التغيير الديموغرافي في سورية .. فتّش عن المشروع التركي

رغم أن الميليشيات الموجودة على الأرض السورية منذ 2012 لم تقلها مرة واحدة، فقد دأب “المثقفون” الذين دعموا “الثورة” على التأكيد أن “النظام السوري” يقوم بـ”تغيير الديموغرافية” في سورية. تأكيداً تصاعدت لهجته في كل مرة تصل بها منطقة تحتلها تلك الميليشيات إلى طريق مسدود وتضطر فيها إلى الاختيار بين الموت والاستسلام والرحيل، فتفضل الرحيل.

بدأ ذلك مع تحرير “بابا عمرو” في حمص، والتي لم يكن قد بقي فيها سوى حملة السلاح وقلة قليلة من المدنيين هم ذوو أولئك المسلحين. ومن ثم تكرر في المليحة وحرستا ودوما في ريف دمشق.

وفي كل هذه المحطات لعبت الدولة السورية دورها المتوقع: التأكيد على حفظ حقوق الملكيات العقارية كما هي، حتى عندما كانت الميليشيات تقوم بحرق أو تدمير الوثائق التي تصون تلك الحقوق في المناطق التي تحتلها.

وهذا يعني أن أحداً لن يستطيع أن ينتزع تلك الملكيات لمينحها لشخص أو مجموعة أخرى، حتى وإن تأخر أصحابها في العودة إليها بسبب استمرار الحرب وتأخر “إعادة الإعمار”.

مع ذلك، هناك واقع أن تغيرات ديموغرافية حدثت خلال السنوات الماضية، بعضها مؤقت، وبعضها قد يكون دائماً.

وهذه التغيرات الديموغرافية تستند إلى “جذرين”: الأول ديني/طائفي، والثاني قومي/إثني.

فجميع المسيحيين الذين كانوا في دوما وحرستا جرى تهجيرهم عندما احتلتهما ميليشيات الإسلام السياسي. كذلك الاغلبية الساحقة من المسيحيين في إدلب. الأمر نفسه جرى مع العلويين والدروز والاسماعيليين والشيعة، بغض النظر عن أعدادهم.

كذلك خرجت أعداد كبيرة من السنة من تلك المناطق هرباً من احتلال الميليشيات لها، ثم خرج البعض مع إرهابيي الميليشيات حين اختارت “الرحيل” بدلاً من الاستسلام للجيش السوري.

وفيما اتجه المسيحيون والعلويين والدروز والاسماعيليين والشيعة، عموماً، إلى مناطق يكثر فيها أبناء دينهم وطائفتهم، توزع السنة في كل مكان بغض النظر عن الدين والطائفة.

أما العرب في المناطق التي اعتبرتها الميليشيات الكردية الإنفصالية مناطق “كردية خالصة” فقد فر الكثير منهم إلى وجهات أخرى. لكن بعضهم بقي في أرضه وبيته. ولم يكن الحال بالشدة نفسها التي شهدها المهجرون من قبل ميليشيات الإسلام السياسي نظراً لحاجة المشروع الإنفصالي الكردي لتأكيد أنه “مشروع دولة” يضم العديد من القوميات والإثنيات والأديان والطوائف.

الأغلبية الساحقة من هؤلاء “النازحين” الذين توجهوا إلى مناطق تسيطر الدولة السورية عليها، يعيشون حياة انتقالية مؤقتة بانتظار عودتهم إلى مدنهم وبلداتهم وبيوتهم. فهم يعيشون في بيوت مستأجرة، ويقومون بأعمال مؤقتة (باستثناء العاملين منهم في قطاعات الحكومة)، ويحتفظون بكل ما يؤكد أنها مرحلة مؤقتة.

ورغم أن بيوت الكثير منهم قد نهبت على أيدي عصابات توالي النظام، فإن ملكيتهم لبيوتهم وأراضيهم ومحلاتهم وورشاتهم لم تُمس ولم تتغير.

