جدران غير مرئية لحروب قد لا تبقى باردة (2)

lina-balaghi-middle-cold-war2

موقع إنباء الإخباري ـ
د. لينة بلاغي (دكتوراه في الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك):

 

أشرنا في مقالة سابقة * إلى الجدران غير المرئية التي بنيت في شرق أوروبا على الحدود الأوروبية الروسية ، في الحرب التي تعتبر امتداداً لحرب استمدت صفتها الباردة من لاعبيها الأساسيين  في النظام الدولي السابق، وخاطفة، استناداً إلى المتغيرات التي طالت العالم على مستوى عولمة مجمل القضايا وحركية الصراعات ودينامكيتها واشتعالها بالتزامن، في ظل تنافس قطبي النظام السابق على النفوذ – القوة، تمهيداً ربما للنظام الدولي المرتقب الذي ترشح مجمل المعطيات على أنه سيكون قائماً على نظرية توازن القوة بكل وجوهها وملابساتها وعدم استقرارها طويلاً.  وسنحاول استكمال الصورة في هذه المقالة بالجانب المتعلق بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وتحديداً بالجانب المتعلق بالدول العربية عموماً.

کنا سمعنا في أکثر من مناسبة، منذ تسلم باراك أوباما للإدارة الأمريكية ما فحواه “أن القسم الأعظم من تاريخ القرن الـ21 سَيُكتَب في منطقة المحيط الهادئ”، وأكدت ذلك هيلاري كلينتون عام 2011 بأن “مستقبل السياسة سيُرسم في آسيا، وليس في العراق أو أفغانستان”(1) .

هذا التوجه إلى الشرق الأقصى في السياسات الامريكية الاستراتيجية لا يعني على الإطلاق أنها انسحبت أو قلّ اهتمامها بالشرق الاوسط وأوروبا، بل على العكس من ذلك، إن واقع هاتين المنطقتين يؤكد فرضية إعادة ترتيب أوراق هذه المناطق أو المساحات الجغرافية (2) وفق منظومة تقوم على  “توازن القوى المنهك” ضمن منظومات إقليمية جديدة تمهّد للنظام العالمي المرتقب.

هنا، ماذا يعني جغرافياً فصل سوريا ـ وتباعاً العراق ـ عن ما تبقى من آسيا ؟

بغض النظر عمّا إذا ما كان هذا الفصل نتيجة تقسيم أو نتيجة مستنقعات مميتة  وما شابه،  وماذا يعني تسويق هنري كسينجر في كتابه النظام العالمي حين يتحدث عن “نظام عالمي يؤطر لمفهوم يوجد لدى منطقة أو حضارة ما” (امريكا ) “بشأن طبيعة جملة من الترتيبات العادلة (عدالة من وجهة نظر هذا النظام)، وأنماط توزيع السلطة التي يظن أنها قابلة للتطبيق على العالم كله، ونظام دولي عبارة عن تطبيق عملي لوجهة نظر النظام العالمي الآنف الذكر،  وأنظمة إقليمية منطوية على المبادئ ذاتها على بقع جغرافية محددة، كل واحدة من هذه المنظومات الثلاث تستند إلى مكوّنين: جملة من القواعد المقبولة عموما (نذكر من وجهة نظرهم) التي تحدد تخوم المسموح بها من ناحية، وتوازن قوة يفرض الانضباط حيثما تنهار القواعد من ناحية أخرى”(3).

والمقصود بالانضباط  يوضحه كسينجر في مكان آخر من كتابه إذ يتحدث عن “نظام توازن قوى بوصفه واقعاً وتوازن قوى بوصفه نظاماً”(4)،  الأول مرفوض لأنه يخل بالتوازن أو التعادل المطلوب على غرار ما قبل تجربة سلام وستفاليا، أي أن قوة الدولة العسكرية هي التي تحدد معايير القوة في النظام الإقليمي والدولي، والثاني، أي توازن قوى بوصفه نظاما مقبولاً، العمل جار لتحقيق هذا النظام على المستويات الثلاثة: العالمي والدولي والإقليمي وحتى المحلي، ومفاده أنه من غير المسموح به في  النظام المنتظر، من وجهة نظر أمريكية – إسرائيلية (نظراً لجذوره وارتباطاته العاطفية)، لأي قوة أمر واقع تغيير النظام المرتقب والخروج على المفهوم العام العالمي والدولي والاقليمي وحتى المحلي ، وإلا “استحضر تآلفا (دوليا) يرفع راية التعادل”.

