في ذكرى التحرير: «لسنين عديدة… يا سيد المقاومة»

nasri-sayegh

صحيفة السفير اللبنانية ـ
نصري الصايغ:
I ـ المقاومة إضافة

للبنــان تاريــخ طائفــي محــسوم وفضفــاض. كل مــا هو غير طائفي غريب عن هوية الكيان وليس من طبيعته. الكتابات التاريخية حافلة بالأبحاث والدراسات والمحاضرات والوثائق المؤكدة لهوية الكيان ونظامه التوافقي وصيغته الميثاقية وعيشه المشترك وعروبته الخجولة وحياده المنحاز و… أكاذيب الديموقراطية.
هذا التاريخ الرسمي والشعبي والأكاديمي، يختزل لبنان، ولا يرى في أيامه الماضية، غير الحراك السياسي المؤسس على شخصيات وأحزاب وتيارات وعائلات، مربوطة بأعناقها بالقيد الطائفي. ولا يبدو تظهير هذه الصورة مخالفاً لدى المختلفين، إلا في التفاصيل، التي تتبدى كارثيتها في أزمنة الانقسام. ونحن اليوم، شهود على ما آلت إليه هذه المسيرة البائسة.
هذا التاريخ يصدق من جـهة ويكــذب من جهــة ثانيــة. يصدق في اعتبار الطائفية، شراً لا بد مــنه، ويبنى عليه، تسوية بعد تسوية، وان الطائفية هي والكيــان واحد لا اثنان، فإذا زالت الطائفية زال لبنان. ولكن هذا التاريخ يكذب عندما يحذف من يومياته المديدة، أحداثاً عظيمة الشأن، أسست للبنان مختلفٍ عن لبنان الرسمي المعتمد والدارج. أحداث لبنان المحذوفة من التاريخ المتداول، ليست أحداثاً عابرة، بل أحداث مؤسسة للبنان الحديث، وهو تاريخ قيد الإنجاز.
صحيح أن الطائفية أساس الكيان ودعامة النظام. ويا لتعاسة هذا الصحيح السقيم. لكن الصحيح المهمل، أن المقاومة إضافة لهوية الكيان ومعنى آخر، عن المعاني الهشة لدولة من قش وأناس من ورق وخيطان. المقاومة، جعلت من اللادولة، فعلا لبنانياً خاصاً بلبنان، أشد حضوراً وتأثيراً من الطائفية.

II ـ لبنان بتاريخيه: الطائفية والمقاومة

للبنان تاريخان: تاريخ بائس وتاريخ باسل. البائس، سجل لصراعاته الطائفية ومنازلاته السياسية، بأحزاب وقيادات وزعامات، وظفت المخزون الطائفي، في معركة توزيع المغانم والمصالح. أما الباسل من تاريخ لبنان، فقد جرى تجهيله وتهميشه حتى بدا شذوذاً أو خروجاً، يلزم تشويهه واجتثاثه.
للبنان تاريخان: تاريخ الطوائفيات البائسة، وتاريخ المقاومات الباسلة، وشتان ما بين التاريخين!
عمر المقاومة في لبنان يكاد يبلغ ثلثي قامة الكيان. ولدت بعد النكسة (1967) ونمت بعد «مجازر أيلول» في الأردن. تآخت البندقية اللبنانية مع البندقية الفلسطينية، أُخوَّة الدم والقضية، فيما كان الطوائفيون في لبنان، يتنابذون ويتقاسمون، حتى ولغوا في الدماء.
لا دين لتلك البنادق، لا مذهب ولا منطقة بكنية طائفية. كانت بنادق المقاومة لبنانية الانتماء قومية القضية يسارية الهوية ماركسية الأيديولوجيا وشعبية بلا تحزب ومن منابع اجتماعية متنوعة. لقد وجدت تلك البنادق في فلسطين والالتزام بحريتها، خروجاً مباركاً على لبنان. ويومها، انقسم لبنان. لم يعد لبنان بجناحين: المسلم والمسيحي، بل بجناحين جديدين: جناح الدولة المهزومة وجناح المقاومة المنتصرة.
ولقد انتصرت المقاومة. سجلت انتصارات موضعية على العدو. كسر الاستشهاديون آنذاك التوازن مع إسرائيل. تفوقوا بالدم على السيف. نتذكر، وجدي الصايغ، سناء محيدلي، لولا عبود، وفتــيان صيدا، وخالد علوان وآخرين كثرا. كما تفوقوا على العدو وأرعبوه، فانسحب باكراً من بيروت، وتــخلى عن الجبل وانحسر عن الاقلــيم وصيــدا. وكــان ذلك مترافقاً مع حرب استنــزاف قادتها المقــاومة الإسلامية، حتى توجت نضالها بهزيمة العــدو وإخراجــه من جنوب لبنان المحتل. وما تبقى من الاحتلال، لن يتأبد معه.
لولا المقاومة، بحركاتها وتنظيماتها المتعددة، لما رحل الاحتلال ولما خرج من أي بقعة من لبنان. لولا المقاومة لكان بشير الجميل حاكماً للبنان من القصر الجمهوري، أو من قبره، ولولا المقاومة لكان «17 أيار»، اتفاقاً مبارِكاً للعار، ولولا المقاومة لما انسحبت قوات «المارينز» الأميركية ولما هرب الفرنسيون والطليان والانكليز. ولولا المقاومة الإسلامية، لما استطاع لبنان كله، أن يتحرر من الاحتلال المدعوم دولياً، والمهمل إقليمياً والمعتبر ضرورياً للبعض، حفظاً للتوازن، ومنعاً للغلبة.

