لماذا يستهدف #الإرهاب #فرنسا دائماً؟ فتّش عن لي ـ كوربوزييه!

p10_20160720_pic1

سعيد محمد – صحيفية الأخبار اللبنانية

لقد تحولت «فرنسا الأخرى»، كما يقول جورج باكر، تلك الضواحي والإسكانات ذات الطراز المعماري «الحديث» التي كانت حلماً اشتراكياً طوباوياً للمعماري التقدمي لي – كوربوزييه، إلى معازل لإعادة إنتاج الفقر، واليأس، والخزعبلات الدينية. هي نذر حرب أهلية مؤجلة منذ ١٧ أكتوبر ١٩٦١.

لم يكن الهجوم الإرهابي الدّامي بشاحنة في عاصمة الريفيرا الفرنسيّة، نيس، حدثاً مفاجئاً أو غير متوقع من ناحية التوقيت. المفاجأة الوحيدة، ربما كانت في شكل الهجوم، لا في محتواه إذ أنّ السلطات الفرنسية والخبراء بالشأن الفرنسي، والإرهاب المعاصر كانوا دائماً يتوقعون حدوث شيء ما، ويعرفون دون شك أن مخبولاً آخر أو – مجموعة مخبولين – من شمال أفريقيا بالتحديد – سيقدمون في وقت قريب على ارتكاب جريمة الهجوم الإرهابي التالي، مستهدفين إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا، بينما هم يتحدثون بفرنسية طليقة عن مظالم فرنسا ضد المسلمين و«الدولة الإسلامية»!
وباستثناء هجمات بروكسل – التي هي على مستوى معيّن ثقافياً واجتماعياً أشبه بمحافظة فرنسية أخرى – فإنّ الهجمات الإرهابية الكبرى تبدو وكأنها تخصص فرنسي محض. وحتى عندما تحدث الهجمات في مدن أخرى، مثل لندن ومدريد، فإن العقول المدبرة – إذا جاز التعبير – والأيدي المنفّذة يغلب عليها لون الشمال الأفريقي- الفرنسي تحديداً.

فما الذي يجعل فرنسا – بلد الأنوار وجمهورية المساواة والعلمانية – ساحة أوروبا الأولى جذباً للإرهاب والإرهابيين؟ هل هم المهاجرون مثلاً؟ فهذه ألمانيا تستوعب أعداداً أكبر بكثير من المهاجرين القادمين من مناطق الحروب في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكنها مع ذلك، لا تشهد أية هجمات واسعة النطاق يمكن أن تصنف إرهاباً؟
هل هو التورط في دعم الحركات والتنظيمات الإسلامية في الشرق الأوسط؟ هذه بريطانيا والولايات المتحدة متورطتان – حد الدعارة العلنية – في إطلاق الجهاد الإسلامي من أفغانستان، منذ السبعينيات وفي الشرق الأوسط كله اليوم، ومع ذلك فإن عدداً محدوداً من الهجمات استهدفتهما (مع ضرورة استثناء هجمات 11 أيلول، بوصفها سياقاً مختلفاً جدّاً عن أي هجمات إرهابية لاحقة)، أقله مقارنة بما يحدث في فرنسا. هل هو التاريخ الاستعماري البغيض يلقي بظلاله على الحاضر دماء بدماء؟ وموتاً غير مستحقٍ بموت غير مستحق؟ ليس تماماً، فهذه بلجيكا، وهولندا، وبريطانيا، وإسبانيا كلها ارتكبت جرائم يندى لها تاريخ البشرية، ولم نسمع عن أية أعمال انتقامية من قبل أبناء تلك الشعوب المقهورة، لا من الكونغو، ولا أندونيسيا، ولا فلسطين، ولا البيرو.

