#إسرائيل في عالم جديد: تفاؤل التسعينيات، والدفاع عن الذات في العصر الراهن

254456f8-4566-4a66-ba10-04d307330345

لقد جرت في القرن الماضي ثلاث حروب أدت إلى تغيير شامل. الحربان العالميتان الأولى والثانية والحرب الباردة. وعلى الرغم من أن القرن الحالي لا يزال في بدايته، فإنه ستتم الإشارة إليه، على ما يبدو، بالهجمات الإرهابية التي حصلت في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر والتي كانت محدودة من حيث حجم الدمار وعدد القتلى وسيل الأحداث والتغييرات التي حدثت من بعدها، على أنه حول العالم إلى مكان مختلف، وإلى درجة كبيرة، أكثر خطورة بكثير.

لقد أدى انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، في بداية تسعينيات القرن العشرين، إلى عصر من التفاؤل في العلاقات الدولية. وكان يخيل أن رؤية الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكو ياما حول نهاية التاريخ قد تحققت وأن التاريخ الإنساني، الذي اتسم في الماضي بالصراعات بين الأيديولوجيات ونظم الحكم المختلفة، قد وصل إلى نهايته فعلاً. ومنذ تلك اللحظة، وما بعد، ادعى أصحاب هذا النهج أننا سنعيش في عالم تكون فيه الكلمة الفصل، في مختلف أصقاعه، للديمقراطية الليبرالية بدون أن تواجه تحديات أيديولوجية أخرى.
ومع الدخول إلى القرن الحادي عشر، في الألفية الثالثة، أدت الأحداث الإرهابية التي جرت في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 إلى تلاشي هذه التوقعات المتفائلة. وظهر دفعة واحدة أن نظرية “صدام الحضارات”، التي تتعارض مع نظرية نهاية التاريخ، لصاحبها البروفيسور الأميركي في العلوم السياسية صموئيل هنتنغتون، والتي تتبنى رؤية تشاؤمية حول الصراع بين الحضارات، هي المناسبة أكثر لتحليل الساحة العالمية.
وعليه، وقبل أن يتلاشى غبار برجي التجارة المنهارين غيرت السياسة الخارجية الأميركية سلوكها بشكل حاد وبدأت بالعمل على ضوء مبادئ المحافظين الجدد. وهذه الرؤية في موضوع استخدام القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية، بهدف نشر النظم الليبرالية الديمقراطية التي تحمي حقوق الإنسان كوسيلة لنشر السلام في العالم، جرى تطبيقها أخيراً على يد الرئيس بوش الابن في حربين خاضهما الجيش الأمريكي بعيداً عن أرض الوطن – في أفغانستان عام 2001، وفي العراق عام 2003.
وقد كان لحربي أفغانستان والعراق أثران إقليميان هامان. الأول، هو أنهما أديتا إلى انهيار ميزان القوى في الخليج الفارسي وصعود مكانة إيران الإقليمية، التي استفادت من حالة الفوضى: لقد كانت هذه واشنطن التي قضت التهديد الأيديولوجي الذي مورس على نظام الآية الله من الشرق من قبل نظام طالبان في أفغانستان، وبعد ذلك أزالت التهديد العسكري القائم على إيران من جهة الغرب من قبل نظام صدام حسين في العراق. وبذلك، عن طريق إلغاء قوة خصومها السابقين، وبدون امتلاك قوة عسكرية جديدة، استطاعت إيران الارتقاء إلى مكانة إقليمية قوية ومهدِّدة. ونتيجة ذلك، إلى تعزيز العداء التاريخي بين السنة والشيعة.
تأثير آخر، لا يقل أهمية عن ذلك، كان “الانفجار” الديمقراطي الذي تطلع الرئيس بوش الابن إلى إطلاقه في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، والذي انطلق أخيراً بعد انتهاء ولايته، والذي تطور في اتجاهات مخالفة لما كان مخططاً له.
العدل التاريخي

