ثمن اللامساواة: تحذيرات علمية من انهيار مدو للحلم الأميركي

صحيفة البيان الإماراتية:

المصدر: تأليف: جوزيف ستغلتز عرض ومناقشة: محمد الخولي

الجديد في الكتاب أنه يصدر موضحاً أن ما كان يوصف عبر عقود خلت بأنه «الحلم الأميركي» أصبح موشكاً على التبدد أو الانهيار، بسبب الهوة التي تتسع باستمرار بين القلة القليلة المستأثرة بأكبر الموارد وأوسع الإمكانات في الولايات المتحدة، ويقدر الكتاب نسبتها عند واحد في المئة فقط، وبين أغلبية التسعة والتسعين في المئة الذين يعانون بصورة أو بأخرى من آثار هذا الخلل في شكل ومسار الهرم الاقتصادي الاجتماعي في تلك البلاد.

ولأن مؤلف هذا الكتاب اقتصادي ضليع وحاصل على جائزة نوبل العالمية الرفيعة في تخصصه، فهو يوجه نقداً علمياً وثاقباً إلى الدعوات التي توفرت عليها خلال الثلث الأخير من القرن الماضي «مدرسة شيكاغو» الشهيرة في الاقتصاد تحت قيادة الاقتصادي ميلتون فريدمان، وقد ظلت في تلك الأيام ترفع راية حرية السوق من أية قيود ومن كل القيود، سواء كانت على شكل لوائح لتنظيم النشاط أو قواعد لترشيد الأداء الاقتصادي بما يحقق نوعاً من التوازن بين فئات المجتمع، بدلاً من أن ينعم المحظوظون على حساب المهمشين.

المهم أن مؤلف الكتاب يؤكد على أهمية الربط بين فعالية الأداء الاقتصادي وبين أهمية استلهام وتفعيل القيم الأخلاقية التي ترفض الاحتكار، وتنبو عن الاستئثار وتدعو إلى ردم الهوة الواسعة بين القلة والكثرة بوصفها هوة «اللامساواة» باعتبارها ظاهرة فادحة السلبية، وسوف يتعين على المجتمع الأميركي، وربما المجتمع الإنساني بشكل عام أن يدفع ثمنها أو ثمن استمرارها واستفحالها في يوم من الأيام.

«الحلم الأميركي» تلك هي العبارة التي ما برحت تتصدر أدبيات الفكر والسياسة العالمية كي تجسد ما ترمز إليه الولايات المتحدة بوصفها بلداً متلقياً لموجات المهاجرين، الذين جاؤوا إلى تلك القارة الواقعة في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

حيث تقسمها مياه المحيط الأطلسي عن سائر أصقاع العالم، وحيث ظلت موجات الهجرة تغشاها، مقبلة من ربوع شتى يستوي في ذلك الإيطاليون الذين قدموا في تدفقات عارمة من حوض البحر الأبيض المتوسط، ومنهم من ذاع نبوغه البنّاء مثل ماركوني الذي اكتشف معجزة اللاسلكي، ولكن منهم أيضاً من تجسدت نوازعه الخبيثة في عصابات «المافيا» ذات الأصول الممتدة إلى جزيرة سردينيا، وقد كان تشكيلها وأنشطتها الإجرامية إيذاناً بتيار عارم مازال يعرف في الحياة الأميركية المعاصرة بتيار «الجريمة المنظمة».

ورغم سلبيات عدة عاشتها، ومازالت تكابدها مناحي الحياة الأميركية، سواء من حيث استشراء تيار العنف، أو تفاوت حظوظ الناس بشكل بالغ الاستفزاز، إلا أن حكاية «الحلم الأميركي» مازالت تراود خيال الذين أنجزوا الهجرة أو الذين ما برحت الهجرة تسكن أفكارهم وخواطرهم وطموحاتهم إلى حياة تختلف نوعياً عما يعيشون ويألفون.

بليونكسيا

مع هذا كله، فثمة مخاوف باتت تهدد هذا الحلم الأميركي، ولدرجة أن تشهد الساحة الثقافية الفكرية هناك صدور دراسات وكتب تحذر من ذوبان أو انصهار هذا الحلم أو تكسّر تدفقاته التي كانت واعدة على صخرة، أضفى عليها الاختصاصيون مصطلحاً استقوه من التراث الإغريقي القديم وهو: بليونكسيا ومعناها تلك الرغبة العارمة التي تستبد بهذا الفرد أو ذاك من البشر، فإذا بها تدفعه إلى أن ينال أكثر مما يستحق، أو يمد عينه ويده إلى حيث يجور على ما يملكه سواه، في تعبير مَرَضي عن نوازع الاستحواذ والاستئثار واحتكار ما يستطيع أن يطمع في امتلاكه دون الآخرين.

