الوهَّابيون الجدد

wahabies

صحيفة السفير اللبنانية ـ
نصري الصايغ:
رولان فابيوس من باريس، يطالب بإصلاح مجلس الأمن، وبندر بن سلطان يفرض على الديبلوماسية السعودية الانسحاب من العضوية غير الدائمة في المجلس.
من حق السعودية أن تغضب. من حقها أن تثور أيضاً. الزوج المخدوع يرتكب أكثر من فعل الغضب. يُقدم على الانتقام من غريمه. يخرج عن طوره ويطلِّق هدوءه ويتصرف برعونة وفوضى، وينصِّب نفسه مدافعاً عن الشرف والقيم والمبادئ والأصول.
من حق السعودية أن تغضب، وأن تقرر الانسحاب من المنبر الدولي، والامتناع عن الكلام في الجمعية العامة. من حق السعودية أن ترفض عضوية غير دائمة في مجلس الأمن الدولي، في «محاولة» منها لإعادة «النصاب الأخلاقي» والسياسي، فهذا المجلس فشل في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ووقف عاجزاً أمام المذابح في سوريا، وتهاون في الرد على استعمال على الأسلحة الكيميائية في ريف دمشق، إضافة إلى تلكئه في إلزام إيران بالخضوع إلى موجبات القرارات المانعة لانتشار الأسلحة النووية.
من حق السعودية أن تخرج عن سياسة الصمت والتسري المعهودة، وأن ترفع صوتها احتجاجاً… إنما:
أولا: مجلس الأمن، أعلى سلطة دولية، فشل مراراً ونجح قليلا في الحفاظ على الأمن الدولي بغاية حماية السلام العالمي. لقد كان هذا المجلس، في أحيان كثيرة، شبيهاً بمجلس الحرب الدولي، بمشاركة سعودية طبعاً، وبتبرع يدفع الأكلاف العسكرية والحربية. ولطالما شكا الأمناء العامون من العطالة السياسية، بسبب مواقف الدول العظمى، صاحبة القرار في الحرب والسلم.
ثانيا: أبواب مجلس الأمن الدولي مقفلة أمام القضية الفلسطينية. بل يبدو وكأن إسرائيل قد خطفت المجلس وأوكلت أمر حراسته إلى الولايات المتحدة الأميركية وعدد وازن من دول أوروبا.
فالقضية الفلسطينية اغتالتها وألغتها المجموعة الممسكة بقرار الحل والربط في مجلس الأمن، لا شكوى تقبل، لا تقرير عن مجازر (في جنين وغزة مثلاً) يقرأ. لا دولة مراقبة مقبولة. كل ما يمت إلى فلسطين يجب أن يكون مقره ومآله في «إسرائيل». وحدها المعنية بهذا الملف… والسعودية تعرف جيداً ذلك. و«مبادرة السلام العربية» التي تفتقت عنها العبقرية الديبلوماسية السعودية، قُتلت بعدما أقرت في بيروت، على درج فندق الفينسيا. وما زالت جثتها طريحة الأدراج.
ثالثا: فشل مجلس الأمن في التصدي للأزمة السورية المدمرة. النظام محمي دولياً، وحمايته مدعمة بـ«الفيتو» الروسي و«الفيتو» الصيني، لأسباب باتت معروفة، وإن كانت غير دقيقة. ونظام «الفيتو» وضع في الأساس لحماية مصالح وأمن الدول الكبرى ذات الشأن. لقد لجأت واشنطن مراراً إلى رفع إصبعها اعتراضاً. مارست «حقها» الظالم هذا، ضد الشعوب والأنظمة في القارات الخمس، بهدف تطويعها. وكذلك فعلت روسيا. إنها تحمي نظاماً فاشلاً وديكتاتورياً ومدمراً. لأن حمايته تؤمن لها عدداً من المصالح الاستراتيجية وتحميها من جموح إسلاموي عندها وعلى تخومها.
رابعاً: شكت السعودية من ازدواجية المعايير الدولية. وهذا أمر معروف. السياسات الدولية، من زمان، تعتمد القاعدة الذهبية المربحة: «ازدواجية المعايير». لا سياسة من دون ازدواجية المعايير. والأمثلة التي تضرب، تصيب السعودية في الصميم. فهي ضد ربيع البحرين، ومع عسكر مصر، وضد عسكر سوريا، ومع الحرب التدميرية في بلاد الشام. تدفع المليارات لعسكر مصر، بهدف القضاء على خصومها «الإخوان»، المصابين بجنون «الأخونة»، وتفيض تمويلاً وتسليحاً على المعارضة في سوريا، التي غدت، بعدما كانت بريئة من إثم الدم، مجموعات تكفيرية توازي، وأحياناً تتفوق، على تدميرية النظام. لا يحق للسعودية أن تشكو من ازدواجية المعايير، فهي في هذا الصدد أشبه بالوهابية الماكيافيلية.
