هكذا تعاقب روسيا الغرب: الدب يأكل أينما كان

potin - russia

تطال العقوبات الغربية على روسيا مجالات متنوعة: من الرساميل وصولاً إلى تكنولوجيا التطوير العسكري والنفطي. الدفعة الأخيرة منها تحديداً تُعدّ «القرصة» الأكثر إيلاماً للكرملين، حتى الآن. ولكن لنظام فلاديمير بوتين أسلحته الناعمة الخاصّة، وهو أساساً لا يُمكن أن يتحمّل أن تلوي العقوبات ذراعه وتردّه عن خياراته الاستراتيجية.

قبل ربع قرن كانت روسيا تستورد أكثر من 40 في المئة من صادرات الولايات المتحدة من الدجاج. اليوم، ورغم أن تلك النسبة تراجعت إلى 7 في المئة، إلا أنّ المعايير التي فرضها «المعسكر الشرقي» سابقاً على كيفية توضيب وتسويق هذا المنتج تبقى هي السائدة.

كجزء من الردّ الروسي على العقوبات الجديدة التي فرضها الغرب، بعد إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية في رحلة MH17 من الأجواء الأوكرانية وتوجيه اللوم الى الروس، كان الدجاج في قائمة المنتجات الغذائية التي ارتأت موسكو معاقبتها، معتمدة في قرارها على فحوص مخبرية في منشآت رسمية، عملت كخلايا نحل خلال الفترة الماضية للتوصل إلى نتائج تُبين أن اللحم المستورد لا يحترم المعايير الصحية.

لا شكّ في أن الدجاج تماماً كالسلع الغذائية الأخرى التي سيشملها نوع من الحظر أو التلويح بفرضه، لم يخرج بين ليلة وضحاها عن هامش السلامة، كما نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مجلس صادرات الدجاج والبيض الأميركي، الذي قال رئيسه جايمس سامر، إنها «مفاجأة أن نتعرض في هذه اللحظة لهذا التدقيق المعمّق، خصوصاً أننا نتمتع بتاريخ طويل وجيد في التعامل مع المسؤولين الروس».

ولكن لا داعي للصدمة. فهذا التدقيق ـــ بغض النظر عن أهميته في الرقابة على الغذاء المستورد في أي بلد ــــ يأتي كرد واضح على الإجراءات الأميركية الجديدة في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، كجزء من سياسة احتواء نفوذها في شرق أوكرانيا.

خلال الفترة الماضية، ركّزت السلطات الروسية على منتجات غذائية عديدة في إطار سياسة الرد على العقوبات الغربية. وفي حالة الولايات المتّحدة، تعود القضية إلى عام 2010 حين جرى الضغط على سلسلة مطاعم McDonalds؛ أما اليوم، فتشمل الحملة هذا المطعم ورديفيه Burger King وKFC.

أما في الحالة الأوروبية، فالمجال أوسع بالنسبة للسلطات الروسية، إذ أن البلاد تستورد ربع احتياجاتها الغذائية من البلدان الأوروبية الجارة. فمن القمح والشوكولا وصولاً إلى الفواكه، لا يسلم شيء من الرقابة؛ ويبدو أن هذا النمط إلى تزايد.

وعلى خط مواز، أقرّت الدول الغربية، منذ أسابيع، عقوبات جديدة على روسيا تشمل الحظر على المنتجات التكنولوجية الضرورية لتطوير حقول النفط والغاز والصناعات العسكرية، إضافة إلى الحد من الولوج إلى الأسواق المالية، ما يكبّل المصارف العامة، التي يُقدّر أنها تحمل سندات بقيمة 15 مليار دولار بالعملات الغربية، تستحق خلال السنوات الثلاثة المقبلة.
صحيح أن العقوبات لم تشمل المصرف الروسي الأول الذي يُعدّ شريان حياة الاقتصاد الروسي Sberbank – في إطار إستراتيجية عدم استهلاك الخطوات كلّها دفعة واحدة ـــ إلّا أنها تُعدّ «قرصة» جديدة لنظام الرئيس فلاديمير بوتين.

ولكن هل العقوبات كافية لإخضاع هذا الرئيس مباشرة أو عبر مراكمة الضغط المحلي على حكمه؟

بداية لا بد من التأكيد أن المسار الذي اتخذه بوتين في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، هو قضية وجود وليس حدود مع الجارة الغربية اللدود. التحليل السليم يفترض أن المستقبل السياسي لهذا الرئيس ــــ بصفته حامي عنفوان البلد الشرقي الناهض من حضيض انهيار الاتحاد السوفياتي ــــ يرتبط مباشرة بالموقف الصلب الذي يحافظ عليه إزاء القضية الأوكرانية: بعد ضم القرم يبقى فرض ستاتيكو بشأن دونيتسك والمناطق الشرقية الأخرى، التي تشهد مواجهات متقطعة بين الانفصالين المدعومين روسياً وبين الجيش الأوكراني.

