ردْ طهران على “غزوة إيران” في لبنان

sayed hassan - sayed ali khamenaey - huzbullah- iran

 

في معنى إتهام إسرائيل..

أثار تصريح سفير إيران في لبنان السيد ‘غضنفر ركن أبادي’ الذي حمّل فيه إسرائيل مسؤولية الهجوم الإرهابي الفاشل الذي استهدف السفارة الإيرانية في بيروت جدلا واسعا بين أنصار المحور الوهابي وأنصار محور المقاومة، وهو جدل يْذكّرنا إلى حد ما بالصراع الإديولوجي التاريخي الذي كان قائما حول “المعنــى” بين أنصار منهج التفسير استنادا إلى ظاهر النص، وأنصار منهج التأويل القائلين بضرورة البحث عن المعنى في باطن النص، باعتبار أن اللغة محدودة وقاصرة، وبالتالي، لا يمكنها أن تْعبّر بدقّة عن مْراد المْتكلّم إلا إذا عْرف من هو المْتكلّم، واللغة التي يستعملها (الرمز والإشارة في كيمياء العبارة)، والمراد من الكلام إعتمادا على أدوات التأويل من تطابق وتشبيه ومجاز وكناية وغيرها…

تصريح سفير إيران هو بالمحصلة كلام دباوماسي، يعني ظاريا ما يقول، لكنه من حيث الباطن لا يقول كل ما يجب أن يْقال، ومعلوم أن الكلام الدبلوماسي هو كلام مشفر يحمل رسائل مرموزة لمن يهمهم الأمر بأسلوب عال المستوى لا يفهمه إلا العارف بخبايا اللعبة السياسية المعقّدة.

وبالتالي، فاتهام إسرائيل بالوقوف وراء تفجيرات السفارة الإيرانية ببيروت كلام دقيق يشير مباشرة إلى المستفيد من العملية، لكنه لا يحصر التهمة فيه دون سواه، لأن العارفين بقضايا الأمن عموما والمختصين في إرهاب القاعدة خصوصا، يدركون بحكم قواعد علم الجريمة من جهة، والخبرة المتراكمة في هذا المجال من جهة أخرى، أن كل عملية إرهابية إقليمية أو دولية معقدة تتبناها القاعدة ضد أهداف سياسية كبيرة لا يمكن أن تنفذ بطريقة عشوائية، وتحتاج إلى أربع مستويات من التدخل:

المستوى الأول، هو ما يسمى بـ’العقل المْدبر’ الذي يفكر ويدبر وفق رؤية استراتيجية أمنية تخدم دوره المحوري، فيضع لها أهداف عملية يسعى إلى تحقيقها من خلال قناتين: قناة ‘الموقف السياسي’ المعبر عنه بالتصريحات والضغوطات وغيرها، وقناة ‘الفعل المادي’ المعبر عنه بالعنف التخريبي الظاهر (الحرب) أو المستتر (الإرهاب) بهدف إفشال مشروع الخصم من خلال تعطيل إستراتيجيته ومقارباته السياسية. وهذا هو المستوى الذي قصده السفير الإيراني بتصريحه، وهو ذات المستوى الذي إتهمه حزب الله بالوقوف وراء عملية التفجير الإرهابية، لأنها تخدم إستراتيجية الكيان الصهيوني وأهدافه.

المستوى الثاني، هو ‘المْخطّط’، وهذا المستوى هو ما يمكن تسميته بـ’دور الوكيل’، وفي كل العمليات الإرهابية التي قامت بها القاعدة على المستوى الدولي والإقليمي، كانت إدارة مخابرات الدول المعنية بها هي من تتولى مهمة التخطيط العلمي الدقيق لكل تفاصيلها، والتي تتضمن وضع سيناريو تفصيلي للعملة من ألفها إلى يائها، لأن المْخطّط هو الرأس المدبر لـ’خطة التنفيذ’، بحيث يقوم بوضع خطة العمل بناء على دراسة شاملة ومعطيات استخبارية دقيقة تتضمن طبيعة الهدف والفئات المستهدفة وأسلوب أو طريقة الإستهداف والوسائل المستعملة (بشرية، مادية، لوجستيكية، تمويلية إلخ…) ومكان التنفيد وساعته وما إلى ذلك…