في السياق نفسه تقول أساطير اليونان إن الطاغية حين يتحكم في خيرات البلاد ورقاب العباد فهو مريض بآفة «البليونكسيا» وهي آفة الطمع ومرض الطمع في التحليل الأخير، وبالتالي تضيف أساطير اليونان أيضاً- إذا ما أردت مقاومة الطغيان عليك أن تبدأ بمقاومة آفة الطمع ونوازع الأثرة قبل أي شيء آخر.

وبديهي أن هذا الطمع من جانب الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً تؤدي بالضرورة إلى حالة تفوز فيها القلة الطامعة وتتدهور فيها، ربما بالقدر نفسه، حظوظ الأكثرية المهيضة المظلومة، خاصة في ضوء محدودية الإمكانات والموارد المتاحة على اختلاف المواقع والأقطار: تلك هي حالة اللامساواة التي باتت تشكل ظاهرة بارزة من ظواهر المجتمع البشري وفي إطارها تحتكر القلة الموارد والثروة فيما تحتكر بشكل مواز مقاليد التأثير وعوامل النفوذ، وهو إطار منطقي بكل معنى.

حيث لا نكاد نعرف أين بداياته وأين نهاياته، فقد تبدأ المسألة باحتكار النفوذ مما يتيح لصاحبه أن يستأثر بمقاليد الثروة، وقد تبدأ المسألة نفسها عند الطرف الآخر للمعادلة حيث يبدأ الفرد باحتكار الثروة ومن ثم يعمد إلى استخدام إمكانات المال من أجل «شراء» المزيد من الجاه والتأثير والنفوذ. هذا هو الاقتران غير المشروع كما يصفونه بين إمكانات الجاه ونوازع الطمع.

عن الحلم الأميركي

وهذا هو ما يشكل الدافع الأساسي وراء تأليف الكتاب الذي نعايش أفكاره وطروحاته في هذه السطور، وهو كتاب ينطلق أساساً من حكاية «الحلم الأميركي»، حيث يستهل المؤلف مقولات الكتاب بسطر بالغ الدلالة يقول فيه: في حقيقة هذا الاقتران المنفلت الجامح بين السلطة والطمع ما يكتب (للأسف) شهادة الوفاة لما يعرف بأنه الحلم الأميركي.

والسبب؟ يجيب مؤلفنا لفوره قائلاً: لأن أرض هذا الحلم الموعود أصبحت تتناوشها نوازع الطغاة الذين يصدرون عن الإصابة بآفة «البليونكسيا».

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور جوزيف ستغلتز أستاذ علم الاقتصاد بجامعة كولومبيا، وهو في الطليعة من نخبة أساتذة العلم الاقتصادي في الولايات المتحدة، وربما في العالم أيضاً بعد فوزه بجائزة نوبل العالمية الرفيعة في الاقتصاد في عام 2001.

تصور مطالع هذا الكتاب عمق (أو فداحة) ظاهرة اللامساواة التي ينتقدها المؤلف حين يوضح أن هناك نسبة واحد في المئة فقط لا غيرهم الذين ينعمون بما يكاد يكون كل إمكانات عالمنا وموارده تاركين بذلك نحو 99 في المئة من سكان عالمنا نهباً للندرة والعوز وشظف المعيشة ولدرجة باتت تنذر كما يحذر البروفيسور ستغلتز – بانفجار غضب عارم بين صفوف هذه الأكثرية الغالبة، على نحو ما أنذرت به – على أرض أميركا ذاتها تظاهرات «احتلوا وول ستريت».

عن اختطاف الرأسمالية

في هذا السياق أيضاً يمضي كتابنا في محاولة لتوضيح حادثة «اختطاف الرأسمالية» لصالح «أصولية السوق الحرة» وهو المصطلح المستجد في أدبيات الاقتصاد الكلي وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة.

وربما تعود جذور هذه الأصولية الاقتصادية إلى سنوات السبعينات والثمانينات من القرن العشرين. هنالك يتوقف كتابنا ملياً عند مصطلح آخر يعرفه دارسو التطور الاقتصادي المعاصر، والمصطلح الطريف هو: أولاد شيكاغو، أو «صبية شيكاغو» أو فلنقل جماعة شيكاغو من دارسي وعلماء واختصاصيي الاقتصاد المنتمين إلى مدرسة شيكاغو الشهيرة التي كان يتربع على قمتها البروفيسور ميلتون فريدمان الذي اشتهرت دعوته إلى تحرير الاقتصاد من كل قيد، من كل لائحة، من كل تنظيم، من كل آلية تستهدف الترشيد أو المتابعة أو الرقابة الموضوعية.