III ـ لبنان الحديث استثناء

لا. ليست المقاومة فعلاً طارئاً. هي مؤسسة للبنان الحديث القوي المنيع الواقف على قدميه. المقاومة مشكلة للطوائفيين، وليست مشكلة للبنان. المقاومة عبء على المستسلمين وحمل خفيف الظل والوقع على المؤمنين، بأن لبنان يمكنه ان يكون الاستثناء القومي والنضالي بكلفة زهيدة جداً. ان الكلفة الــطائفية مــدمرة للبنان. أما الثمن الذي تدفعه المقاومة، فهو معزز لقدرة لبنان. الطائفية، ركَّعت اللبنانيين، أما المقاومة فوضعت جباههم في مواجهة الشمس. «فارفع رأسك يا أخي».
ان الخلاف اليوم، في سطحه، هو خلاف بين طوائف. السطح يكذب. هذا الخلاف يخفي في العمق، خلافاً حول بندقية المقاومة، لا على مذهبية المقاومة. والإصرار على التهمة، ترداد لمعزوفة الانعزال اللبناني للمقاومة الوطنية، عندما أسبغت عليها صفة «مسكوبية» وإسلامية وعروبية، فيما كانت في الأصل والأساس، نضالاً من أجل تحرير لبنان من الاحتلال ونفوذ القوى العظمى الداعمة لهذا الاحتلال.
هم يريدون لبنان أولاً. أي بلا مقاومة، بسبب تلازم نضالها مع الدعم الإيراني الدائم وبسبب موقف المقاومة من سوريا المأزومة، التي وفرت لها الحماية والرعاية والدعم، في زمن «صحة» الممانعة. «لبنان أولاً»، سيف «لحماية» لبنان من المقاومة، وبطاقة دعوة لادخال لبنان في محور التخلي والمساومة. وهذه حكاية قديمة جداً. وهي حكاية بلا نهاية.
لبنان الطوائفي ولبنان المقاومة هل يجتمعان؟
لا يبدو ذلك ممكناً، لما ما بين الطبيعتين من تنافر. فللطائفية منطق خاص. من طبيعتها ان تلتقي مع طيف من جنسها، حتى ولو كان غير لبناني. ومن طبيعة المقاومة أن تلتقي مع محور يشبهها، ولو كان بعيداً عن لبنان. اللبنانان يتساويان في هذا المقام. الطائفية بحاجة إلى روافع إقليمية أو دولية للحفاظ على «حقوقها» المعبر عنها بالمحاصصة، وللمقاومة حاجة ماسة إلى حواضن إقليمية للحفاظ على جهوزيتها وتفوق طاقتها العسكرية. الاثنان يتساويان ولا يتفقان. يتساويان ويتناقضان، والعلة ليست في هذا الانقسام الطبيعي، بل في الموقف الجدي من القضايا الإقليمية، وتأثير ذلك في التوازن الداخلي. الطائفية والمقاومة لا يتوازنان.
فكيف إذا كانت المقاومة من معين مذهبي واحد؟ المقاومة الباسلة على الحدود، تلزمها الطائفية بأن تتخندق في السياسات الطائفية. المقاومة على الحدود، ليست هي نفسها داخل السدود، التي ترفعها القوى الطائفية. هناك، العدو أمامها. هنا، في الداخل، ما أكثر الأعداء من كل الجهات؟

