#اليمن : دحوض قانونية حول جريمة “القاعة الكبرى”

 

صحيفة الثورة اليمنية ـ
د. خالد عبدالله الجمرة:

في القانون الجنائي الدولي هنالك مسلمات لا يمكن تجاوزها ببيانات أو تصرفات أحادية، فالمؤسسات القضائية الدولية ترفض كل و سائل التحايل التي تخفي ورائها الحكومات تجاوزاتها، أو المليشيات التي تنتهك القانون الإنساني الدولي، وهنالك قناعات راسخة داخل  المؤسسات العدلية أن المجرم يتشبث بكل ذريعة للإفلات من العقاب، الأمر لا يقتصر على الأشخاص بل وكذلك الدول ويمتد للمؤسسات غير الرسمية من شركات، و مليشيات وعصابات وما شابهها.
وفي هذا الإطار لا يمكن قانونًا لتوقيف الملاحقات القضائية الدولية التعويل على إجراءات خارج الأطر القضائية الرسمية من  طرف واحد مثل الإقرار (نيابة) بارتكاب الجريمة أو اتهام جهة أو أشخاص، أو الإشارة الضمنية للمتسببين بها والإعلان عن نية لإحالتهم للتحقيق و المساءلة، أو التعهد بدفع تعويضات للضحايا، وهذا  ما فعلته السعودية في بيانها الأخير الذي نشرته ووزعته وكالة الأنباء السعودية، حول استهدافها للقاعة الكبرى بصنعاء خلال استضافتها لمناسبة اجتماعية مدنية بحتة بقصف جوي من أربعة صواريخ حملتها وأطلقتها طائرات حربية سعودية، أمريكية الصنع، وهو فعل وفق قواعد القانون الإنساني يكيّف على أنه جريمة مُكتملة، يجب معاقبة فاعليها.
ففي بيانها هذا حددت المملكة الجهة المتسببة بالحادث أنها (رئاسة) هيئة الأركان اليمنية وهو اتهام مباشر للجنرال المقدشي رئيس هيئة أركان الجيش المُعيّن من الرئيس اليمني  “هادي” اللاجئ في الرياض، والمقدشي أحد ابرز جنرالات الحرب التي تشنها السعودية مع تحالف “أسمي” على اليمن رسميًا من تاريخ 27/ 3 / 2015م  واتهمته السعودية صراحة بصفته أنه سرب معلومات خاطئة للعمليات الجوية في اليمن التي يديرها الرئيس هادي ونائبه علي محسن الأحمر باسم الطرف اليمني، وعلى ذكر الأحمر فالمقدشي أحد أتباعه في الجيش اليمني سابقًا وكان ممن انشق معه ضد الرئيس السابق صالح، ويلزم الإشارة  إلى أن ما يسمى بمركز العمليات الجوية في الجمهورية اليمنية مجرد اختلاق لغرفة عمليات عسكرية  لا جسم لها  حقيقة كما جاء في أكثر من تقرير، ولا يستبعد أن يُقال الجنرال المقدشي ويقدّم ككبش فداء لحكام السعودية والرئيس هادي والقائد محسن.
والسعودية بعد هذا التحديد الصريح، والاتهام المباشر لهؤلاء؛ لم تعد بحاجة لتسمية أشخاص حتى توجّه الاتهام بعيدًا عنها، لكن يبقى هؤلاء الثلاثة مُلزمين بالرد باعتبارهم من يمثلون هذه المؤسسات التي اتهمتها السعودية صراحة بالتسبب بارتكاب الجريمة عبر السماح للطائرات السعودية بالقصف، وحاليًا لا يمكن قانونًا الاعتبار لما سيقولونه ثلاثتهم مادام أنهم يتحدثون من داخل السعودية ويعملون ضمن إطارها السياسي، لا سيما و أن هنالك للجنرال محسن – نائب هادي –  أحد قادة الحرب،  تسجيلات بالصوت والصورة ابان ما كان يعمل ضمن جيش الرئيس صالح يظهر فيه عداءه الشديد للمملكة العربية السعودية وحكامها، ويصفها بالعدو التاريخي لليمن ويتهمها بزعزعة أمنه واستقراره، ولأن السعودية لا تستطيع اتهام هؤلاء بالقيام بالفعل المباشر للجريمة- و لو استطاعت لفعلت-، لأنها تعلم تمامًا أن طائراتها هي التي قامت بالقصف لذلك سارعت من طرف واحد بإنهاء مسؤوليتها عند التعهد بدفع تعويضات لضحايا هذه الجريمة كما جاء في البيان.