كل هذا التغيير الديموغرافي الذي شهدته سورية خلال سنوات الحرب الماضية (نحو 9 سنوات) لا يثير أي “قلق”. ليس فقط لأنه مؤقت (بحكم استمرار حق الملكية)، بل أيضاً لأن كلاً من الحكومة وهؤلاء النازحين يؤكدون إرادتهم في عودتهم إلى ملكياتهم. رغم أن القوانين التي وضعت لتنظيم هذه المناطق تثير الكثير من القلق بسبب عدم مراعاتها أن بعض الملكيات مسجلة أصلاً باسم إرهابيين قتلوا في الحرب وليس لدى ذويهم وثائق ملكية، وبعضها الآخر دمرت وثائقها التي يملكها أصحابها فصار من المتعذر عليهم تقديم تلك الوثائق (أو هي تحتاج إلى وقت طويل لإظهارها، أكثر مما يتيحه القانون رقم 10 لعام 2018).

ولا يغير من هذا الأمر وجود بعض العائلات أو الأشخاص الذين سيختارون بالطبع الوجهات الجديدة التي وصلوا إليها، فهذا “ضمن السياق” الذي قد ينتقل فيه أي شخص أو عائلة من مدينة سورية إلى أخرى.

أما ما يثير القلق فعلاً فهو ذلك المشروع التركي لبناء مستوطنات في الشريط الحدودي الذي تحتله القوات التركية وعملاؤها من ميليشيات الإسلام السياسي.

فهناك الكثير من الأراضي التي تملكها الدولة السورية والتي يمكن للاحتلال التركي أن يقيم المستوطنات عليها، وبالتالي توزيعها على من يريد توطينهم في تلك المنطقة. هذا يعني أن هذه “الملكيات الجديدة” لن تتعارض مع حق الملكية الشخصية “المقدس” في الدستور السوري.

وحتى الملكيات التي يملكها أشخاص ويقوم الاحتلال التركي بالبناء عليها وتوزيع المساكن، سيكون من الصعب جداً إخراجهم منها بعد بضع سنوات، نظراً للكثير من المترتبات القانونية والواقعية التي سيتسبب بها البناء الجديد والتملك الجديد.

وقد يختار الاحتلال التركي ألا “يمنح” تلك المساكن لشاغليها بصفتها “ملكية”، ولكن هذا لن يغير من المشاكل التي ستترتب على ذلك بعد تحرير سورية من الاحتلال التركي ومرتزقته.

المشروع التركي يسعى، علناً، إلى إعادة توطين أكثر من 2 مليون سوري بعضهم في تركيا، وبعضهم الآخر في مناطق أخرى مثل إدلب أو جرابلس. وبالتأكيد بعضهم من الإرهابيين الذين استدعتهم ثورة “الأخوان المسلمين والوهابية” للقتال في صفوفها من بلدان العالم، خاصة من آسيا.

وهذا التوطين له هدف واضح وإن لم يكن معلناً: إقامة شريط حدودي من السوريين الموالين للاحتلال التركي (تماماً كما فعل الصهاينة في جنوب لبنان قبل تحريره في العام 2000)، وتفريغ الشريط من السوريين الأكراد، بما يؤمن حدود تركيا من الانفصاليين الأكراد الذين سبق أن استخدموا الأراضي السورية لشن هجمات ضد الجيش التركي، كما يؤمن له نفوذا حقيقياً سيجعله، حتى حين عودتها إلى السيادة السورية، “بؤرة استيطانية” خاضعة فعلياً للسيطرة التركية.

وفي حال نجاح هذا المشروع، وانتهاء الحرب السورية بمكاسب مهمة لإرهابيين (وهو أمر ليس مستحيلاً لأسباب عدة ليس مكان شرحها هنا)، قد لا يكون مصير هذا “الشريط المحتل” بعيداً عن مصير “لواء اسكندرون” الذي سجل رسمياً في الأمم المتحدة بصفته “أرضاً تركية”، ولم يعد له وجود “سوري” في سورية إلا في بعض الكتب والمحاضرات.

القلق الفعلي من التغيير الديموغرافي هو من الاحتلال التركي ومرتزقته، وهو التغيير الذي سيقلص من مساحة سورية، ربما أكثر مما أراد الإنفصاليون الأكراد أن يقتطعوه.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.