المستوى الثالث، هو ‘فريق التنسيق’، وهذا الفريق يتكون من جهات أمنية محلية تقوم في مرحلة أولى بمد المستوى الثاني بالمعلومات الميدانية المطلوبة لوضع الخطة، وفي مرحلة ثانية تقوم بالتنسيق الأمني لتوفير التغطية للفريق المنفذ على الأرض من تسهيل الدخول والإقامة وتوفير الآليات والمعدات والمتفجرات وغيرها، وفي المرحلة الثالثة تقوم بالتنسيق والإشراف من بعيد على عملية التنفيذ. كل ذلك من غير أن تكون ظاهرة في الصورة، وعادة ما يعتمد الفريق الأمني على رجال دين وفاعلين إقتصاديين وخبراء في الأمن والعمليات العسكرية من المتقاعدين للإشراف على الفريق المنفذ وتسهيل مهمته، وطبعا لا يمكن الحديث عن تورط الجهات الأمنية في هكذا عمليات عسكرية دقيقة ولها أبعاد وتداعيات خطيرة من دون غطاء سياسي من مسؤولين بارزين يقبعون في الظل.

المستوى الرابع، هو ‘فريق التنفيذ’، وهذا الفريق عادة يتم إعداده إديولوجيا ونفسيا عبر عمليات غسيل دماغ معقدة يقوم بها رجال دين، وتداريب ميدانية في العمل العسكري والمتفجرات يتولاها قادة وخبراء أمنيون يعملون لحساب التنظيمات الإرهابية في معسكرات تقيمها دول معروفة بانخراطها في المحور الداعم للإرهاب.

وإذا وضعنا تصريح السفير الإيراني في سياق ما يسمى علميا بـ (Modus Operandi) أو (طريقة العمل) التي أوجزنا مفاصلها أعلاه، نكون أمام المشهد التالي: العقل المدبر: إسرائيل.. العقل المخطط: عراب الإرهاب الدولي بندر بن سلطان مدير المخابرات الإسرائيلية وحليف إسرائيل المخلص وعميل المخابرات الأمريكية الوفي في الشرق الأوسط.. فريق التنسيق: مشاركة أمنية من عناصر من الأمن الداخلي المعروفة بولائها المطلق لجماعة السعودية بلبنان، بتغطية سياسية من فريق الحريري وشركائه، وانخراط حركي لتوفير البيئة الحاضنة من قبل بعض رجال الدين المتحمسين الذين يتبنون الفكر الوهابي التكفيري ويروجون له.. فريق التنفيذ: إرهابيون محليون أو مستقدمون من الخارج، مدربين بشكل جيد على العملية قبل تنفيذها، قد تكون خلية واحدة أو أكثر وفق طبيعة ونوع العملية.

وبالتالي، فالسفير الإيراني كما حزب الله ليسوا في حاجة لتوزيع التهم على كل هذه المستويات المعروفة للخبراء في مجال الإرهاب، بل تكفي الإشراة إلى العقل المدبر الذي هو ‘إسرائيل’ ليفهم من يهمه الأمر بقية حلقات السلسلة من مستواها الأعلى إلى الأدنى.

في تبني العمليات الإرهابية..

وبالنسبة لـ’غزوة إيران’ كما سميت العملية الإرهابية ضد سفارة طهران في بيروت، من الأهمية بمكان ملاحظة ما يلي:

أن العملية لا علاقة لها بالقاعدة، لأن من عادة القاعدة أن لا تتبنى عملياتها الإقليمية والدولية إلا بعد مرور شهر على الأقل من تاريخ تنفيذها، كما أن من يقوم بالإعلان عنها هو الظواهري شخصيا فيباركها، ومن عادة الظواهري أن يصدر بيان تهديد ضد الدولة المستهدفة بأسابيع لا تقل عن أربعة قبل تنفيذ العملية. هذا أمر معروف لدى كل أجهزة المخابرات الغربية.

وبالتالي، فتبني ما يسمى بـ’كتيبة عبد الله عزام’ لتفجير بيروت لا يعدو أن يكون تضليل في تضليل، يؤكد أن من يقف وراء العملية هو جهاز مخابرات دولة إقليمية. وما يؤكد هذا المعطى، أن من تْلي البيان بإسمه تبيّن أنه لا يزال يقيم في السجن بالسعودية، وفق ما أفادت جريدة الأخبار أمس، وأنه آخر من يعلم.

أن القاعدة تحولت إلى ‘ماركة مسجلة’ (Label)، كلما نفذت مخابرات إحدى الدول الراعية أو الداعمة للإرهاب عملية إجرامية تنسبها للقاعدة من خلال بيان مزور للتضليل، غير أن مثل هذا الأسلوب لم يعد ينطلي على الخبراء.

في معنى إنتقاء الأهداف..

الهدف يمثل دائما رسالة سياسية للجهة المستهدفة، وبالتالي، لا يمكن الحديث عن مجموعة أهداف في عملية واحدة، كأن نقول أن إستهداف السفارة الإيرانية هو رسالة لحزب الله وسورية وإيران يْهدف من ورائها إلى وقف معركة القلمون وانسحاب حزب الله من سورية و وقف إيران دعمها للنظام والمقاومة في سورية.. هذا خلط لا يستقيم بالمنطق السياسي الذي تستند إليه العمليات الإرهابية التي دائما ما تكون محددة الهدف.

