رحل منتصراً . . فماذا عن التشافيزية؟


admin-ajax

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
خليل حسين:
لطالما ادعت وتغنّت الولايات المتحدة الأمريكية بالحديقة الخلفية للبيت الأبيض المتمثلة بجارتها القارة اللاتينية الجنوبية . فواشنطن لم تكد تتنفس الصعداء بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومحاولة تقليم أظفار كل من كوريا وكوبا ومن أسمتهم في ما بعد بمحور الشر، وفي أحسن الأحوال الدول الفاشلة أو المارقة، أطل عليها هوغو تشافيز من فنزويلا ليقارع سياساتها في عقر دارها، ويحاربها في الأدوات والوسائل التي تستعملها هي .

ففي وقت كانت أواخر السلالات الحمر تنقرض سياسياً، عادت اشتراكية تشافيز لتشحذ همم الكثيرين من المحبطين سياسياً والمكتئبين فكرياً، وحوّلت إمكانية مقارعة الرأسمالية وأدوات العولمة ووسائلها واقعاً ملموساً ليس في أمريكا اللاتينية بل في غير مكان من العالم، وبخاصة المناطق التي عانت الكثير من السياسات الأمريكية غير المتوازنة .

ربما تجربة تشافيز في الحكم لم تعجب البعض، لكنها كانت بنظر شعبه وبخاصة الطبقات المهمّشة وسيلة لإعادة هيكلة المجتمع الفنزويلي على قواعد وأسس تخلت عنها إمبراطوريات اشتراكية سادت ثم بادت بعد حكم استمر سبعة عقود ونيفاً من الزمن، في ما التجربة التشافيزية، إذا جاز التعبير، أثبتت نجاعتها في الكثير من حلبات النزاع مع الرأسمالية في زمن انفرادها في حكم العالم وشعوبه ودوله وأمراء سياساته .

وبصرف النظر عن تعميم هذه النجاحات على غير واقع سياسي في أي دولة، وبصرف النظر أيضاً عن الموقف المبدئي منها، ربما تبقى تجربة تستحق التوقف عندها وطرح الأسئلة المتعلقة بمستقبلها وآثارها المحتملة في فنزويلا وغيرها من أصقاع العالم .

في المبدأ أيضاً، تبقى هذه التجربة الملتصقة بصاحبها نموذجاً من نماذج رؤساء حكموا بلادهم وحققوا فيها نجاحات فارقة، إلا أنه من الصعب استنساخ الكاريزما القيادية للقيادات وتجاربها وأساليبها في الحكم على أشخاص آخرين وإن كانوا في البيئة الاجتماعية والثقافية والحضارية نفسها، بحكم خصوصية كل زعيم أو قائد أو مفكر، لكن هذا الأمر لا يعني بالضرورة عدم تكرار الأشخاص الذين يتعاقبون على الحكم، وإن كانت ستأخذ وقتاً يبدو في كثير من الأحيان طويلاً .

والتجربة التشافيزية إن صح توصيفها كظاهرة سياسية وأسلوب حكم، هي نتاج واقع المجتمع اللاتيني بشكل عام والفنزويلي بشكل خاص، ومن الممكن أن تتكرر وتتعدد مظاهرها في غير مكان، لكن ذلك مرهون بالعديد من المسائل الخاصة بكل بلد ومجتمع على حدة، إذ من الصعب أن تتوافق وتتطابق هذه الظروف والمسائل لتصبح قاعدة للحكم تصلح في كل زمان ومكان إلا في حدودها الضيقة التي يصعب التعميم فيها .

طبعاً، ثمة الكثير من أنصار هذه التجربة يرون أن مقارعة تشافيز الولايات المتحدة الأمريكية وانتصاره عليها في الكثير من المعارك السياسية في غير مكان، أعطى هذه التجربة زخماً عالمياً يمكن تعميمه على المجتمعات المماثلة، لكن في المقابل ثمة من يقول إن ظروف المواجهة في ظل التوازنات الدولية القائمة هي في أحسن أحوالها، نوع من المشاغبة السياسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي وليدة ظروف ووسائل المواجهة ليس إلا . والدليل على ذلك أنه رغم العداء المستشري الذي كنّه تشافيز لواشنطن، فلم يقطع نفطه عنها وهو أمر يبدو من المفارقات الغريبة في السياسة إن لم ندرك أن تشافيز كان براغماتياً في تعاطيه السياسي الدولي، وهذا ما أعطاه دفعاً وقيمة إضافية في بريقه السياسي المحلي والإقليمي والدولي .

وبصرف النظر عن هذه المقولة أو تلك، تبقى هذه التجربة السياسية التي مضى بها هوغو تشافيز، لها دلالاتها الرمزية الخاصة التي تستحق التدقيق والمتابعة في زمن قلَّ فيه الذين يقولون لا .

فكما كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر نموذجاً للمواجهة ضد سياسات الغرب في حقبة الخمسينات وما تلاها من القرن العشرين، أتى تشافيز محاولاً تعميم اشتراكية منقحة ومزيدة للقرن الواحد والعشرين . تجمع الاثنين أشياء كثيرة، منها فترة الحكم لكل منهما وهي أربعة عشر عاماً تقريباً، علاوة على سن الشباب الذي تزعَّما في خلاله فترة حكمهما وصولاً إلى وفاتهما، الأول رحل شامخاً بمواقفه، والثاني رحل واقفاً بمواجهاته، جمع الاثنين تحديهما لسياسات الغطرسة، ورحل كل منهما في ظروف حساسة لبلديهما ومنطقتهما . هل ستتكرر التجربتان؟ يُجمع علماء الاجتماع كما السياسة، على أن الأمم والشعوب لا تعيد إنتاج قياداتها بيسر وسهولة، ذلك يستلزم الكثير من الوقت والظروف الذاتية والموضوعية . فهل ندرك نحن العرب مدى فجاعة خسارة الكبار في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة إلى الموقف والكلمة؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.