تحرّر كوريا ومفصل التحول التاريخي الفريد

marwan-soudah-korea

موقع إنباء الإخباري ـ
الاكاديمي مروان سوداح*:

يُصادف يوم 15 من شهر آب أغسطس من كل عام يوم تحرّر شبه جزيرة كوريا. فقبل 70 عاماً احتفل شعب كوريا والبشرية الوطنية والديمقراطية بتحرير الوطن الكوري، وهو الوطن الاممي لكل احرار العالم بكل مكوناتهم ومشاربهم وألوانهم. ففي العام 1945 الذي شهد نهاية الحرب العالمية الثانية، تحرّرت شبه الجزيرة الكورية التي رزحت لمدة نيف وأربعين سنة تحت النير العسكري الاستعماري الياباني.
وبتحرير كوريا بسواعد القوات التحرّرية الكورية، برزت نقطة تحول تاريخي للشعب الكوري برمته. إذ ان الشعب الكوري تمكّن بتحرر بلاده في ذاك اليوم، من التمتع بالحياة المستقلة والكريمة، وصار سيداً لمصيره ولدولته الجدير بها ومجتمعه المتميز، بعد تخلصه من وضع العبودية الاستعمارية للإمبرياليين اليابانيين ووحشيتهم غير المعهود في التاريخ.
قبل تحرّر كوريا (1905 – 1945)، حاول الإمبرياليون اليابانيون طمس الأمة الكورية بالكامل ووأدها، فضلاً عن سعيهم لشطب اسم كوريا في التاريخ، عن طريق ممارسة الحكم القروسطي القمعي ونهج القتل والذبح بالجُملة، إذ حرموا الكوريين من استخدام لغتهم المنطوقة والمكتوبة، وفرضوا عليهم تبديل اسمائهم وكُناهم العائلية أيضاً وارغموهم على إستبدالها بيابانية. كما انهم حطّموا واغتصبوا القيم الروحية والثقافية المادية وغير المادية للأمة الكورية، تماماً كما تغتصب داعش اليوم ثقافة وحضارة بلاد الشام. لقد حطم اليابانيون الانجازات الثقافية والحضارية الكورية، تلك الانجازات التي اجترحها الشعب الكوري خلال تاريخه العريق الممتد إلى خمسة آلاف سنة.
على أيدي الإمبرياليين اليابانيين، اختطف أكثر من 8400000 نسمة من الشباب والكهول الكوريين، واقتيدوا قسراً إلى ساحات الحرب والسخرة، وفرضت على 200000 من النساء الكوريات حياة الرقيق الأبيض، باقتيادهن كـ”فتيات متعة” للمحاربين اليابانيين وقياداتهم وضباطهم. زد على ذلك ان أكثر من مليون نسمة من أبناء الشعب الكوري لقوا حتفهم قتلا وحرقاً بحِراب اليابانيين ونارهم.
لذا، فقد كانت مهمة تحرّر الشعب الكوري من مصير بائس كتبه بحقه العسكر اليابانيون، الخلاص المؤكد من موت مُحقّق، لتنبعث الامة بنورٍ من حريةٍ وحياةٍ فُضلى جديدة، كما وكان يَعني بالتأكيد، إطلالة حدث تاريخي يرافقه تحوّل مصيري على صعيد كوريا وآسيا والعالم، بدءاً بإقصاء حالة العبودية المفروضة استعمارياً، ودنو حالة التحالفات الكونية الاممية بألسنة وسحنٍ وثقافات متآخية.
بعد ان حقق الرئيس الزعيم كيم إيل سونغ العظيم (1912 – 1994) القضية التاريخية لتحرّر كوريا، بقيادته النضال المسلح المناهض لليابان إلى النصر، لمدة 15 عاماً، بادر الزعيم إلى تأسيس حزب العمل الكوري في العاشر من تشرين الأول عام 1945، إذ غدا كيم إيل سونغ المُحرّر الملهم المهندس لكل الانتصارات الفاصلات التي أحرزها الشعب الكوري بنور الحزب ونظامه الصارم الحديدي، فأُقيمت السلطة الشعبية، وأُنجزت بنجاح كل الإصلاحات الديمقراطية، مثل الإصلاح الزراعي وتأميم الصناعات الهامة، وتحقيق المساواة بين الجنسين، خلال مدة قصيرة من الزمن بعد تحرير كوريا، الأمر الذي أدى إلى جعل الشعب سيداً فعلياً للسلطة السياسية، وجعل العمال سادة للمصانع، والفلاحين أصحاباً للأراضي، وتخلّصت النساء من الربق والقيد والنير الإقطاعي العائد إلى آلاف السنين.
وبتأسيس جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية في التاسع من أيلول عام 1948، كدولة أولى في الشرق تهتدي بالديمقراطية الشعبية على أساس نجاحات الإصلاحات الديمقراطية الأوسع، استطاعت كوريا – التي كادت تختفي من على خريطة العالم لأسباب استعمارية سابقة – أن تظهر على الحلبة الدولية كدولة مستقلة وجديرة بالحياة وتمارس سيادتها بكل أُنفة وعزة وفخار. وبفضل السياسات الشعبية التي تنتهجها الجمهورية، صار بإمكان الشعب الكوري منذ لحظة الاستقلال الاولى، التمتع بحياة مستقلة وخلاقة بملء رغبته، بكونه سيداً حقيقياً للدولة والمجتمع. وعلى هذا النحو بالذات، تحوّلت كوريا من بلد مقموع ومهانٍ إلى دولة اشتراكية تحرسها أُسرة متآلفة وكبيرة يتحد فيها جميع أفراد المجتمع بمتانة في كيان واحد، ويساعدون بعضهم بعضاً ويقودونها سوياً، تفعيلاً للشعار الدهري العظيم: “الجماعة للفرد.. والفرد للجماعة”.