فمثلا، إستهداف الضاحية الجنوبية بتفجيرين إجراميين كان الهدف منه الضغط على حزب الله للإنسحاب من القتال في سورية، وذلك من خلال ترويع حاضنته الطبيعية لتأليبها ضده وتثويرها لمطالبته بالإنسحاب بإعتبار أن ما أصابها هو نتيجة لتدخله المباشر في قتال التكفيريين بسورية. هذا واضح لا لبس فيه، غير أن جمهور حزب الله لا يشرب من هذا الماء النتن، ومستعد للتضحية بالغالي والنفيس للدفاع عن مقاومته، ما أسقط هذا الهدف وجعل حزب الله يْصرّ أكثر من أي وقت مضى على إتمام مهمته بعد أن زادت القناعة بصوابية خياره.

واستهداف مسجدين بطرابلس بعد ذلك، كان الهدف منه إشعال فتنة مذهبية سنية شيعية من خلال إتّهام الطائفة العلوية زورا وبهتانا بالوقوف وراء قتل السنة في بيوت الله.. لكن الخطة فشلت نظرا لمنسوب الوعي والعقلانية التي تتمتع بها الطائفة العلوية في لبنان، وعدم إنجرار حزب الله لأثون صراع لا يخدم غير أهداف إسرائيل ووكلائها في المنطقة وأدواتها في لبنان، وبفضل حزم الجيش ونجاحه ولو نسبيا في ضبط الوضع الأمني بين الجانبين. وبالتالي، تم إفشال هذا الهدف.

من يريد الإنتقام من النظام السوري، كان بإمكانه إستهداف سفارة دمشق في بيروت، لكن مثل هذا الهدف لا يْقدّم ولا يْؤخّر في الحملة العسكرية الشرسة والسريعة التي يقوم بها الجيش العربي السوري لسحق الإرهابيين أينما وجدوا في ميادين القتال المفتوحة بسوريا، ومن يريد الإنتقام من حزب الله بإمكانه أيضا مجابهته في أرض المعركة هناك إن كان يملك الجرأة والشجاعة ويشرب من حليب السباع بدل بْول البعير.

أما استهداف السفارة الإيرانية في بيروت، فهذا أمر آخر لا علاقة له بحزب الله وسورية ولا من يحزنون.. كما أن لا علاقة له بالنووي الإيراني الذي تبيّن أنه مجرد غطاء لما هو أكبر قلقا ورعبا للإسرائيلي والسعودي معا، لأنهما المعنيان الرئيسين بالإتفاق السري الذي يجري التحضير له بين الأمريكي والإيراني تحت عنوان “الأمن الإقليمي”. هذا أصبح اليوم أكثر من مْؤكد، بناءا على ما أوردناه من معطيات ومعلومات في المقالة السابقة “لغز إستهداف السفارة الإيرانية بلبنان”. وهو ما يجعل منهما المستفيدان من عملية “غزوة إيران” الإرهابية بلبنان.

وما يؤكد ما ذهبنا إليه من نتائج بالتحليل في المقالة الآنفة الذكر، يتبيّن من خلال الرد الإيراني الرسمي الواضح والصريح، والذي جاء هذه المرة على لسان مساعد وزير الخارجية الإيراني السيد ‘حسين أمير عبد اللهيان’…

الــرد الإيرانــي المزلـــزل..

إسرائيل كما السعودية تحالفوا وتعاونوا وفكّروا ودبّروا وخطّطوا ونظّموا ونسّقوا ونفّذوا عملية بيروت بمساعدة أدوات محلية وأخرى مستوردة من خارج لبنان على أمل أن يأتي الرد الإيراني انفعاليا عنيفا.. لماذا؟..

لأنهما المتضرران من الإتفاق الأمريكي الإيراني السرّي، ما استعدعى تحالفهما المشبوه الذي تحدثت عنه وسائل الإعلام الدولية هذا الأسبوع، وخصوصا جريدة “الصانداي تايمز”، والذي كذّبنه السعودية من باب المكابرة.