لقد بعث انتخاب أوباما للرئاسة في كانون الثاني / يناير 2009 الروح لدى محبي السلام والحرية في العالم. وقد تحدث “خطاب القاهرة” الذي ألقاه أوباما في حزيران / يونيو من العام نفسه عن الحاجة إلى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي – الإسلامي. وعبر “الربيع العربي”، الذي انطلق بعد حوالي عام من ذلك، عن تطلع الكثيرين من مواطني المنطقة لتغيير النظم القمعية بنظم حكم أكثر انفتاحاً وأكثر ليبرالية.
التحول السياسي الذي طرأ عند الرئيس أوباما وامتناعه عن التدخل العسكري في الشرق الأوسط، أديا بدرجة كبيرة إلى تدهور “الربيع العربي” وتحوله إلى أزمة إقليمية صعبة، والتي بدلاً من أن تؤدي إلى التغيير المأمول لـ”نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان”، أدت إلى نتائج سلبية كثيرة. فقد تخلى أوباما عن الحليف المصري الرئيس حسني مبارك، ونتيجة لذلك دخلت مصر في مرحلة من الفوضى شهدت انقلابين. كذلك أدت عمليات الولايات المتحدة الأمريكية والغرب في ليبيا في نهاية المطاف إلى سقوط نظام القذافي وتفكيك الدولة. وفي أعقاب الحرب الأهلية تحولت سورية إلى دولة فاشلة بدون نظام فعال، والتي تنشط فيها الكثير من القوى المتطرفة – مثل الدولة الإسلامية وجماعات الثوار المسلحين ومقاتلي حزب الله – إلى جانب قوى عظمى إقليمية وعالمية – بما في ذلك تركيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية، وروسية على وجه الخصوص.
لقد تسببت الحرب في سوريا بأزمة إنسانية من أصعب الأزمات في العصر الحديث، والتي أدت إلى وفاة أكثر من نصف مليون شخص. وساهمت سياسية “أجلس ولا تعمل” التي اتبعها الرئيس أوباما، والتي لم تتغير أيضاً بعد استخدام الأسد للسلاح الكيميائي، ساهمت كثيراً في موجة اللاجئيين التي تضرب الدول الأوروبية. ويمكن لهذه النتيجة المفارَقة أن تفسَّر على أنها نوع من الظهور غير المقصود لـ “العدل التاريخي”: ذلك أن أوروبا نفسها، التي انسحبت من الشرق الأوسط في نهاية الحرب العالمية الثانية بعد عقود من الاستغلال الاقتصادي للمنطقة ولسكانها، تجد نفسها مضطرة اليوم لاستقبال أحفاد من كانت تحكمهم بين ظهرانيها.
لقد أدت أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر إلى توسيع التغلغل الأمريكي في الشرق الأوسط، وإلى تقويض ميزان القوى الإقليمي واندلاع “الربيع العربي”. إلا أن تداعيات الهجمات الإرهابية لم تقتصر على أرجاء الشرق الأوسط. ويبدو أن محاولة نشر الديمقراطية الليبرالية في العالم العربي – الإسلامي ليس فقط لم تنجح، بل تمكن الإشارة إليها، إلى درجة كبيرة، كأحد العوامل الرئيسية التي أدت في نهاية المطاف إلى تراجع تلك القيم في العالم العربي نفسه.
إن “الشتاء الغربي” الذي يتطور في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، الغني والديمقراطي والحر في غالبيته، يمتاز بحركة ليبرالية شاملة تنزلق باتجاه اليمين الفاشي واليسار المناهض للعولمة. وتتسبب الضائقة التي تعاني منها الديمقراطية الليبرالية الغربية إلى تقويض النظام القائم على النحو الذي ظهر عليه من خلال ظهور قوى اليمين والأحزاب التي تكره الأجانب في أوروبا، وإلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد تجاوز رَجْع هذا الانفجار المحيط الأطلسي باتجاه الولايات المتحدة الأميركية، فهو يجد تعبيراً عنه في الصراعات المشبعة بالكراهية بين القوى النازية في انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية.
قوة شبكات التواصل الاجتماعي

