الحريرية السياسية: توزيع الفتات لإلتهام المائدة

rafiq-hariri

موقع إنباء الإخباري ـ يُنشر بالتزامن مع موقع سلاب نيوز الإخباري ـ
حسام مطر*:

رغم مرور8 سنوات على رحيله إلا أننا لا زلنا نستكشف ما إختزنه الرئيس الراحل رفيق الحريري من حنكة وذكاء وقدرة على فهم المجموعات اللبنانية ومهارة في التخطيط وهندسة التغييرات.
فالرجل نادراً ما رسب في حساباته المحلية، وحين فشل أثبت قدرة عالية على النقد الذاتي والتقييم ثم التكيف والبدء ببناء مسارات جديدة نحو أهدافه التي امتلك فطنة التمييز بين الإستراتيجي والتكتيكي منها.
يستدل على ذلك بتجربتين أساسيتين، الأولى فشله في مواجهة المقاومة في 1993 عبر محاولة إرسال الجيش الى الجنوب والثانية اضطراره للخروج من السلطة قبيل انتخابات العام 2000 .
في التجربة الأولى أدرك الحريري إستحالة المواجهة المباشرة مع المقاومة فكانت المساكنة التي كادت أن تنقلب إلى “زواج مؤقت” قبيل مقتله، وفي الثانية أيقن انه لن يتمكن من مواجهة خصومه السياسيين ( لحود – القيادات السنية البارزة) إلا بتحقيق فوز إنتخابي كاسح لا سيما سنياً ، بما يمكّنه من تشكيل كتلة نيابية كبرى تضمن له فرض خياراته الإقتصادية والسياسية.
لطالما إعتقد كثير من الشيعة أن ممثلهم السياسي في السلطة، أي حركة أمل، قد تمكن من أن يكون شريكاً موازياً وكاملاً مع الحريرية فيما يطلق عليه “تحصيل حقوق الطائفة” المهدورة دهراً ، وقد اعتنق الدروز مذهباً مشابهاً فيما يخص الحزب التقدمي الإشتراكي. أما المسيحيون فكانوا في الأغلب الأعم خارج هذه المعادلة وإن طاولت القسمة بعض المحظيين منهم.
لم يتجاوز طموح كل من حركة أمل والحزب التقدمي الإشتراكي في هذه المكاسب إلا الحصول على ما يمكّنهما من إحكام سيطرتهما المذهبية وعزل خصومهم والحد من قدرتهم على الـتأثير داخل البنية المذهبية لكلاهما.
لقد أدرك الرئيس الحريري الطموحات “المحدودة” لشركائه في السلطة، في حين كانت طموحاته هو أبعد من ذلك بكثير. فهو في حين كان يوزع الفتات على الشركاء بما يكفي قوت حساباتهم المذهبية، كان يقوم بالسيطرة الممنهجة والمضطردة على مفاصل الدولة، على عقلها وقلبها ومستقبلها.
كان الحريري متيقناً من قدرته على الإمساك بالطائفة السنية في ظل غياب منافس يعتد به من حيث القدرات المالية أو التنظيمية، كما كان يعرف قوة حاضنتيه الإقليمية والدولية التي كانت ترى فيه مستقبل لبنان المحايد، لبنان الإستجمام والأسواق، لبنان “حب الحياة”.
يبدو ان الحريري كان متأثراُ في بداياته في الحكم عام 1990 بمقولات “نهاية التاريخ” قبل أن يقتله “صراع الحضارات”.
بهذا المعنى كان زعماء الطوائف منشغلون بالسيطرة على الأطراف وضمن القطاعات الإقتصادية التقليدية كالأشغال العامة والصناديق، فيما كان الرئيس الحريري يسيطر على المركز وعلى مراكز الإقتصاد المعولم ، كقطاع المال، الإتصالات وقطاع الخدمات.
