد الشهيد علي فقيه يخاطب ابنه قائلاً: “لا أدري كيف أصف فخري بك؟ أم كيف أعبر عن شكري لك أن جعلتنا من تلك العوائل التي خصّها الله وكرّمها، ونظر إلينا تلك النظرة الكريمة واختارك من بيننا شهيداً…عهداً حبيبي أن نتابع طريقك أنا وأخوك وبإذن الله ماضون على دربك”.
أحسست بهم … شعرت أن الزمن بطيء والأيام تمر ثقيلةً كئيبة عليهم وأسئلتي أحيت فيهم الحنين لحلو أيام الحسن، لكن ما يبرد نار قلوبهم ويبعث السكينة في روحهم أخبار بسالته على أرض زينب، فكان خير الكفيل ونعم الناصر والمعين .
الحسين، أخو الشهيد الحسن، يتحدث عن ألم فراق الشهيد: “المؤلم في فراقه استقبالنا للأيام رغماً عنا، أن نطوي صفحات عمرنا، أن أكبر لوحدي بدونه، أن أحقق أهدافاً كنا نرسمها ونحن صغار سوياً، وحلمنا بها وكبرنا ونحن ننتظرها شوقاً لها… لكنه رحل وهيهات منا الذلة، وعلى النهج مستمرون وماضون بإذن الله”.
انسللت من عيوني دموع حاولت إخفاءها دون جدوى… ماذا أقول لهم؟ لم يسعفني التعبير وخانتني الكلمات وما هز كياني صبرهم و ثباتهم… أم الشهيد متماسكة لا ينفك لسانها عن ذكر الله وشكره وحمده… وعندما رأت دموعي اقتربت مني وبكل حنان الأم قالت: “عزيزتي تعز علي دموعك ولكن تذكري زينب المسبية (ع) واصبري مثلها، ولدي استشهد دفاعاً عنها وأنا فخورة به”.
أنا من يجب أن اصبّرها أم هي؟ وهي المفجوعة بولدها! هذه الأم اقتدت بصبر السيدة زينب (ع) وبالها مع زينب في كربلاء وما جرى عليها من المصائب.
هنا توجهت بقلبي إلى كربلاء والشام إلى الامام الحسين (ع) وأخته السيدة زينب (ع) أخاطبهم : “سيدي يا حسين أخجل بدموعي مذ سمعت ما جرى علينا من جور الزمان وأخجل منك مذ أمسيت وحيداً غريباً ذبيحاً عرياناً على رمضاء كربلاء وأخجل من غربة أختك المسبيّة و حزنها”.
بعد المقابلة ودّعتهم على وعد بلقاءات أخرى، وخرجت من المنزل تاركةً قلبي معلقاً بهذا الجو الروحاني، فخورة بهذه العوائل الصابرة المحتسبة أجرها عند الله، ولنا الفخر جميعاً أن أمتنا قادتها شهداء وشبابها شهداء وكبارها و صغارها شهداء.
في يوم القادة… أهدي سلاماً طأطأت حروفه رؤوسها خجلة، وتحية يملؤها العز والافتخار لكل شهيد قدم روحه ليحيا الوطن وليستمر النهج الحسيني المقاوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.