فلماذا فرنسا بالتحديد؟

لقد أجاب جورج باكر، مراسل مجلة «النيويوكر»، في مقالته بعنوان «فرنسا الأخرى»، نشرها في آب الماضي، عن هذه السؤال بتساؤله عن ما إذا كانت ضواحي باريس، وبحكم الاستقطاب الشديد للمجتمع الفرنسي قد تحولت إلى «بيئة حاضنة للإرهاب».
لقد تراكمت التوترات الاجتماعية، والطبقية، والعرقية، التي تعيشها المجموعة المسلمة في فرنسا منذ الانفصال القسري بين فرنسا والجزائر – التي عدت دوماً فرنسا جنوبية لأكثر من مئة عام. يقول باكر «في مدن فرنسا كل أنواع الضواحي، لكن الكلمة التي تصفهما بالفرنسية (banlieues)، أصبحت تعني أكثر (تلك العشوائيات التي يغلب عليها المهاجرون)». وهو كتب أن «داخل هذه الضواحي البائسة، تلك المشاريع السكنية الهائلة التي بنيت بعد الحرب العالمية الثانية على الطراز المعماري المتفق على تسميته بالعمارة الحديثة، من تصميم المعماري اليوتوبي لي – كوربوزييه، والتي كان يجب أن تكون مستقبل المجتمع الاشتراكي وجنة الطبقة العاملة، وهي قد تحوّلت بسبب الفصل الطبقي والثقافي، والعنصري إلى معازل اجتماعية، ومكاره صحية – بالمعنيين الثقافي والمادي كليهما – بالنسبة للمجتمع الفرنسي» (الجملة الاعتراضية هنا من عندي).
لا شك أن تاريخ العلاقة بين مكوني الشعب الفرنسي (كما كان الوضع القانوني بحكم القوة الغاشمة طبعاً بين ١٨٣٠ إلى ١٩٦٢) بقي شديد التمايز والاختلاف بين مجموعة شمالية بيضاء كاثوليكية (متحضرة)، ومجموعة جنوبية سمراء مسلمة (خاضعة لعملية التحضر). وعلى الرغم من التنافر الشديد بين المجموعتين فإنه، وبحكم الجدلية الديالكتيكية، نشأت أجيالٌ جديدة خلقت مستوى ما من التعايش بين المكونين، ساعد فيه انتشار اللغة الفرنسية في الإقليم الجنوبي على حساب العربية، وأيضاً خدمة بعض الجزائريين في الجيش الفرنسي، وبعض مؤسسات الدولة. لكن الطلاق الدامي الذي حدث خلال حرب الثماني سنوات لتحرير الجزائر، وكلّف أكثر من مليون شهيد جزائري، وآلاف القتلى من الفرنسيين أيضاً عنى أن هاتين الهويتين لا يمكن أن تتعايشا سيكولوجياً مرة أخرى.
لكن نقطة الانفصام بين جزائريي الشمال الفرنسي – والفرنسيين حدثت يوم ١٧ تشرين الأول ١٩٦١. في ذلك اليوم، تظاهر الفرنسيون الجزائريون بكثافة، تأييداً لاستقلال الجزائر في باريس المدينة، وفي الضواحي. فتحت الشرطة الفرنسية النار على المتظاهرين العزّل، وبقسوة غير معهودة عادة على البر الفرنسي – وإن كانت شيئاً مألوفاً في مستعمرات فرنسا ما وراء البحار. قتل يومها مئتا متظاهر على الأقل، وألقيت الجثث من فوق الجسور في نهر السين الجميل – الحزين.
بقيت فرنسا الرسمية تنكر تلك الحادثة لأربعين عاماً وتتجاهلها بشدّة، لكن الشباب العاطل من العمل في العشوائيات الباريسية، يكرّر سرد قصة ذلك اليوم، وتفاصيلها الدقيقة كما سمعوها ممن عاشها، وكأنها الأسطورة المؤسسة للهوية الجزائرية.
المراهقون الفرنسيون من أصل جزائري يعيشون في عشوائيات باريس – التي لا يدخل معظمها البوليس – واقعاً شديد السوريالية، تتداخل فيه تأثيرات العولمة الطاغية مع الفقر، والبطالة، والدونية، والمخدرات، والعاهرات، والعصابات، والأسلحة الفردية، والإنترنت، ونتف التاريخ الدموي، وخزعبلات الدين المجتزأة، ومقاطع من لغة لم تعد حتى عربية سليمة، وتتقاطع مع أزمة هويات خانقة.
انعدام الأفق الاقتصادي، وانغلاق فرص الصعود الاجتماعي، يجعلان من هذا الخليط كلّه مجرد مشروع انفجار مؤجل. والإرهابيون الذين ينطلقون في مهمات انتحارية باسم الإسلام، هم في عيون شباب العشوائيات – وإن أخفوا ذلك أمام أصدقاء غير جزائريين – أبطالٌ شجعان تمرّدوا على الظلم، ويستحقون الإعجاب.
من هذه المعازل أيها السادة يخرج «الدواعش» الأوروبيون – ومن ضياع مثيلٍ ربما خرج بقية «دواعش» العالم. ما أسهل مهمة رجال الاستخبارات إذن في تجنيد هؤلاء لخدمة أهداف الإمبراطورية الرأسمالية المعولمة. الماضي، كما يتعلم الفرنسيون اليوم من دمائهم، لا يمكن دفنه مع جثث القتلى. الماضي يشكّل الحاضر، والأخطر من ذلك كله أنه قد يتحكم بالمستقبل. دماء المليون شهيد تحوّلت لعنة على فرنسا، وإن لم يجد الفرنسيون سُلطة أوعى من جماعة الاشتراكي المزوّر هولاند بسرعة، تعيد النظر في الشرخ الحاصل في المجتمع الفرنسي وتكسره بطريقة أو بأخرى، فإن شكلاً جديداً من الحرب الأهلية بين باريس الشانزليزية، وباريس العشوائيات سيندلع لا محالة، وقوده الحقد الطبقي والعرقي المتبادل، وسيرة الدماء التي لا تجف.
ماذا بشأن الحادث الإرهابي الضخم القادم إذن؟ بالتأكيد في فرنسا، في وقت قريب. إلا إذا اشتعلت الحرب الأهلية قبل ذلك بقليل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.