شهيد عرسال يكرّم.. بالتخلي!

orsal-view

صحيفة السفير اللبنانية ـ
سعدى علّوه:

هل استكملت الدولة اللبنانية «ترسيم» حدودها مع عرسال أمس الأول لدى تشييع عنصر فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي الشهيد زاهر عزالدين في بلدة اللبوة، متجنبة دخول بلدته التي رفض مغادرتها تحت وابل تهديدات تنظيم «داعش» الذي اغتاله في قلب عرسال، وفي وضح نهارها؟

وإذا كان الشهيد عزالدين صمد في منزله وبين أهله، حاملاً روحه، التي سرعان ما أزهقت، على كفيه، فهل وضعت الدولة لنفسها حدوداً لا تتخطى مدخل عرسال بعد مدخل اللبوة جارتها في السهل في البقاع الشمالي؟ وإلا بماذا يبرر الرسميون وأصحاب الشأن فيها ما فعلوه؟ كيف تمكنوا من إخراج عائلته لـ «تكريمه» خارج التراب الذي دفع دمه ثمناً لتمسكه به؟

بهذه الروحية كتب عدي عزالدين، قريب زاهر على صفحته على «الفايس بوك» معلقاً على تشييع قريبه في اللبوة: «اي عارٍ تصنعون وانتم تدْعون والد الشهيد ليترك بيته وبلدته ويأتي إليكم لتؤدوا أمامه تحية رفاق السلاح؟ أي سلاح هذا الذي لا يجرؤ ان يؤبّن صاحبه فوق أرضه؟ تأبين الشهيد يكون بحماية من مات لأجلهم، تأبين الشهيد يكون باحتضان جثمانه وحمايته».

فزاهر، ابن شعبة المعلومات، وكما قال عدي «اخٌ لعسكريٍ وشرطيٍ ودركيٍ ومحام وهذه ليست بصدفة.. إبن عائلة للبنان بكل ابنائها، آمنت به وطناً، فكفر بها حامياً، آمنت به أباً راعياً، فكفر بها والداً وحنوناً».

ما قاله عدي، هو حال لسان كل من يرفض أي سلطة غير سلطة الدولة في عرسال. غالبية «العراسلة» الذين لم يتاجروا ببلدتهم على غرار ما «تنطحت» لفعله قلة من بينهم منساقة وراء مصالح سياسية ومادية بالدرجة الأولى، لا يمكن سوق الغالبية بما ارتكبه القليل من بينهم. فعرسال التي دفعت الشهداء الأوائل من رجالها على حدود فلسطين، وما زالت جثامين بعضهم أسيرة الإحتلال هناك، تستحق أكثر من عزلها وكأنها بلدة سورية وجزء من الحرب الدائرة هناك.

وإذا كانت الدولة قد «زنرت» عرسال بترسانة عسكرية لا تقل عن خمسة آلاف جندي من جنوب عرسال إلى شمالها وصولاً إلى الحدود السورية في القاع، فهذا لا يغطي على حقيقة أن ليس في عرسال مركزاً أمنياً واحداً، ولا نقطة ثابتة واحدة للجيش فيها. حتى مخفر الدرك الذي هاجمه المسلحون في «غزوة آب» واستشهد على بابه خلال الدفاع عنه الشهيد الأول لآل عز الدين مع شاب عرسالي آخر، لم يعد افتتاحه حتى اليوم إلا خارج عرسال وتحديداً على الطريق من اللبوة وإليها. وهكذا فعلت الدولة لدى افتتاح مركز للأمن العام لتنظيم وجود النازحين فيها.

الدولة نفسها تدخل عرسال مدججة، وبطريقة عابرة وتحديداً بدوريات عسكرية مؤللة تصل إلى نحو مئة آلية تأتي البلدة من عشر زوايا ولا تمكث فيها لأكثر من ساعة. وبعدها يبقى أهالي عرسال وحدهم في مواجهة الذين يقومون بتصفية المدرجين على «لوائح الموت» خاصتهم. لوائح نقصت حتى الآن نحو أربعين إسماً-شهيداً وبالطرق الوحشية نفسها التي يقتل فيها «الدواعش» أو «النصرة» ضحاياهم.

