علي عقيل: الطفل الذي شاهد قتل والده.. ولم يشاهده الإعلام

iman-moustafa-aliakeel1

موقع إنباء الإخباري ـ
تحقيق إيمان مصطفى:
أصارحكم القول قبل كل شيء أنني شعرت بشيء من المرارة وأنا أبحث عن كلمات تصف الحال الذي حملته لنا الأيام المنصرمة.
ربما قدرنا أن نعيش في الأخطار، وما جرى ويجري من أعمال إرهابية في لبنان كان كافياً ليرسم لنا ملامح العدو الجديد. وبعد كل عمل إرهابي تتراكم محطات التذكر يوماً بعد يوم.

ali-akeel1

لا ينقضي يوم تقريباً إلا ويردد أحدهم اسم حيدر مصطفى الذي قضى والداه في انفجار برج البراجنة… حيدر سمّاه البعض أيقونة الطفولة والبراءة، وضجّت بقصته مواقع التواصل الاجتماعي ومحطات التلفاز، فاكتسب عائلة كبيرة من اللبنانيين الذين يسألون عنه ويتابعون أخباره باستمرار نظراً لحالته المأساوية.
ولكن هناك حكاية أخرى لم يرها الآخرون بهذا المنظار لأنهم لم يرَوا السرّ الكامن في علي حسين عقيل الذي تتشابك خيوط قصته مع قصة حيدر، مع فارق أنه ما زال في حضن وكنف والدته.
بدأت رحلة البحث عن علي بعد حديث لي مع أختي وهي كغيرها ذهبت لتتعاطف مع حيدر، حيث تناولنا أطراف حديثها العابر مع خالته عليا، و بين السطور جاء ذكر علي، رفيق حيدر، في الغرفة في مستشفى الرسول الأعظم (ص).
بالنسبة لي لم يكن الأمر عابراً ابداً، وفي الحال أجريت اتصالاً هاتفياً مع الحاجة عليا لأخذ المعلومات التي توصلني إلى علي، ولكنها لم تكن تعرف سوى اسمه. و بعد التواصل مع مستشفى الرسول الاعظم وصلنا إلى علي، وعلى الموعد دخلنا الغرفة الزهرية اللون بحثاً عنه، فوجدنا طفلاً في سريره، بان واضحاً انزاعجه من حضورنا…
علي المحاط بأمه وخالاته، قد أخذت الشظايا من جسده نصيبها، أما رجله اليمنى ـ وعذراً لقساوة التعبير الذي اقتبسته من خالته ـ فإنها “مطحونة”.
علي رفض الحديث معنا، شاغلاً نفسه ببعض الألعاب المتناثرة على سريره، هارباً ربما من تذكر ما يؤلمه، و لكننا لم  نترك لليأس مكاناً يمنعنا من سرقة الكلمات منه.  ali-akeel2
فبعد محاولات من الملاطفة والتودد ردد علي لطميات كسرت صمته! والجدير بالذكر أنه يملك صوتاً شجياً.. وهل هذا كل شيء؟ كلا. فعلي يحب الرسم وهو بارع فيه، وأعترف أنني لم أدرك المعاني كلها وراء كل لوحة، إنما هي رسومات تخرج الإنسان الذي نما بداخله،
والذي يحلم أن يصبح مقاوماً ليثأر لوالده من الإرهاب، فرسم مقاوماً وعلماً وأخرى كانت صوراً للانفجار.
استصرحنا والدة علي، لعلها تفيدنا بما حصل، ولكنها اكتفت بالقول إنها أوصلت علي لوالده قبل دقائق معدودة من الانفجار… وتركت الحديث لعلي الذي ما زالت لحظات الانفجار تدور في مخيلته، وأحياناً تدفعه إلى نوبات هستيرية، ينادي أباه فيها.
هذه النوبات أشارت إليها الطبيبة المسؤولة عنه، إذ أكدت أن وضع علي الصحي جيد، وفي تحسن مستمر، ولكن وضعه
النفسي متردٍّ، فهذا الطفل لم تمهله الأقدار أكثر من تسع سنوات، تراكمت فيها لحظات الأمان والاحتضان الأبوي، قبل أن يخطف القدر والده أمام عينيه.ali-akeel3
علي رفض مراراً و تكراراً التحدث، متذرعاً بأنه نسي كل شيء… ولكن بعد محاولات عديدة، انفجرت من عينيه  مشاعر ـ حاولنا إدراكها ـ اتصفت بالرجاء الذي يبقى متقداً في القلب والضمير، وبألم فراق أبيه الذي تعلق به منذ الصغر… هذه المشاعر اختصرها علي بهذه الكلمات: “كنا أنا و ماما بالسوق وجبنا غراض، وصّلتني ماما عند بابا وراحت على البيت، رحنا أنا وبابا نجيب باقي الغراض،
طلع أول انفجار، عبطني حضنني) بابا وركض فيي على المستشفى، بس فجأة وقف ونطق بالشهادتين وطلع الانفجار التاني. بابا استشهد وأنا اخدوني على المستشفى.” ali-akeel4
نداءات علي لأبيه نظمها البعض شعراً: كلمني عما ترى.. أخبرني ماذا جرى.. لمّا هويت إلى الثرى ..كيف ارتحلت
مودعاً… كيف هجرت ديارنا.. بكتك العيون تألماً.. أيغيب نجم للقلوب ينور.. وقلوبنا يكويها حر النار… يا لقسوة الأقدار…
وقفت أمام علي حائرة، خانني التعبير وضاعت مني الكلمات… فما ذنبه؟  هو ذنبه  الوحيد أنه عابر سبيل في منطقة تعيش العواصف والعنف الارهابي. وما ذنبه حتى حرمته وسائل الاعلام التغطية التي توفيه حقه لتصل مأساته إلى الرأي العام؟
لقد وجدت نفسي مسؤولة تجاه علي لنقل قصته… وبالفعل.. وبفضل بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، لمع الخبر كالشهب، وهزت نداءات علي الضمائر الحية، ووصلت رسالته للناس وقد استجابوا.. حتى أن البعض عرض تكفّله ومساعدة العائلة، كما أن بعض وسائل الاعلام والمواقع الاكترونية اهتمت بقصة علي عقيل وستعمل على نشرها، وهو يناديكم “تروحوا لعندو”  على حد تعبيره الطفولي، فقد يؤنسه وجودكم ويخفف ألمه . ali-akeel5
اليوم ربما علي هو آخر من خرج من جرحى الانفجار من المستشفى، و عاد لبيته الذي لم يعتد أن يراه خالياً  من والده، مما سبب له وضعاً نفسياً أصعب.
وفور خروجه من المستشفى طلب زيارة قبر والده.. نعم  زاره في بيته الجديد الذي يفوح منه عبق الشهادة .
لقد ترك علي الكثير، هذا الطفل الذي أدرك باكراً وسائل التمييز في مسالك الحياة واختار طريق العز والكرامة.. رفع شعار النصر ليقول أن غداً يوم آخر.. إن الحديث عن الحياة يوجه النظر نحو الغد الطالع، فالحياة إشراقات متجددة وفجرها يتكرر باستمرار.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.