ضمن هذه الرؤية، وقد لا تكون بحذافيرها، تتحرك القيادة الأمريكية لإقرار هذا النظام، حيث تستمر عملية تطويع روسيا ومحاصرتها من جهة حتى تخضع لهذا النظام، والأمر ينطبق بوسائله أيضاً على الصين، لكن هنا سنقتصر الحديث عن العراق وسوريا تحديداً وارتباطهما بالنظام الإقليمي المرتقب.

إن التوقف عند الخارطة الجغرافية للأزمات في المنطقة، وتحديداً أزمتي سوريا والعراق، يشير إلى عدد من المعطيات التي لا يمكن إغفالها، منها ما يوجب استعادة أفكار مشاريع من أدراج السياسات الدولية والغربية، كالاتحاد المتوسطي (اتحاد من أجل المتوسط) الذي يعتبر خطوة أولى للمشروع الإقليمي الأوسع “الشرق الأوسط الجديد أو الأجد، ومنها مؤشرات مستقبلية، تدلل على أن  كافة المساعي الهادفة إلى تخفيف حدة سلطوية النظام الدولي المرتقب، الإيرانية عموماً والروسية بالأخص وربما الصينية أيضاً، عن هذه المنطقة القلب سيواجَه بحدة كما هو حاصل ، وسيستحضر تآلفا دوليا تحت شعارات “التعادل والعدالة”.

تعتبر الحدود مع العراق الحدود البرية الوحيدة التي تربط العالم الاسلامي العربي، بالعالم الاسلامي غير الناطق باللغة العربية، في قارة آسيا، باستثناء تركيا (الامريكية التحالف) وحدودها مع سوريا والعراق. لكن إذا ما نظرنا من منطلق الدول المشاكسة من وجهة نظر امريكية، أو الخارجة عن منظومة بيت الطاعة الأمريكي، وإذا ما تم إسقاط العراق بالمجمل تقسيماً أو تفتيتاً أو نظاماً معادياً لإيران، تكون النتيجة إضعافاً شديداً لمنظومة الدول والأحزاب الواردة أسماؤها على جدول الاخضاع قبل استقرار النظام الإقليمي المرتقب من جهة، ومن جهة أخرى، الاقتراب بقوة من منظومة نظام إقليمي متوسطي في البداية، وفي النهاية شرق أوسطي.

عند فصل العراق وسوريا عن منظومة ما يعرف بالمحور الشرقي، نكون عمليا أمام استبعاد جغرافي تام للدور الروسي والإيراني تحديداً في البحر الابيض المتوسط وقضاياه. من هذه الزاوية يمكن فهم التقارب العربي – الإسرائيلي الساعي إلى نظام توازن للقوة في مقابل القوتين الإيرانية والتركية على مستوى الشرق الأوسط.

ومن جهة أخرى فإن عملية فصل العراق وسوريا أيضاً ستؤسس لبناء عوائق عقائدية – قومية – تاريخية – نفسية، أمام تشكّل أي قوة موحدة أو حتى تقارب في المستقبل القريب أو البعيد بين دول العالم الإسلامي، ويسمح بدخول إسرائيل بعنوانها عضو طبيعي لكن قوي (تفوق قوته قوة مجموع الدول العربية) في منظومة المنطقة، وهذا يعني، أن النفوذ الإسرائيلي سيمتد من أقصى شمال غرب أفريقيا إلى الحدود الإيرانية التركية في المرحلة الأولى من المشروع الصهيوني بترحيب عربي بذريعة الخوف من التمدد الإيراني، إلى جانب نفوذه طبعاً، المباشر وغير المباشر، في العديد من النقاط داخل القارة الافريقية والأوروبية.