مع هذا تبقى مسؤولية الحكومة السعودية دوليًا قائمة، فهي وفقًا للقانون الفاعل المباشر، ومن اتهمتهم ما هم إلا متسببون بالفعل، هذا في حالة إن صح اتهامها، أما تعهدها بدفع التعويضات لضحايا الجريمة فيمكن أن يُفهم باتجاهين أيضًا الأول: أنه اعتراف بالفعل وإقرار بارتكاب الجريمة قبل مباشرة إجراءات أي ملاحقات قضائية دولية، والثاني: أنه وسيلة استباقية لعرقلة هذه الملاحقات، بمعنى أوضح أنهُ تعهّد يتعدّى الغرض منه الإفلات من العقاب إلى الإفلات بداية من الملاحقة الدولية القضائية بقطع الطريق  ولو مستقبلًا أمام المجتمع الدولي لتشكيل لجنة خاصة للتحقيق الجنائي الدولي في وقائع هذه الجريمة تمهيدًا لعرضها على المحكمة الجنائية الدولية.
وبعيدًا عن الغرض السلبي لبيانها الذي أرادت  الإدارة السعودية تمريره للعدالة الجنائية الدولية، فهو  إقرار يختصر إجراءات جمع الأدلة التي تثبت قيامها بالجريمة. أما تورطها المباشر وتوافر قصدها العمدي في ارتكاب هذا الفعل الإجرامي فالمعطيات التي تؤكدهما عديدة، إن مجرد إعلان السعودية بعد الجريمة مباشرة أنها لم تقم بأية عمليات عسكرية على مكان القاعة ثم إعلانها في بيانها الأخير أن طائراتها استهدفت القاعة بسبب معلومات مغلوطة قدمتها رئاسة هيئة الأركان اليمنية متناقضات تثبت كذبها وتؤكد تعمدّها لارتكاب الجريمة،  كما أن إقرار الناطق باسم عملياتها العسكرية في اليمن الضابط عسيري في مقابلة تلفزيونية أن طائرات بلاده تقصف أهدافها بقنابل ذكية يتعدا قيمة الواحدة منها مائة وعشرين ألف دولار وهذا الخيار مع تكلفته إنما لأجل تجنب الوقوع بالخطأ الذي هامشه يصل للصفر حتى لا يستهدف أبرياء، مع ما قاله من إجراءات معقدة تعتمدها بلاده لتوجيه طائراتها لقصف أهداف داخل الأراضي اليمنية كل هذا يستبعد المبررات الساذجة التي ساقتها السعودية في بيانها الذي صيغ ليوحي أن هذه العملية برمتها ما هي إلا توريط يمني “صديق”  مشبوه للطرف السعودي “المُخلص”، كما أن السعودية سبق وإن أعلنت أنها تسيطر على الأجواء اليمنية، و هي فعليًا تسيطر عليها وتضرب حصارًا خانقًا عليها من الجو لكل ما يطير في هذه الأجواء، وهذا مُسجل دوليًا في مجلس الأمن، مما يعني أن الأجواء اليمنية بأكملها تقع تحت مسؤولية السعودية، أما التحقيق التي أعلنت السعودية أن مكوناتها العسكرية الإدارية قامت به بعد ارتكاب هذه المجزرة فلا يخرج عن كونه تحقيقاً أحادي الجانب ينظر إلى نتيجته قضائيًا أنه دليل “خاص” يصنعه المتهم بنفسه لتبرئة نفسه من ارتكاب جريمة عظمى بحق الإنسانية، و لكن لماذا نفت السعودية ارتكابها هذه الجريمة ثم أقرت بها؟
إن نفي ارتكاب هذه الجريمة ما كان إلا “إنكارا” غبياً ضمن تصرفات غبية عديدة ارتكبتها المملكة السعودية، ابتداء بالتفكير أصلًا بالقيام بتدخل عسكري وسياسي “مُتحيز” في شأن يمني بحت يتنازعه فرقاء كانوا رفاقًا في نظام واحد هي من صنعته لأكثر من أربعين عامًا، و لم يكتشف حكام السعودية غباء إنكارهم هذا إلا بعد تأكدهم أن أكثر من جانب دولي لديه الوثائق العلمية الحديثة الكاملة من صور جوية وتسجيلات لاتصالات عسكرية ورسوم لإحداثيات فضائية ترسم بدقة مسار ارتكاب هذه الجريمة ابتداءً من انطلاق الطائرات السعودية “المنفذة” من مطارات إقلاع في مواقع  عسكرية داخل الأراضي السعودية حتى دخولها الأجواء اليمنية وقيامها بالقصف ثم عودتها، لهذا لم يكن أمامها سوى أن تستعين بمبررات (إدارية) تستطيع أن تصنعها وتخفي حقيقتها عن الغير، فألقت التهمة بتداعياتها على شريكها اليمني ” الطرف الأحقر” في هذه المواجهة المتفجرة بالأحقاد المليئة بالإجرام.