ما جاء أعلاه، نوع من الدجل المنطقي. المسألة ليست في هذا السياق أبداً. التمسك بالمبادئ، وفق المناسبات، دليل عجز وضعف. الاعتماد على الوقائع هو الذي يملي المواقف ويفرض التغيرات وينتج موازين قوى جديدة أو تستقر موازين قديمة.
استفاقت السعودية على مشهد غير متوقع، يشبه قصة الزوج المخدوع. لقد استعدت السعودية لوراثة النظام في سوريا، اعتمادا على قرار أميركي بضرب سوريا، عقاباً لنظامها على استعماله الكيميائي ضد شعبه في ريف دمشق. تبلغت السعودية ذلك، واستعدت المعارضة المسلحة للزحف على مواقع النظام. كان ذلك حلم ليلة صيف، تحوّل إلى كابوس. لم يسقط النظام بالضربة العسكرية، بل نجا بالانسحاب من الكيميائي، وليس من الميدان. وخرج الأسد أقوى مما كان، تحتفل به وسائل الإعلام، وتقرظه تصريحات أميركية متفرقة.
وكالزوج المخدوع، انتفضت السعودية، وقررت العناد. استعدت السعودية أيضاً، لتكون رأس حربة في مشروع مواجهة ايران النووية، في سوريا والعراق ولبنان. واطمأنت السعودية إلى أن سقوط النظام الحليف لإيران في سوريا سيمهد لتعامل أشد وأقسى وأكثر حسماً مع غريمها «الفارسي المتشيّع». ولكنها استيقظت على استقبال نيويورك لروحاني ومعاملته كأنه رجل المرحلة، إقليميا ودولياً، وبيده بعض من مفاتيح الحل. اتصال أوباما بروحاني وتبادل الكلام الودي معه، أنتج لقاءات إيجابية، دفعت السعودية إلى التطرف وما يشبه «الجنون». كالزوج المخدوع تماماً.
قررت السعودية أن تتخلى عن الديبلوماسية الهادئة لتلعب دور القائد الميداني في سوريا، والقائد الأوحد للمعارضات بعد حذف قطر الصغرى، والقائد المالي في مصر، والقائد العملياتي في العراق والقائد التعطيلي في لبنان. كلها أوراق ميدانية قابلة للصرف ولكن لا يبدو أنها قابلة للربح. تعتقد السعودية أن قوتها على الأرض ونفوذها المنتشر، يفوقان قوتها الديبلوماسية وقوة محفظتها المالية. غير أن هذا رهان محفوف بالخسران، فالمشرق يتجه إلى رسم توازنات جديدة لا غلبة فيها للسعودية.
أما رولان فابيوس، قائد معسكر الحسم العسكري الفاشل في فرنسا، فقد تعاطف مع السعودية إلى جانب أنقرة. واعتبر أن الرد على التلكؤ الدولي وعجز مجلس الأمن، يقضي بأن يتم إصلاح هذا المجلس، إما بتوسيع قاعدة الدول فيه، وتقييد حق «الفيتو» في ما خص المجازر والجرائم ضد الإنسانية. على أن يكون مفتاح قرار تحديد الأعمال المنسوبة إلى الجرائم الكبرى الإنسانية، بيد خمسين دولة على الأقل. ولا يحق لدول «حق النقض» استعمال «الفيتو» إلا لحماية مصالح حيوية لها. هذا عود على بدء، ويعتبر هذيانا، وهو من نوع الهذيان الذي يصاب به «الزوج المخدوع». كانت فرنسا داعية حرب، وذهبت إلى قمة العشرين وهي تلبس ثياب الميدان، فخرج أوباما وبوتين بأرنب الكيميائي، وسقط هولاند سقوطاً مريعاً، قبل الطلقة الأولى. عوَّض عن هذه الخديعة، باقتراح تعديل لا حظ له. فما تقبض عليه روسيا اليوم وما هو من حصة أميركا، تعض عليه الدولتان بالنواجذ، وليستا مستعدتين للتنازل، بل للتبادل بينهما. رقصة التانغو ثنائية، لا أكثر.
ماذا بعد؟
«الوهابيون الجدد» في السعودية، يحاولون وراثة «المحافظين الجدد»، في زمن لم تعد فيه أميركا قادرة على إشعال الحروب أو.. إخمادها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.