سياسة فلاديمير بوتين والمعطيات العامّة التي سادت وتسود حكمه، تؤمن له هذه الهالة الوطنية؛ ففي حال فقد الهالة وخضع لمطالب الغرب فقد كل شيء.

ولكن لندع هذا المسوّغ الأصلي لممانعة الكرملين جانباً. هناك مجموعة من المعطيات التي تؤمّن لروسيا الهامش اللازم لمقاومة العقوبات. أولها الاعتماد على الخلافات بين البلدان الغربية نفسها. فالمعروف أن طبيعة العلاقات المختلفة بين البلدان الأوروبية والجار الشرقي تفرض على دبلوماسية كل بلد استراتجية خاصة بالتعاطي. خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، تساءل بعض الدبلوماسيين، بحسب ما نقلت عنه صحيفة «وول ستريت جورنال»، عن وجود دبابات جديدة من طراز T-64s في شوارع دونتسك الانفصالية؛ روسيا تبعث تلك الآليات المجددة عبر الحدود «رغم التزامها السلام ووقف إطلاق النار»، وفق ما تقول الحجّة الأوروبية.

الحظر العسكري على روسيا ضروري إذاً، ولكنه مع ذلك لا يشمل العقود القائمة ومنها عقد بقيمة 1.6 مليار دولار مع فرنسا لاستيراد سفن مقاتلة من طراز Mistral. تماماً كما قطاع الطاقة، حيث يشمل الحظر النفط وليس الغاز!

وقد لوحظ أخيراً التحفّظ الهولندي الواضح على لوم السلطات الروسية في إسقاط الطائرة، التي كان معظم ركابها هولنديين. وذلك بعدما كانت ألمانيا قد تحفظت أكثر من مرّة على عقاب روسيا.

فعلياً، وفي مقابل اعتماد روسيا على البلدان الأوروبية لتأمين 25 في المئة من غذائها، تعتمد بلدان أوروبا على روسيا لتأمين أكثر من خمس احتياجاتها من الغاز الطبيعي؛ الفارق هو أنه لا بديل عملياً للقارة العجوز عن الدب الشرقي في إشباع حاجاتها للغاز. أما الدب الشرقي، فيستطيع تأمين غذائه من عدد كبير من البلدان الأخرى، بدءاً من أميركا اللاتينية وصولاً إلى الشرق الأوسط.

بيد أنّ الضغط على بلد ما عبر العقوبات الاقتصادية، يتم فعلياً عبر مراكمة الضغوط المحلية التي يواجهها، وهي مسألة كان يعوّل عليها الغرب، خلال سنوات طويلة قبل العقوبات الأخيرة عبر منظمات المجتمع المدني والأصوات المنادية بالديموقراطية. أما وقد تم احتواء الحراك المدني، يبقى اللعب على وتر الرأسماليين ورجال الأعمال. هل يُمكن للعقوبات أن تجعلهم ينقلبون على الكرملين؟

هنا أيضاً تبدو الأمور معقدة للغرب، فمعظم رجال الأعمال الروس مقربون من الحكم، في إطار جوقة الإدارة الاقتصادية القائمة. والأهم هو أنهم يعتمدون على الدعم الرسمي حالياً أكثر من أي وقت مضى، في ظلّ العقوبات الجديدة وبعد العقوبات الأخيرة حين أعرب المصرف المركزي الروسي عن استعداده دعم المؤسسات المالية الروسية التي تستهدفها العقوبات.

جميع هذه المعطيات لا تنفي قدرة العقوبات على إيذاء الاقتصاد الروسي المنهك أساساً، وإن كان يستطيع تأمين العملات الصعبة والتكنولوجيا المطلوبة من حلفاء كالصين، في مقابل خدمات تفضيلية. غير أنها تؤكّد في الوقت نفسه، أن النظام الروسي سيحيا لأيام كثيرة أخرى فخياراته الإستراتيجية لا يحدّها إفلاس مصرف أو اثنين، وأسلحته تتعدى الحظر على الدجاج واجتياح أوكرانيا!

الجميع يعي ذلك، وهذا جزء من اللعبة المستمرة لفرض النفوذ في العالم.

حسن شقراني – صحيفة الأخبار اللبنانية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.