ومع ثبوت مسؤولية السعودية، تثبت تلقائيًا المسؤولية الأمريكية ، فالطائرات التي ارتكبت المجزرة أمريكية الصنع، عندما بيعت للسعودية صكت بينهما عقود صادقت عليها الأجهزة الأمريكية تحتوي على بنود تلزم المملكة باستخدام هذه الطائرات استخداماً دفاعياً حتى يمكن لأمريكا مدّها بقطع الغيار المستهلك اثناء العمليات العسكرية بصورة مستمرة، ولا يمكن لأي منطق عادل كان مؤسسة أو شخصاً أن يكيف هذا الفعل السعودي بالدفاعي مطلقًا، لهذا سارعت أمريكا للتنصل عن فعل حليفتها  بإعلانها مجددًا أنها ستراجع مستوى تعاونها مع الجانب السعودي في العمل العسكري الذي تخوضه في اليمن، وهو تقريبًا الإعلان الثاني أمريكيا منذ اندلاع حرب السعودية في اليمن، كما أن هذا اعتراف مباشر بأنها تشارك في هذه الحرب، فهي لم تعلن مطلقًا حتى الآن أنها لم تعد تشارك فيها، بل انتهى حدود مسؤولية إعلانها كما سبق توضيحه عند نقطة عزمها على مراجعة مستوى التعاون مع السعودية وتحالفها وهو عزم مشوب بغموض لا يعرف تفاصيله ويستحيل تأكيده من طرف محايد.
لا يخرج التحقيق السعودي المزعوم عن كونه وسيلة عرقلة لتحقيق العدالة الجنائية الدولية، ما يؤكد هذا رفض الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا  بدعم دبلوماسي سعودي فاعل وناشط ملموس مثبت بمخاطبات ومكاتبات ولقاءات، تشكيل لجنة دولية مستقلة داخل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق دولياً في الجرائم المرتكبة في الحرب باليمن، كان هذا قبل أيام قليلة من ارتكاب جريمة القاعة الكبرى، فهذه العرقلة أرادت دفن جرائم ارتكبت في هذه الحرب لا ترغب السعودية إثارتها دوليًا، وبيّنت أن هنالك نوايا متفلّتة لارتكاب جرائم حرب أخرى ، وهو ما تحقق فعليًا بقصف القاعة، و لكن لماذا شكلت المملكة السعودية لجنة تحقيق حول الجريمة ولماذا أو عزت لحكومة الرئيس هادي اللاجئ في عاصمتها لتعلن هي كذلك من طرفها تشكيل لجنة مماثلة للتحقيق في هذه الحادثة؟
إن نظام روما الأساسي – دستور المحكمة الجنائية الدولية- وفقًا لأحكام “المقبولية” المرتب لاختصاص المحكمة يعتبر الإجراءات القضائية التي تتخذها المحاكم الوطنية  في التحقيق بقضية ما، مانعًا لها من مباشرة إجراءات التحقيق في ذات القضية، ولهذا أرادت المملكة أن تستفيد من هذا الحكم الإجرائي فتقطع على النظام القضائي الدولي مباشرة إجراءات التحقيق أو التهديد بهِ مستقبلًا، لكن الحقيقة أن نظام روما لا يعتبر الإجراءات القضائية أحادية الجانب حاجزًا أمام اختصاص المحكمة مادامت هذه الإجراءات لا تجري بشكل مستقل ونزيه وجدّي، وهذا بكل تأكيد ينطبق على اللجنة السعودية وتلك التي أعلن هادي في الرياض عن تشكيلها، فهاتان اللجنتان لن تعملا بنزاهة ولا بمهنية ، إذ تفتقدان وفقًا لظروف ومعطيات تأسيسهما القدرة على اتخاذ إجراءات التحقيق القضائي وفقًا لمعايير النزاهة القانونية المتعارف