وهذه المدرسة هي التي مارست تأثيرها العميق على عالم الاقتصاد خلال الفترة المذكورة وبالذات في حقبة مرغريت ثاتشر في بريطانيا وولاية رونالد ريغان في أميركا، وقد ارتبطت تلك الحقبة والولاية بتطبيق نظرية إطلاق العنان للحرية الاقتصادية لتتجاوز حتى مقولة «دعه يعمل، دعه يمر» التي أصبحت مرادفة على نحو أو آخر لا لحرية النشاط الاقتصادي.

ولكن لانفلات هذا النشاط وتجاوزه كل أعراف الضرورات الاجتماعية أو مصالح الطبقات الأدنى وربما الطبقات الوسطي أيضاً. وقد أوجز مؤلفنا أهم مقولات هذا الاتجاه المنسوب إلى البروفيسور ميلتون فريدمان بخاصة ومدرسة شيكاغو للاقتصاد بشكل عام وهي:

(1) .. رفض اللوائح والتنظيمات.

(2) .. تصغير دور الدولة إلى حد التضئيل أو التهميش.

(3) .. ترويج وتكريس دعوات الخصخصة فكراً وتطبيقاً.

جاء هذا كله انحيازاً على طول الخط للقلة المحظوظة ثراء ونفوذاً، احتكاراً واستئثاراً، وزاد الأمر سوءاً عندما تبنَّى صندوق النقد الدولي وصفة اقتصادية عمل على نشرها على مستوى دول العالم.

ولاسيما النامية منها وتكاد تدور حول هذه الأقاليم الخطيرة الثلاثة فيما أصبح في تلك الأيام من القرن الماضي يعرف باسم سياسة «التكيف الهيكلي» التي أدى تطبيقها إلى مشاكل أقرب إلى الكوارث الاقتصادية في بعض أقطار أميركا الجنوبية (شيلي مثلاً) وفي بعض أقطار أفريقيا السمراء (زامبيا مثلاً).

المعلومات غير المتكافئة

ويحمد لمؤلفنا، البروفيسور «ستغلتز» أن كان من صفوة الخبراء العاملين في صندوق النقد الدولي، ويقال إنه عمد إلى تقديم استقالته من منصبه الدولي الرفيع من أجل أن يتمكن من توجيه انتقاداته إلى سياسات الصندوق، خاصة وانه وجّه هذه الانتقادات علي أساس النظرية التي ابتدعها وتحمل العنوان التالي: المعلومات غير المتسقة (أو غير المتكافئة) بمعنى أن المحظوظين.

وهم قلة في المجتمع، يتاح لهم كم من المعلومات الجوهرية بل والخطيرة في ميادين شتى من نشاط ذلك المجتمع، وهو ما يزودهم بسيف أو مفتاح المعلومات الذهبي القادر على فتح الأبواب المغلقة واقتحام الأسوار المنيعة والاطلاع على ما يدور في داخل الكواليس، وتلك ميزة تضعهم بداهة في موقع التميز إلى حد التفوق على سائر الفئات والطبقات.

تلك هي النظرية التي نال عنها جوزيف ستغلتز جائزة نوبل، خاصة وقد جاءت نظريته ثمرة من ثمار البحوث الميدانية التي دأب الاقتصادي الأميركي على إجرائها على مدار السبعينات والثمانينات ورصد خلالها ما أفضت إليه احتكارات المعلومات، الداخلية والصميمية كما نسميها إلى إتاحة مزايا للقلة المحظوظة .

بل وارتكاب تجاوزات وصلت إلى درجة الانحرافات فيما يتصل بالتلاعب بأسعار البورصة ومعدلات الفائدة المصرفية وهو ما أفضى كما تقول مقالة «غارديان» التي أشرنا إليها – إلى التسبب بأضرار بالغة لحقت برجل الشارع بشكل خاص بقدر ما أضرت بمسار الاقتصاد الدولي بشكل عام.

وما لبثت أن تجلت كل هذه الآثار السلبية في غمار أزمة الاقتصاد العالمي التي حلّت مع السنوات الأولى من القرن الجديد وما برحت تخلّف آثارها السلبية، كما يوضح المؤلف، على دخل غالبية التسعة وتسعين في المئة من الناس وعلى مستوى رعايتهم الصحية بل وعلى آفاق مستقبلهم بشكل عام، وكل ذلك بسبب التطبيق المنفلت كما يضيف المؤلف – لسياسة «الليبرالية الجديدة» التي لم تقتصر على مجرد انكماش الدخل المالي للطبقات الأدنى.

