“باب الشمس” مدخل إلى المقاومة الشعبية

bab-shams

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
عصام نعمان:

أهالي الضفة الغربية جرّبوا المقاومة، قبل وبعد اتفاقات “كامب دايفيد”، مرتين: الأولى كانت مدنية، والثانية كانت مسلحة . الأولى المعروفة بانتفاضة أطفال الحجارة نجحت . الثانية المعروفة بالانتفاضة المعسكرة لم تنجح .

نجحت الأولى لأنها أيقظت روح الكفاح، وأطلقتها في وجه الاحتلال، وأعادت فلسطين إلى خريطة العالم، بل أكرهت “إسرائيل” على أن تضع الشعب الفلسطيني في الحسبان . لكن، بدلاً من أن تتخذها قيادة منظمة التحرير منصةً لإطلاق مقاومة مدنية متنامية ومتطورة نحو مقاومة مسلحة تتحول تدريجاً حربَ تحريرٍ شعبية، ترسملت عليها لتعقد، لاحقاً، مع “إسرائيل” اتفاقات أوسلو السيئة الذكر . بأوسلو تحوّلت منظمة التحرير من مقاومة وطنية إلى سلطة بلدية . متى حررت سلطة بلدية وطناً محتلاً؟

لم تنجح التجربة الثانية لأنها أخفقت في بناء مقاومة شعبية تستطيع إجلاء “إسرائيل” من المناطق التي تعهدت الخروج منها بموجب اتفاقات أوسلو . تهاونت حتى في الإفادة من أبسط ما تتيحه تلك الاتفاقات المشؤومة من “صلاحيات” لخدمة مواطنيها . انزلقت، لانشغالها بتقديم مشكلاتها الذاتية على اولوية توحيد الشعب والمؤسسات في الضفة والقطاع، إلى التعاطي مع “إسرائيل” على نحوٍ مكّن دولة العدوان من توسيع شقة التباين بين “فتح” و”حماس” من جهة وتوسيع رقعة الاستيطان من جهة أخرى .

فترة المخاتلة والمراوحة امتدت من تاريخ اتفاقات أوسلو 1993 حتى حرب “إسرائيل” العدوانية على غزة أواخرَ 2008 . الحرب تكشّفت عن ظاهرة لافتة: ولادة مقاومة مسلحة فاعلة في غزة على أيدي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وسائر الفصائل المقاتلة . بعدها، في سنة ،2012 شنّت “إسرائيل” حربها العدوانية الثانية على غزة من دون أن تتمكّن من كسر إرادة المقاومة . إنه اندحارها الثاني في مدى ثلاث سنوات .

ثمة اندحارٌ ثالث حدث بعد أشهر معدودة: الجمعية العامة للأمم المتحدة اعترفت بأغلبية وازنة (مناهضة ل”إسرائيل”)، بفلسطين دولةً غير عضوٍ فيها .

غير أن الحدث الأبرز يبقى، بلا شك، ولادة المقاومة الشعبية من جديد في “باب الشمس” . ففي تلة استراتيجية كانت أعلنت “إسرائيل” اعتزامها استيطانها في منطقة “E1” لوصل القدس بمستوطنة “معاليه ادوميم” بغية فصل الضفة عن عاصمة فلسطين التاريخية، قام نحو 400 فلسطيني من أعضاء اللجان الشعبية، بقيادة مصطفى البرغوثي، بنصب خيم لإقامة قرية احتجاجية تهدف إلى تزخيم الضجة العربية والعالمية ضد مخططات الاستيطان الصهيونية وتسليط الأضواء على الازدواجية في المعايير القانونية “الإسرائيلية” .

التحرك الشعبي الفلسطيني المقاوم استوحى فكرته من “باب الشمس”، رواية الكاتب اللبناني المعروف إلياس خوري . يقول خوري: “إنهم أحفاد بطل روايتي يونس، ومعهم يتجدد الحلم الفلسطيني وكيف يستطيع هذا الشعب الذي يتعرض للنكبات منذ 64 عاماً أن يثبت حقه في أرضه وأن يُعلي كلمة العدل” .

مجلة “تايم” الأمريكية اعتبرت مخيم “باب الشمس” “نقطة تحوّل في نضال جيل من الناشطين الفلسطينيين وكفاحهم من أجل تحويل طاقات الربيع العربي التغييرية في اتجاه الصراع الفلسطيني – “الإسرائيلي”” .

لعل المعنى الأعمق لحدث “باب الشمس”، أن الشعب الفلسطيني استرد قضيته من كواليس السياسة وأعادها إلى ساحة المقاومة . لعله رفع، بتحركه الفاعل واللافت، المقاومةَ الشعبية إلى مرتبة المقاومة المسلحة من حيث الجدّية والندّية والفاعلية .

ليس ادل على جدّية المقاومة الشعبية في ولادتها الجديدة الساطعة من أن المقاومين الشعبيين قاموا، بعد ساعات معدودات من هجمة الجيش “الإسرائيلي” لاقتلاع خيم “باب الشمس” وتدميرها، بالعودة إلى موقع المخيم في تحدٍ صارخ لدولة العنصرية والعدوان .

إن نظرة متأنية إلى حال الضفة عقب اندحار “إسرائيل” في عدوانها على غزة، واندحارها في معركة الاعتراف بفلسطين في الأمم المتحدة، تشير إلى حقيقة بازغة مفادها أن المقاومة الشعبية هي الخيار الصحيح والنهج الأفعل عند المفاضلة بين الدعوة إلى إطلاق مقاومة مسلحة، كما في غزة، والدعوة إلى الاستمرار في نهج التفاوض اللامتناهي مع “إسرائيل” الذي تسلكه، بلا جدوى، السلطة الفلسطينية في رام الله .

المقاومة الشعبية تعيد ربط الفلسطينيين بأرضهم السليبة . تطالبهم بتضحياتٍ قادرين على الوفاء بها . تعيد إلى الشعب دوراً كانت صادرته السلطة “البلدية” وانشغل بعض فصائل المقاومة عنه بالسعي إلى امتلاك سلطةٍ سياسية ومعاقرة خمرتها، دونما نشوة، في كواليس مفاوضاتٍ عاقرة مع “إسرائيل” أو في تصارعٍ غير مجدٍ بين تنظيماتٍ للمقاومة الاستعراضية .

المقاومة الشعبية تعيد فلسطين إلى صدارة الأحداث والقضايا . تعيد بناء مركزية فلسطين في الحياة العربية والإسلامية . تستعيد دول عالم العرب والإسلام من صراع غير مجدٍ بين بعضها وإيران إلى صراعٍ مستدام يقتضي أن تكون له الأولوية والأفضلية مع “إسرائيل” العدوانية .

من “باب الشمس” خرجت المقاومة الشعبية وتحررت من كواليس المفاوضات اللامتناهية واللامجدية، ودخلت ساح الكفاح والمواجهة حيث يفكّ المقاومون بأيديهم أغلال شعبهم، ويحررون بسواعدهم أرضهم السليبة، ويُسهمون في صنع مصير أمتهم بقيم الحرية والكرامة والعدالة .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.