عليها دولياً،  ومع أن التقدير الأخير  في هذا عائد لمكونات المحكمة الجنائية الدولية ، إلا أنه يمكن الجزم قطعًا أن عدم تبعية المنظومة القضائية اليمنية واقعيًا للحكومة المعترف بها دولياً جراء هروب رئيس الدولة ولجوئه إلى الرياض، يجعل من  المنظومة القضائية المحلية غير مؤهلة رسميًا لمباشرة اية إجراءات قضائية في هذه المرحلة وفقًا للمبادئ المتفق عليها دولياً، واستنادًا على هذا المعطى المهم فإنه لا يعتد بتشكيل رئيس لاجئ للجنة تحقيق منفصلة عن الأجهزة القضائية الوطنية، كما يشترط دولياً أن تعمل هذه اللجان ضمن اختصاصات قضائية إجرائية وموضوعية ذات صلة بالمنظومة القضائية للدولة محل الاختصاص أينما كانت الواقعة لتتمكن من جمع الأدلة بنزاهة وحرفية وهو ما ليس متحققًا مع اللجنتين المشكلة من السعودية أو المشكلة من الرئيس اللاجئ هادي فتشكيلهما إنما تم وفقًا لقواعد إدارية بتوجهات سياسية بعيدًا عن الإجراءات القضائية.
ومن هنا فعمل هاتان اللجنتان لا يصنف أنه عمل قضائي يدخل ضمن تلك الأعمال القضائية التي  يباشرها القضاء الوطني التي بها يمكن تقييد مهمة المحكمة الجنائية الدولية من مباشرة التحقيق الجنائي الدولي حول هذه الجريمة، كما يشير إلى ذلك نظام روما، كما أن المجتمع الدولي أقر سوابق قضائية دولية رتبت أحكاماً مقاربة؛ فالحكومة السودانية شكلت لجانا للتحقيق في انتهاكات الحرب في دارفور بل وقدّمت مجموعة من المتهمين لمحاكمها الوطنية و أدانتهم وأقرت عليهم عقوبات متفاوتة، مع هذا لم تلتفت المحكمة الجنائية الدولية لهذه الإجراءات لعدم ثقتها بحيادية ومهنية ونزاهة هذه المحاكم وصحة الإجراءات المُتخذة، وهو ما ينطبق على إجراءات لجنتي السعودية وهادي.
كما يبقى من المفيد التعريج إلى أن أصل فكرة التحالف السعودي شيطاني اقتبسته الأسرة السعودية الحاكمة من التراث الإسلامي الذي يحكي أن الشيطان تلبّس هيئة شيخ وقور من نجد (موطن آل سعود) ليدخل دار الندوة ( مجلس شورى القبائل المحيطة بمكة مكان المعبد الرئيس للعرب وقتها، ثم المسجد الأول للمسلمين بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه آله وسلم) حيث كانت قبائل مكة مجتمعة تتدارس تداعيات تعاظم دعوة النبي محمد الذي  أعلن للناس  انه نبي مرسل من الإله (الله) وهو إله واحد يدعو الناس كافة لعبادته غير تلك الآلهة التي تتعبدها قريش وتصنعها “كذلك!!؟، وهو ما أثار عليه زعامات مكة فاقترح عليهم الشيخ إبليس النجدي بأن تختار كل قبيلة فارسا بطاشًا ليذهبوا إلى محمد ويقتلونه في فراشه بضربة رجل واحد فيتوزع دمه بين القبائل و ليس لعشيرته بعدها إلا أن تقبل تعويضًا عن دم ابنها القتيل يلقيه إليها التحالف غير خائف ولا آسف، والسعودية بتحالفها هذا استدعت وحكامها تاريخ ابليس للمنطقة من جديد، هذا والله الموفق…

*  كاتب ومستشار قانوني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.