اقتصاد إيران: الفرصة الموعودة

Iran's economy

صحيفة السفير اللبنانية ـ

يسار ناصر:

على وقع التقدم السياسي الحاصل بين إيــران والدول العربية (أميركــا أولهــا) واستشــرافاً للمســتقبل السياسي والاقتصادي القادم على منطقتنا، أصبح ضرورياً مراجعة وضع إيران الاقتصادي ومدى تأثير أي تحسن سياسي على وضعها في المستقبل القريب.

بالرغم من أن تاريخ إيران السياسي والاقتصادي غني جداً، فإن قراءتنا ستبدأ من عهد الشاه القريب حين ابتدأ عصر نمو العائدات النفطية. كان من المفروض أن يصحب هذه العائدات استثمار في البنى التحتية ووضع المدماك الحقيقي لاقتصاد عصري حديث، وهو ما لم يحدث خلال حكم الشاه بحيث إن عدد السكان نما ولكن الاقتصاد القابل لحضنهم ورعايتهم لم يتطور. ومما لا شك فيه أن هذا الوضع كان من الاسباب الاساسية في حدوث الثورة الإسلامية في إيران ونجاحها.

الاقتصاد الإيراني حالياً هو من أكــبر 20 اقتصــاداً عالمياً (بالرغم من عــدم تمثــيل إيــران في مجموعة الدول العشرين لأســباب سياسية) مع ناتــج قومــي يناهـز الـ500 مليــار دولار. وبالرغــم مــن سيطــرة القطاع العام على حــوالي 50 في المئــة من حجــم الاقتصاد الكلي، فإنه يتميز بحيوية القطاعات الاقتصادية بدليل عدد الشركات المدرجة في البورصة الإيرانية.

اكتفاء ذاتي

تعتبر إيران من الدول القادرة على الاكتفاء الذاتي من ناحية الزراعة، الأمن الغذائي، الصناعة المحلية وتطوير وسائل الإنتاج. دينها العام لا يمثل أكثر من 16 في المئة من ناتجها القومي وهو ما يؤكد قدرتها على الاعتماد على السوق الداخلي للإنتاج والتصريف من ناحية الحاجات الأساسية.

بات مؤكداً أن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران خلال السنوات الماضية أثرت كثيراً على قدرة إيران على النمو المستدام، كما أثرت على قدرتها على تصدير النفط والصناعات المختلفة. ولكن هذه العقوبات كانت حسب الدراسات الغربية تحديداً دافعاً للإنتاج المحلي والاعتماد على القدرات الذاتية لملء فراغ السوق.

هذه العقوبات أيضاً وضعت قطاعات إيرانية كثيرة بموضع صعب؛ لعدم قدرة إيران على شراء طائرات حديثة أو صيانة الطائرات الموجودة لديها، ما أدى بالقطاع الجوي الإيراني إلى التراجع، بالرغم من وجود سوق سفر كبير، وإعداد المواطنين الإيرانيين المنتشرين في العالم. يمكن أيضاً رؤية المشاكل نفسها في قطاعات خدماتية أخرى كالقطاع المصرفي الذي يعاني من عدم قدرة على التكامل مع المؤسسات المصرفية العالمية أو إعطاء مستوى عال من الخدمات المتنوعة للزبائن.

أما القطاع الأكثر تضرراً بالعقوبات فهو بلا شك القطاع النفطي، حيث إن مداخيل إيران النفــطية، تأثرت كثيراً خــلال الســنوات القليــلة الماضــية، من حيث كمية المبيع التي تراجعت إلى أقل من مليون برميل يومياً. وقد تأثرت الأسعار بكلفة الشحن والتأمين العالية نتيجة العقوبات، ولكــن أيضــاً مــن حيث الاستثمار في القطاع ككل، لزيادة الإنتاج وتصريفه.

أما أكبر المشاكل المالية التي تواجه إيران فهي مشكلة سعر الصرف وقدرة السوق على الحصول على حاجته من العملة الصعبة والتضخم المالي الناتج من هذه العوامل.

ماذا يمكن أن نستخلص كنتيجة إذا تم إعادة وصل العلاقات الإيرانية مع الغرب وتطورها؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نتعرف إن كان للغرب مصلحة اقتصادية مباشرة في هذا المجال.