هذا النظام الإقليمي المرتقب الذي، يلمّح له ويحلم به معظم القادة في أمريكا (من ديموقراطيين وجمهوريين)  وإسرائيل، يمد جسراً إلى أوروبا عبر اتحاد الدول من أجل المتوسط ، أو الاتحاد المتوسطي أو أي تسمية أردتم ، المهم أنه  يمهد لنوع من التعاون والتناغم بين هذين النظامين، مع بقاء الدول شرق أوروبا وغرب روسيا عرضة للتجاذبات الدولية، ومع بدايات مضبوطة لعودة الصراعات والتجاذبات في آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا، تمهيداً لدخول هذه المناطق طوعاً أو كرهاً بنظم إقليمية فيها لا تتطاول على المفهوم العام والعدالة التي حددها النظام الدولي والعالمي، ولا تخل بنظام توازن القوى.

في مشروع النظام الاقليمي المتوسطي سابقا، شكلت سوريا الأسد وليبيا القذافي (بغض النظر عن طريقة  حكم الطرفين والحكم عليها سلباً أو إيجابا ) وقدرة الشعوب العربية والاسلامية على استيعاب التحول الهائل في المنظومة الفكرية والعقائدية وصولاً إلى الاقتصادية منها، الحائل أو المانع دون التسريع في عملية التحول هذه.

لكن ومنذ انطلاق ما عرف بـ “الربيع العربي” وتحديداً مع خروج ما يعرف بـ “داعش” إلى الساحة الإقليمية  بالتزامن مع إخافة المسلمين من بعضهم، انقلبت الموازين، دول سقطت، وشعوب تدحرجت في أتون الفتنة المذهبية، القومية والإنسانية. سقطت مجمل القيم الاخلاقية وباتت الساحة مهيأة للتطبيع.

وكأننا أمام المشهدية ما قبل الأخيرة من لعبة النظام الإقليمي، مشهدية فيها الكثير من الصعوبات وسفك الدماء، كما عبّر عنها كسينجر في أحد أشهر تصريحاته منذ ما يزيد عن عامين، حين تحدث عن حرب عالمية ثالثة، وعن موت أكبر قدر ممكن من العرب على يد أسرائيل، وعن ضربه لإيران تكون إسرائيل أكبر المستفيدين منها، وعن مواجهة عالمية بين روسيا والصين من جهة وأمريكا وحلفائها من جهة أخرى، وعن أن إسرائيل ستكون قد سيطرت على ما يقارب نصف الشرق الاوسط.

فها هي سوريا على ما يبدو تستعد لمعركة متعددة الاطراف، وها هو اللاعب الأساسي يدخل اللعبة بشكل مباشر، ما يؤكد نظرية الحرب الثالثة لكن ضمن جغرافية عربية عموماً وسورية – عراقية – يمينة خصوصاً، وها هي مصر النظام تنفض ثوب القومية العربية  والنزعة الإسلامية، وتعيد تموضعها في المعادلة الشرق اوسطية .

في هذا الاطار نعتقد أن ردود الفعل المصرية الداخلية على الانعطافة المصرية الكاملة باتجاه النظام الإقليمي المتوسطي والتي عبرت عنها الخطوات التي اعتمدها الفريق السيسي مؤخراً باتجاه المملكة العربية السعودية، من شأنها إذا ما اتسعت أن تسهم في تأخير أو تعطيل هذا المشروع الذي لن ترى فيه شعوب المنطقة أي خير، خصوصاً في ظل المرحلة الحساسة التي تمر فيها الساحة الإيرانية على مستوى السياسات الخارجية وحاجتها الملحة إلى اتخاذ القرار بين الاستمرار في حمل القضية والوقوف في خط الممانعة أو الالتحاق بركب تحسين العلاقات الخارجية خارج هذه المنظومة، أي الاختيار بين إيران الدولة أو إيران القضية.

*موقع انباء الاخباري /  جدران غير مرئية لحرب قد لا تبقى باردة ، بتاريخ : 9/3/ 2016

1- http://alwaght.com/ar/News/17278

2- نقول مساحات جغرافية او دولا مشوهة ، وليس دولا بالمفهوم التقليدي ، لان التعاطي معها يهمش جانبين مهمين من أسس الدولة : السيادة / الحدود ، والشعب / الامة حتى بالنسبة لبعض الدول الاوربية التي نعتقد ان بعضها قد يعاني خطر التجزئه واعادة التركيب للحدود .

3- كسينجر ، هنري / النظام العالمي : تاملات حول طلائع الامم ومسار التاريخ ،ترجمة فاضل جتكر ، بيروت : دار الكتاب العربي ، 2015.ص 18 .

4- كسينجر ، 2015، ص 40 .

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.