ونتيجةً منطقية وسليمة لتحرّر كوريا، أقيم في ذاك البلد النظام الاشتراكي الفريد من نوعه وشكله، إذ غدا يتمحور على جماهير الشعب الحر والدولة الاشتراكية غير المقهورة التي تقف بصمود وصعود، ودون خشية أمام كل العواصف العالمية الهوجاء.
لقد تم بناء كوريا الاشتراكية على هدى فكرها القيادي الأصيل، منذ بداياتها الاولى. وبعبارة أخرى، تم بناؤها حسب فكرة زوتشيه الخلاقة، وفكرة سونكون التي تعني إعطاء الأولوية للشؤون العسكرية، وهما فكرتان أبدعهما كل من الرئيس كيم إيل سونغ ورئيس لجنة الدفاع الوطني كيم جونغ إيل وبتأصيل كل واحدة وتطويرها، وبموجب النظريات القيادية والمبادئ الهادية التي تم إيضاحها بتينك الفكرتين.
وطِوال تاريخها الاستقلالي، كانت كوريا وبقيت تقدّم وبلا توقف الشؤون العسكرية على كل الأعمال الأخرى على نحو حاسم، متمسكة بثبات بخط الذات الوطنية في الفكر، والسيادة في السياسة، والاستقلالية في الاقتصاد، والدفاع الذاتي في الدفاع الوطني، وفقاً لمتطلبات وأليات فكرتي زوتشيه وسونكون. كما وأقيمت جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية كدولة اشتراكية تأخذ بأسباب السيادة السياسية والاستقلالية الاقتصادية والدفاع الوطني الذاتي، وتحولت إلى دولة اشتراكية قوية غير مقهورة، لا يتجرأ أحد على النيل منها. ولذا، أصبح حزب العمل الكوري حزباً يتمسك بمصير جماهير الشعب ويقودها، ويستمسك بسلطة الدولة التي يرى فيها “رب بيت” مسؤول عن حياة أبناء بيته، وخادماً لهم، ويرى في الجيش الشعبي حامياً لحرية الشعب وسعادته ومتلاحماً معه.
وإذا عدنا بذاكرتنا إلى الماضي، نرى كيف ان الاشتراكية اضطرت خلال مسيرتها الطويلة ان تعاني من إلتواءات وتعرجات واختراقات خطيرة، رغم انها كانت توسّعت على النطاق العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. وفي غثبرات اشتداد هجمات الإمبرياليين المعادية للاشتراكية التي لم ولا تتوقف للآن، ظهرت الانتهازية في مختلف البلدان الاشتراكية، وبلغ بها الأمر حد انهيارها تباعاً في نهاية مطافها، فيا لها من حالة مأساوية لحقت بكثير من بلدان وشعوب العالم. ولكن الوضع في كوريا كان مختلفاً عن ذلك تماماً، إذ ان راية الاشتراكية لم تتراجع، وكانت ترفرف دون تغيير أو تبديل، ولم تتوقف ولن تتوقف.
حقاً، ان راية جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية لا تنتكس ولا تتنكّس أبداً، وهي تشمخ بثبات لتدافع أيديولوجياً عن فكرها ونظامها وقضيتها لمدة تقرب من سبعين عاماً، دون ان تحيد عن طريق الاشتراكية التي اختارتها بنفسها ولو قيد أُنملة، ولا بخطوة واحدة حتى، لتصبح بالتالي موضع إطراء وثناء من لدن المجتمع الدولي والامم والشعوب على اختلاف مناهجهها.
ليس ختاماً القول، أنني خرجت بانطباعات إيجابية كثيرة ولا مثيل لها خلال زياراتي المتلاحقة الى كوريا زوتشيه، التي تشهد اليوم قفزات متلاحقات وتجديدات فريدة في بناء الدولة الاشتراكية القوية والمزدهرة وذات المنعة عسكرياً واقتصادياً وشعبياً وقيادياً، وهي قفزات تتناغم في جوهرها مع ذلك التاريخ الممتد إلى عشرات السنين وتطلعات أنباء كوريا. وأمام هذا الواقع الحالي الزاهر في كوريا، استذكر بعمق مرة تلو أخرى، المعنى التاريخي العميق لتحرّر كوريا الذي أتى بعصر تحوّل عالمي في صياغة مصير الشعب المُستقل وإغناء البلاد وتعظيم منعتها وشساعة ازدهارها.

*رئيس المجلس الاردني والعربي للتضامن مع الشعب الكوري ومناصرة توحيد شطري كوريا وحامل الاوسمة الكورية، والصحفي والمواطن الفخري لجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية واتحاد الصحفيين الكوريين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.