ومن أجل استكمال الصورة فإنه من المناسب التركيز على متغيرين هامين آخَرَيْن على الساحة الدولية. الأول هو ازدياد أهمية اللاعبين الذين لا يرقون إلى مستوى الدولة على الساحة الدولية مثل المنظمات الإرهابية من نمط تنظيم القاعدة الذي قام بتنفيذ هجوم الحادي عشر من أيلول / سبتمبر بكل ما كان له من تداعيات، والدولة الإسلامية ونموذج ما قبل الدولة الذي أقامته، والمعتمد على الشريعة. وكذلك الأفراد مثل جوليان اسانج مؤسس موقع تسريب المعلومات “ويكيليكس”، والذي أدت المعلومات التي سربها إلى توتر في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الكثير من الدول الصديقة لها. وكذلك ادوارد سنودن، الذي سرب المعلومات السرية حول برامج الملاحقة الخاصة بوكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية والتي أثرت على مختلف التطورات في السياسة الخارجية الأمريكية، ومؤخراً، في السياسة الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
التغيير الثاني الهام هو الانتقال من وسائل الإعلام التقليدية، البطيئة والخاضعة للرقابة، إلى الإعلام الجديد، السريع والمفتوح للجميع. وقد أثبتت أحداث “الربيع العربي” في المنطقة أن الشبكات الاجتماعية تمتلك القدرة على ربط الكثير من القطاعات بالثورة وبالمظاهرات، وحتى التسبب في سقوط الأنظمة. وقد كشفت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا أنه بوسع الأنظمة أيضاً أن تستخدم شبكات التواصل الاجتماعي من أجل الحفاظ على الحكم، ومن ذلك على سبيل المثال أن الرئيس اردوغان استطاع أن يجند الجماهير للدفاع عن النظام عن طريق بث فيديو قصير في زمن حقيقي.
والعودة إلى الشرق الأوسط تعلمنا أن المنطقة، التي أديرت خلال القرن الأخير في ظل اتفاقيات سايكس بيكو وعلى قاعدة مبادئ الدول القومية الأوروبية التي ظهرت بعد التوقيع على صلح وستفاليا عام 1648، تضم اليوم الكثير من المناطق التي لا حكم فيها – مثلما هو الحال في سورية والعراق، وليبيا وسيناء، حيث تم استبدال أجهزة الدولة المفروضة بأجهزة ما دون الدولة أو اللا دولة التي تشارك في حكمها العصابات والإرهاب الفظيع ضد المدنيين.
لقد جرت في القرن الماضي ثلاث حروب أدت إلى تغيير شامل – الحربان العالميتان الأولى والثانية والحرب الباردة. وعلى الرغم من أن القرن الحالي لا يزال في بدايته، فإنه ستتم الإشارة إليه، على ما يبدو، بالهجمات الإرهابية التي حصلت في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر والتي كانت محدودة من حيث حجم الدمار وعدد القتلى وسيل الأحداث والتغييرات التي حدثت من بعدها، على أنه حول العالم إلى مكان مختلف، وإلى درجة كبيرة، أكثر خطورة بكثير.
إن على دولة إسرائيل، التي تقع في إحدى المناطق الأكثر اضطراباً وتحدياً في العالم، أن تحسب خطواتها بحكمة بالغة. وعليها أن تنظر إلى الساحة العالمية بنظرة تاريخية شاملة، ترى من خلالها المتغيرات بعيدة المدى والتي من شأنها أن تؤثر على أمنها القومي. وبعد ذلك ستضطر القدس إلى تكييف نفسها مع الواقع الجديد والعمل في ضوئه.

المصدر: الميادين نت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.