هذا لا يعني إسقاط المسؤولية عن أهالي عرسال. فهناك في البلدة التي خرج أهلها كلهم وراء جثمان عزالدين يشيعونه إلى مثواه الأخير، يدوي صمت مطبق عما يجري، صمت يشبه سياسة «النعام» ودفن الرؤوس في الرمل. صمت يتناقض مع بنية عرسال وخصائصها الديموغرافية العائلية، وعن طبيعة أهلها الذين لا يسكتون على ضيم. صمت يشبه الصمت الرسمي المتخلي عن البلدة، وكأنه التسليم بتسليمها للمسلحين وحساباتهم على حساب أمن الناس.

طبعا ليس المطلوب هنا أن يحمل أهالي عرسال السلاح ويأخذوا بالثأر. لكن لماذا لا تعقد فاعلياتها وعائلاتها اجتماعاً واحدا ويقولون كلمة رجل واحد في وجه سطوة المسلحين على أمن وحياة ناسهم. لماذا لم ينظم «العراسلة» اعتصاماً واحدا حاشداً رافضاً للمسلحين؟

باستشهاد زاهر عزالدين يصل عدد شهداء عائلة عزالدين وحدها إلى عشرة رجال (بمن فيهم الذين ذهبوا ضحية غزوة آب والطالب الجامعي عبدالله عزالدين الذي استشهد بتفجيري بئر حسن الإرهابي)، ومثلهم ربما شهداء آل الحجيري، وغيرهم من عائلات البلدة. ومع ذلك يسود صمت مطبق في بلدية عرسال. كما لم يخرج شيخ من أئمة المساجد الكثر فيها ليرفع الصوت في وجه القتلة الذين صوبوا أسلحتهم وسواطيرهم من حضن البلدة التي فتحت لهم قلبها قبل جرودها ومنازلها واستقبلتهم كـ «ثوار» في بداية الأحداث السورية. البلدة التي دفعت الغالي والرخيص كرمى لموقف مبدئي بداية، وإن أخذتها قلة من المتاجرين بـ «الثورة» إلى ما لا يريده غالبية ناسها وأهلها. عرسال التي دفعت من رصيد علاقتها بمحيطها عندما اطلقوا من تلالها وجرودها صواريخهم على قرى السهل جاراتها، وانطلقت بعض السيارات المفخخة عبر بعض ممراتها لتزرع الموت في محيطها وغيره.

وإذا كان تنظيم «داعش» قد تبنى تصفية المؤهل عزالدين وجدد تهديد كل من ينتمي إلى المؤسسات العسكرية في عرسال من جيش وقوى أمن وأمن عام وأمن دولة، فهل يغادر عرسال كل «أبناء الدولة» من العسكريين الذين لا يقل عددهم عن 750 عنصرا من الأجهزة كافة، ليلتحقوا بالدولة خارجها؟ أم يستقيلون من وظائفهم حماية لأنفسهم؟.

التوجه في عرسال يقول عكس ذلك. ها هو رجل آخر من «أبناء الدولة» في عرسال مهدد من المسلحين ويرفض الخروج منها، ومثله رجال كثر أمنيون وعسكريون ومدنيون. أربعون الف نسمة، وبرغم «النزوح» الذي شهدته عرسال من عشرات عائلاتها، يطالبون بدخول الدولة بكامل أجهزتها إلى بلدتهم والضرب بيد بحديد وإعادتها إلى خارطة الوطن.

وعرسال اليوم تؤكد على خيارها بنحو ثمانمائة عسكري تقدموا للتطوع بالجيش اللبناني في آخر دورة تم الإعلان عنها. عدد لم تعرفه بلدة لبنانية أخرى على طول الجمهورية وعرضها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.