ولإن الرد من خلال العنف المادي في لبنان كما كان متوقعا، ستستغله حتما إسرائيل والسعودية للبكاء والنباح والعويل وإشهار ورقة تقول للعالم، أن إيران غير مؤتمنة على أمن المنطقة، وأنها تسعى لزعزعة الإستقرار والسيطرة على لبنان من خلال حليفها حزب الله.. تماما كلعبة الخامس من أيار التي إستدعت ردة فعل حزب الله في والسابع من أيار عام 2008 دفاعا عن سلاح الإشارة، حيث قام فريق 14 الشهر باستغلال هذه الواقعة شر استغلال وتاجر بها بشكل خبيث حتى أصبحت بمثابة قهوة الصباح تْفتح بها العيون في لبنان كل يوم جديد من باب “حتى لا ننسى أن سلاح المقاومة لم يعد موجها لإسرائيل بل للداخل للبناني ضد شركاء الوطن”.

وحيث أن إيران التي استهدفت أذكى وأعقل من أن تنجر وراء ردود أفعال عاطفية تخدم أهداف إسرائيل ومملكة الشر الوهابية.. ولأن إيران دولة مؤسسات تتصرف بعقلانية لا بكيدية كما تفعل المشيخة الوهابية الرجعية التي تدار بمنطق القبيلة، وتفهم أن حساسية اللحظة التي تفاوض فيها الأمريكي حول دورها الإقليمي في المنطقة يْحتّم عليها التهدأة وعدم الإنجرار وراء هذا النوع من الإستفزازات الغبية، فقد إختارت إيران الرد بدبلوماسية قوية تختزل المشهد المقبل في المنطقة برمته، وتضع السعودية وإسرائيل في حجمهما الطبيعي، ما يزيد من قلقهما بل وجنونهما المنفلت من كل عْقال.

قال السيد ‘حسين أمير عبد اللهيان’ من عين التينة أمس الأربعاء وهو يشيع جثامين الشهداء إلى مثواهم الأخير في ‘روضة الشهيدين’ حيث رحمة الله الواسعة: “الأمن مفهوم متكامل غير قابل للتجزئة، وأمن لبنان من أمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.

هذا معناه أن لبنان أصبح تحت المضلة الأمنية الإيرانية مثله مثل سورية والعراق، أحب من أحب وكره من كره، ومن لم يعجبه هذا الترتيب الإقليمي الجديد فليبلّط البحر إن إستطاع.

وستكون لنا عودة لتفصيل القول في معنى “الأمن الإقليمي” الذي أوكل لإيران، وتفاصيل كواليس المباحثات في جنيف والعراقيل التي حاولت وضعها فرنسا بالوكالة عن إسرائيل والسعودية، ومن ضمنها إدراج بند إلتزام إيران بأمن إسرائيل. وهو ما رفضته إيران بالمطلق، ورد عليه الإمام ‘علي خامنئي’ في كلمته أمس بالقول “إسرائيل كيان آيل للزوال”. بمعنى أن حفظ أمن الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين ومقدسات الأمة من قبل الجمهورية الإسلامية خط أحمر دونه الشهادة، ولن يتم القبول به كبند ضمن الإتفاق الإيراني الأمريكي الغربي حتى لو فشل الإتفاق.

مشيخات الخليج على كف عفريت..

أما مشيخات الخليج، فتفيد معلومات مؤكدة أن الرئيس ‘أوباما’ والحزبين (الجمهوري والديمقراطي) توصلا إلى إتفاق نهائي بضرورة إحداث تغيير ديمقراطي في الخليج، بعد أن وصل الجميع إلى قناعة مفادها، أن الحرب على الإرهاب التي ستكون عنوان المرحلة المقبلة وفق الإتفاق الروسي الأمريكي، تقتضي إجراء تغييرات جذرية في السعودية ومشيخات الزيت الرجعية، ذلك أن الإرهاب “فكر” قبل أن يكون “فعل”، وبالتالي، فمحرابته تكون بالقضاء على جذور هذا الفكر الوهابي التكفيري ومناهج تدريسه في منبعه ومسقط رأسه، ما دام قتل فلول الإرهابيين لا ينهي هذه الظاهرة التي أصبحت تشكل خطرا جسيما ضد الإنسانية جمعاء في مشارق الأرض ومغاربها، ما يستوجب إقتلاع هذه النبتة الخبيثة من جذورها.

و وفق ذات المعلومات، فإن الشروع في ما أصبح يعرف في واشنطن بـ”ربيع الممالك في الخليج” مخطط له أن يبدأ في غضون شهرين، مع مطلع سنة 2014 الجديدة.

فهنيئا للبنان وأحرار لبنان بالمضلة الأمنية الإيرانية التي تعزز من مكانة وقوة حلف المقاومة، وهنيئا لشعوب الخليج بثوراتهم المجيدة المقبلة من أجل الحرية والديمقراطية ونهاية عهود الظلم والظلام والفساد والإستبداد.

 

أحمد الشرقاوي – بانوراما الشرق الأوسط

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.