لقد كان مشروع الحريرية أبعد بكثير من الطائفة، كان مشروع السيطرة على الدولة اللبنانية بأكملها بل وهندستها وحياكتها بما يجعل تلك السيطرة مشروعاً مستداماً وبنيوياٌ. ففي حين كان ملوك الطوائف يتلهون ويغنمون من الصناديق والتعيينات والصفقات، كان الرئيس الحريري يسيطر على وسط العاصمة “سوليدير” المقدرة قيمتها حالياً ب 100 مليار دولار- وحتى على نفاياتها، يسيطر على المرافق الأساسية في المطار والميدل أيست، على الإتصالات من خلال أوجيرو، على القطاع المصرفي، على الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار ومعها عشرات الصناديق المماثلة التي ترتبط مباشرة برئاسة الحكومة، السيطرة على الإعلام، السيطرة على رئاسة مجلس الوزراء التي لا تخضع لأي نظام داخلي، يسيطر على وزارة المال، يؤثر ويسيطر على قطاعات تربوية واسعة، فاعل في الرياضة، يبسط نفوذه على السياسة الخارجية، ويسيطر على التركيبة الإقتصادية منهجاً ومؤسسات.
إلا أن ما يبرز نبوغ الحريري الأب هو تمكنه من فعل كل ذلك بنعومة وبأقل قدر من الجلبة والضجيج وكثير من الدعاية والآمال، على مثال ” البلد ماشي”. ولعلنا بذلك ندرك أكثر السبب الجوهري لإنزعاج  الحريري الأب من بعض النواب أمثال نجاح واكيم وزاهر الخطيب، فهؤلاء وإن إفتقدوا الـتأثير السياسي الذي يعيق مشروع الحريرية فإنهم قادرون بصخبهم الموضوعي  أن يخلقوا، على الأقل، الشك والريبة حول مشروع الحريري.
كي تنجح الحريرية، كفكرة نيوليبرالية، لا بد أن تشكل حلماً وردياً وأفقاً ينشدّ إليه الطامحون، ورؤية تجعل من المستقبل المزدهر يقيناً لا يقطعه شك، هنا لا مجال للسؤال، للإستفسار، للتوجس، للقلق أو التردد، فالحريرية كلها خير حتى ما فسد منها بإعتباره شر لا بد منه.
وعليه من جملة – بل أهم- ما يجب شكر الرئيس سعد الحريري عليه هو إخراجه كل هذه المنظومة والبنية الصامتة – على شاكلة الخلايا النائمة – بالإضافة الى فرع المعلومات، الى العلن وبأبشع الصور، بل ووضعها في مواجهة باقي اللبنانيين بما فيهم المسيحيين الذين جهد والده في إستمالتهم، كونهم ـ كما كان يتفرض ـ الأقرب الى مشروعه. والشكر موصول لوزرائه، لنوابه – لا سيما الفصحاء منهم– لمستشاريه، للمديرين العامين، لإعلامه وإعلاميه، وللغاضبين له.
كان الحريري الأب يدرك أن تغييراً كالذي يطمح إليه يحتاج الى  التعامل مع عائقين مهمين: الدور السوري والمقاومة. المبدأ الذي إعتمده الحريري في مواجهة كلاهما كان واحداً، المساكنة لحين إنجاز بنية المشروع الداخلية.
فيما يخص الدور السوري، تمكن الحريري من تدجين أهم مسؤولي الملف اللبناني بالمال والصفقات وعلاقاته الخارجية،  أما المقاومة فكان الحريري، بناء على التجربة والملاحظة، يدرك أن الصدام المباشر معها، يعني الفوضى والفراغ، وهما عاملان من شأنهما تهديد كل مشروع الحريري الأب.
وعليه، ما كان الحريري الأب لينساق وراء بوش في فتح البوابة اللبنانية، عبر الصدام مع المقاومة، بهدف إجبار سوريا على إغلاق النافذة العراقية.
أما الحريري الإبن فإختار المسار المعاكس تماماً، أما الطريف اليوم فهو محاولته إستخدام أسلوب والده بتوزيع بعض الفتات على “المسيحيين المستقلين” و”السياديين”  كي يبقى متسلطاً عليهم بالجملة،  أي “المائدة كلها”. ولكنه نسي أن الحنكة لا تورث كالزعامة، لذا يبدو مشهد تياره المتخبط في المطبخ الإنتخابي مثيراً للضحك والشفقة معاً.

* كاتب سياسي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.