IV ـ التناقض الطبيعي

لا خلاص من هذا التناقض. الطائفية والمذهبية نقيض للتغيير والتطوير والتنمية والتربية والدولة والنظام والديموقراطية. الطائفية والمذهبية نقيض للعدالة والمساواة والكرامة وحقوق الإنسان، فكيف لا تكون نقيضاً جداً للمقاومة والثورة؟ لا خلاص من هذا التناقض راهناً وفي المستقبل المرئي، لأن الحرب التي تخاض اليوم، باتت حرباً مذهبية، لا تستهدف الدين أو المذهب، بل مكانة الطائفة في النظام، ومكانة السلاح في المنظومة الإقليمية.
لقد عاشت المقاومة، بتنوع حركاتها، رغم أنف النظام ورغم إرادة الطوائفيات. قوّتها، لا حجتها، فرضت المقاومة دعامة صلبة من دعائم الكيان، في مواجهة دعائم هشة مدعومة إقليمياً ودولياً. قوة المقاومة حمتها أكثر من تمذهبها. تمذهبها استدرج تمذهباً أو وظف تمذهباً «شقيقاً» بطريقة مضادة. وإذا فرضنا ان المقاومة لم تكن مذهبية أو هي ليست كذلك اليوم، فإن مجرد وجودها يستدعي الطوائفيات لافتراسها. فلا مفر من اصطدام مكونات الكيان القديمة مع المقاومة كمكوِّن حديث. فهذه، من طبيعة مضادة للدولة والسلطة، أيا تكن الدولة وأيا تكن السلطة. السلطة ترعى مقاومة ولكنها لا تقاوم. الدولة تغض النظر ولا تصادم. ليس للدول غير وسيلة الحرب إذا كان ذلك حتماً عليها. لا دليل على وجود سلطة ومقاومة معاً. الاتحاد السوفياتي نموذجاً، كوبا وغيفارا نموذجاً. إيران نموذجاً وإلى آخره.

V ـ فلسطين أولاً وما تبقى إسرائيليات؟

في لبنان، كما في الإقليم العربي المشرقي، من لا يرى القضية الفلسطينية قضية أولى، أو قضية مركزية، أو قضية ذات ثقل جيو ـ سياسي واسع جداً، يصل إلى حدود التوازنات والسياسات الدولية. وإذا كان العرب في معظمهم الرسمي، يتخفَّف من الثقل الفلسطيني، فإن العالم الغربي برمته، يرى إسرائيل، حِملاً لا يمكن التحلل منه أو التخلي عن أثقاله.
لا يمكن ان نقع على سياسات غربية إزاء المنطقة، من دون ان تكون إسرائيل فيها أولاً. إسرائيل، غرب مقيم عندنا. قد يختلفون مع إسرائيل على التفاصيل والهوامش، ولكنهم إسرائيليون في الاستراتيجيا. «عروبة» الغرب نفطية أولاً، وتسليحية ثانياً. «عروبتهم» ضد العرب وضد فلسطين أيضا.
هذا واقع حال العرب.
لكن في لبنان منطقاً آخر، لدى شريحة واسعة وذات فعالية، يرى إلى فلسطين أولاً، ومن خلالها يرى إلى الكيانات والدول وقضاياها. ويرى أن لا حل لمشاكل المنطقة، قبل حل المشكلة الفلسطينية. ولبنان، انقسم حول فلسطين، كما انقسم حول المقاومة وحول العروبة. هذه الأمة مزدوجة، ولم تحل مشكلة الازدواج هذه ولن.
لذلك، لا حل لهذا الاختلاف العميق. سياستان كخطين متوازيين لا يلتقيان.
وثالثة الأثافي، الاحتكام إلى الشرعية الدولية واعتبار من يخرج عليها، متمردا على نظامه السياسي العربي وعلى دولته… كبيرة الكبائر أن نعتبر المعيار السياسي، هو الشرعية الدولية. إن ذلك ممكن في أماكن كثيرة من العالم، أما مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، فقيمة هذه الشرعية لا تساوي نعل حذاء.
أميركا ضد الشرعية الدولية. اعتدت على العراق ودمرته بادعاءات كاذبة. خرجت على شبه إجماع دولي. ارتكبت جريمــة عظمــى ولم يعاقبــها أحد. فالقــوة المتفوقة والمنتصرة، تجعل من الباطل حقاً ومن الحرب الأهلية تعددية ومن الحكم الطوائفي ديموقراطية.
الشرعية الدولية لا تساوي فلساً مع إسرائيل. الشرعية الدولية، التي قبضت عليها أميركا ودول الغرب، حمت إسرائيل وحروبها العدوانية، ومنعت عن فلسطين، بطاقة الدخول إلى المنظمة «الحامية» للشرعية الدولية. ومن حق المقاومة، ومن طبيعــتها، أن لا تكون متصالحة مع الشرعية الدولية الظالمـة والمنحازة والقاتلة. من حق صاحب الحق القوي، ان يلعب في ملعبه. وهكذا فعلت المقاومات في التاريخ، المقاومات التي حاولت وصمها أميركا ودول الغرب بالإرهاب.
المقاومة في لبنان، باقية، برغم أنف نفاق الشرعية الدولية، والشرعية اللبنانية المتهالكة والمسلوبة. وحدها قوة المقاومة تحمي وجودها. وبهذا المعنى، هي حق واجب الوجود. لأن فلسطين، ضحية دولية دائمة، ومشكلتها بلا حل، وشعبها مشرد ومطحون بالاحتلال ومهدد بالاقتلاع والذوبان النهائي.
في عيد المقاومة نقول لها ولسيدها، ما يقال عادة في التقليد الرهباني المسيحي: «لسنين عديدة يا سيد»، فالمقاومة، ليست مشروعاً مضى، بل هي مشروع للمستقبل اللبناني والعربي بالرغم من السقوط العربي المريع في الظلامية السياسية والمذهبية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.