سوق استهلاك كبير

السوق الإيراني هو سوق واعد جداً حيث إن عدد السكان يتخطى الـ70 مليون نسمة أكثرهم من الشباب الحاصل على التعليم الثانوي على الأقل. هذا الشباب هو طاقة كامنة للإنتاج وأيضاً سوق استهلاكية واعدة جداً لكل المنتجات المحلية والعالمية. من الناحية الديموغرافية (وكما نرى في كل البلدان النامية)، فإن درجة التحصيل الاقتصادي مرتبطة مباشرة بالحاجة إلى شراء منتجات فاخرة، أو ذات قيمة أعلى (وهي على أكثريتها قادمة من الدول الغنية)، فالقدرة الغربية على الاستفادة التكاملية في السوق الإيراني كبيرة: إذا استثمرت أكثر في مصانع ووسائل إنتاج في إيران، فسيكون هناك يد عاملة رخيصة نسبياً (ولكن متعلمة وقادرة) على الإنتاج العالي الجودة للتصريف المحلي والعالمي، وأيضاً وجود كتلة استهلاكية جديدة بحاجة إلى كماليات أكثر (مع ما يعنيه هذا من إنتاج أكثر للمصانع الأوروبية والأميركية).

هذا من ناحية، أما القطاعات الاقتصادية الأخرى التي تأثرت مباشرة بالعقوبات، فالحاجة إلى تحديثها عالية جداً، فقطاع الطيران المدني مثلاً بحاجة الى تجديد أسطوله وهذا يخلق فرص عمل جديدة في الدول المصنعة والبائعة للطائرات، وهو ما يمكن أيضاً ذكره لقطاعات النفط والنقل والخدمات عامة.

ولكن الأهم، أن إيران هي من البلدان التي تستثمر كثيرا في القطاع العلمي (حلت أولى في إحدى الإحصائيات الغربية من حيث التقدم العلمي في البلدان النامية)، وهنا يمكنها أن تنافس على المستوى العالمي على المدى المقبل.
يمكن الوصول لخلاصة، أنه من حيث المبدأ هناك مجال، إذا أخذ القرار السياسي، فإن التقارب له فائدة اقتصادية مباشرة.

فمن المؤكد أن إيران بحاجة إلى التعاون الغربي لرفع العقوبات، وخلق دائرة نمو اقتصادي جديدة، وهي بحاجة إليها، ولكن ما هو مدى التكامل الاقتصادي الممكن بين إيران والدول التي تعتبرها حتى الآن عدواً؟

الصين أولاً..

ممكن لإيران أن تتكامل اقتصادياً مع دول «البريكس» بدل أن تتعاون مباشرة مع الدول الغربية، فالشريك الاقتصادي الأكبر لإيران هو الصين وتأتي بعدها الهند؛ هذان البلدان العضوان في مجموعة «البريكس» يمثلان حوالي 34 في المئة من كامل التجارة الخارجية لإيران، من هنا يصبح خيار التكامل مع دول «البريكس» إمكانية حقيقية.

يمكن لإيران أيضاً أن تحذو حذو الصين من حيث التعامل الاقتصادي والانفتاح المبرمج والمحسوب الخطى، وهو ليس غريباً على إيران، فبعد الثورة كان 50 في المئة من الاقتصاد يخضع للتوجيه المركزي وفق الخطة المرسومة من قبل الحكومة. وهنا أيضاً يمكن لإيران أن تبني معرفتها بالاشتراك مع الدول الغربية بحيث إن كل مؤسسة راغبة بالإنتاج الاقتصادي تشارك إيران بالقدرة المعرفية (Expertise and Know-how) معها.

هذه هي الخيارات، بما أن المنطق قد لا يقبل أن تصبح إيران دولة استهلاكية بحتة للمنتجات الغربية من دون مشاركة في أسس الإنتاج والقدرة الاقتصادية.

الكلام الحقيقي الآن هو الكلام السياسي، فإذا رأينا تطوراً في المفاوضات القائمة تجاه حل يرضي الجميع، فإن ما ذكر هنا يصبح قابلاً للمناقشة والحياة؛ أما إذا استمر الكلام التصعيدي والتهديد الحربي والاقتصادي قائماً، فإن الاقتصاد الإيراني سيستمر بالنهج القائم حالياً من البناء الداخلي والاكتفاء الذاتي لمواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه.

هل ينجح الدهاء الفارسي في اقتناص الفرصة؟

وهل نرى هذا الرأي يترجم على الساحتين السياسية والاقتصادية؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.