لكن الضرر جاء شاملاً ليغطي المجالات غير المادية – ومنها وهذا هو الأخطر في تصورنا – مجالات تتصل بمنظومة القيم الأخلاقية، التي تواضَع عليها المجتمع الإنساني على اختلاف الأديان والعقائد والحضارات وفي مقدمتها قيمة العدالة والثقة فضلاً عن الشعور بالمسؤولية وأواصر التضامن الاجتماعي. لا عجب أن تؤدي هذه السلبيات كما يضيف مؤلف هذا الكتاب – إلى تآكل أواصر الحلم الأميركي.

بين توكفيل وفريدمان

من هنا يستعيد المؤلف عبارة الفيلسوف الفرنسي إلكسس دي توكفيل (1805-1859) التي يقول فيها: علينا أن نحقق فهمنا السليم لمعنى المصلحة الذاتية.

ثم يضيف البروفيسور ستغلتز موضحاً أن المجتمع السليم هو الذي يولي الفهم الصحيح والاهتمام الواجب للمصلحة الذاتية لكل فرد من أفراده، ومن ثم فهو يحقق الخير المشترك لهؤلاء الأفراد، وليس الحديث هنا عن الأمور «البيزنس» على حد سواء.

ثم يستطرد المؤلف قائلاً: وعندما ترك مجتمعنا (الأميركي) مقاليد أموره لدعاة الاحتكار والاستئثار، أهل البليونكسيا كما يقول المصطلح الإغريقي، فالذي يدفع الثمن الآن هو جميع أفراد المجتمع الأميركي.

في السياق نفسه يحذّر كتابنا من الاستسلام أمام تيار الليبرالية الجديدة الذي يكرس ما أصبح يعرف في أدبيات الاقتصاد والسياسة بأنه «رأسمالية بلا قلب»،

وحين يعاود كتابنا في فصوله الأخيرة استعراضه للوضع داخل الولايات المتحدة نفسها – أرض الأحلام حتى لا ننسى – فهو يسجل لقارئه وبالأرقام كيف ظلت نسبة الواحد في المئة هناك تنعم بأكبر جزء من كعكة الموارد والإمكانات وبصورة مطردة على مدار السنوات الثلاثين التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

وفي السنوات الخمس أو السبع التي شهدتها مطالع القرن الواحد والعشرين استطاعت نسبة الواحد في المئة نسبة القمة كما يسميها المؤلف – أن تستأثر بأكثر من نسبة 65 في المئة من عوائد الدخل القومي في طول الولايات المتحدة وعرضها، إلى أن بلغ نصيب هذه القلة القليلة نسبة 93 في المئة في عام 2010.

وهو ما أدى إلى توسيع بل إلى تفاقم هوة اللامساواة الفاصلة بداهة بين من يملكون ومن لا يملكون، وهو أيضاً ما أفضى إلى توسيع مطرد لهوة المساواة التي يحذر مؤلف هذا الكتاب من أن يأتي يوم ليدفع كل المجتمع في بلاده ثمنها.

المؤلف في سطور

يعد البروفيسور جوزيف ستغلتز في طليعة مفكري وأساتذة علم الاقتصاد في الجامعات الأميركية. وهو يعمل حالياً في جامعة كولومبيا المرموقة. وقد عمل كبيراً للخبراء في صندوق النقد الدولي ثم تخلى عن هذا الموقع المهم لكي يتاح له نقد سياسات هذه المؤسسة المالية الدولية، سواء إزاء الكثير من دول العالم الثالث النامية، أو إزاء تبني سياسات تقوم على تكريس النهج الرأسمالي الكلاسيكي الذي يؤدي بحكم قوانينه إلى استئثار القلة، على حساب الأغلبية بموارد وإمكانات المجتمع الذي تعيش فيه.

ويصنَّف جوزيف ستغلتز ضمن فئة المفكرين الاقتصاديين الكبار الذين يناضلون من أجل «حقن النهج الرأسمالي» بزاد كبير من القيم الأخلاقية، التي يستند فيها التقدم الاقتصادي إلى محاولة تحقيق قدر معقول من المساواة وتكافؤ الفرصة وسبل الإنصاف لصالح الأغلبية من أفراد المجتمع في مواجهة الأقلية من بارونات الاحتكار.

ويعد ستغلتز من أنصار دور القطاع العام في مضمار الاقتصاد القومي، ويأتي في مقدمة اهتماماته ضرورة توفير فرص العمل وزيادة الاستثمار في مجال الطرق والتكنولوجيا والتعليم، فضلاً عن التوسع في طرح وتفعيل اللوائح التي تنظم مسيرة الاقتصاد تحقيقاً للمزيد من الانضباط والأخذ بمبادئ المحاسبة بمعنى المساءلة – وله في هذا عبارة شهيرة يقول فيها: إن مديري البنوك المنحرفين لابد وأن يودَعوا مباشرة غياهب السجون.

التعليقات مغلقة.