سقوط العمالقة: تاريخ إنجلترا الرسمي يحجب مآسي الهند وإيرلندا وأستراليا

صحيفة البيان الإماراتية:
على الرغم من حجمه الكبير، الذي بلغ ألفاً إلا 15 من الصفحات، وبرغم تشابك عناصر السرد بين سرد تاريخ الربع الأول من القرن العشرين، وعنصر الإبداع الروائي المستند إلى الأحداث الواقعية، وإلى الشخصيات الحقيقية- التاريخية إن شئت- ممن خلّفوا طابعهم وتأثيراتهم في تلك الأحداث، إلا أن هذا الكتاب حاز عند صدوره، أخيراً، اهتماماً واسعاً من جانب القراء والنقاد على السواء.

وخاصة بفضل عناية المؤلف في تمحيص وتحرير إيقاع أحداث تلك الفترة، وفي قارة أوروبا على وجه الخصوص، مع المزج الإبداعي الواعي بينها وبين خيوط فن القصّ، فيما أصبح يشكل بالنسبة لهذا الكتاب باكورة تجمع بين فن الإبداع وعلم التاريخ، لثلاثية يخطط المؤلف لاستكمالها ضمن مشروعه الروائي- التاريخي الطموح، مع التركيز بشكل خاص على أحداث وملابسات الحرب العالمية الأولى، بكل ما أفضت إليه من تغيير خريطة أوروبا، وما أدت إلى تدميره، بل وإزالته أصلاً، من كيانات كانت تحمل عنوان الإمبراطوريات، ولكنها مع زمن التطور كانت أقرب إلى الديناصورات السياسية المحكوم عليها، بفعل قوانين التطور، بالزوال والاندثار، تستوي في ذلك إمبراطوريات روسيا وبروسيا والنمسا والمجر، مع إمبراطورية بني عثمان التركية في إسطنبول.

أما الجزء الثاني من هذه الثلاثية، فهو يحمل بدوره عنوان «شتاء العالم»، ويغطي الفترة 1933-1949 ويقع علي غرار سابقه – في 940 صفحة.

التاريخ قصة، في التحليل الأخير، وليس صدفة أن نلمح ذلك التمازج في الاشتقاق اللغوي، في الإنجليزية مثلاً، بين مصطلح التاريخ (هستوري)، ومصطلح القصّ (ستوري)، أو أن نطالع في عربيتنا الشريفة التقارب نفسه، حين يعرف العرب المؤرخين بأنهم الرواة الذين لديهم جعبة لا تكاد تنفد من أخبار الأولين، أو حتى أحوال المُحدثين، الذين يستقي من حكاياتهم مزيج العبرة والمتعة في آن معاً.

وإذا كان المؤرخون الرسميون يُتهمون أحياناً بالانحياز، بحكم الوظيفة، إلى الحاكم، فإذا بهم يتبعون منطق التبرير أو التجميل لما يصدر عنه وعن إدارته ومعاونيه من سلوكيات أو قرارات، فثمة معين آخر يعمد الدارسون إلى التماسه، ويتمثل أحياناً في الأعمال الإبداعية التي يتحّول معها التاريخ إلى رواية، وتنصهر الأحداث بين سطورها علي جمْر الفن، فإذا بها تقدم صورة أقرب إلى الصدق والتلقائية، بعيداً عن منطق التسويغ أو التجميل.

بين هوميروس ومحفوظ
هكذا التمس اليونان تاريخ بلادهم في ملحمتي الإلياذة والأوديسة، وفي عصور أقرب القرن التاسع عشر- توقف الإنجليز ملياً عند واحد من أهم مبدعي الأدب في تاريخهم، اسمه «السير والتر سكوت» (1771-1832)، أراد أن يقدم إلى الناس تاريخ وطنه الإسكتلندي، فكان أن تحول بهذا التاريخ من مجرد سرد جاف للوقائع والسير والأحداث، إلى حيث أصبح التاريخ حكاية تجمع بين دقة السرد ومتعة الحديث، على نحو ما أصبح فصيلاً متفرداً في تراث الآداب الإنجليزية، تحت اسم «الرواية التاريخية»، التي يُعد «والتر سكوت» رائداً من روادها، وخاصة في روايات شغفت بها سينما هوليوود في زماننا، ما بين «إفانهو» إلى «سيدة البحيرة» إلى «ويفرلي» وغيرها.

في تاريخنا العربي الحديث، لا ينسى القراء من أجيال المخضرمين سلسلة «روايات تاريخ الإسلام»، التي أبدعها أديب من أهل الشام اسمه «جورجي زيدان» (1861-1914)، ومن خلال إبداعات هذا المثقف العربي الانتماء والمسيحي الديانة، أطلت أجيال سبقت من المسلمين في كل أنحاء الوطن الكبير على مراحل شتى من تاريخ عقيدتها السمحاء وأمتها، التي تعددت مراحل عطائها، ابتداء من فجر العقيدة المحمدية، وحتى غروب زمن الدولة العثمانية التركية، وليس صدفة مثلاً أن الأديب «زيدان» قرر أن ينشئ مؤسسة باذخة للطبع والنشر، فكان أن أنشأها في القاهرة، ليختار لها اسماً له إيقاعه الإسلامي الجميل وهو: «دار الهلال» التي زاد عمرها الآن على المئة سنة وعشرين.

سقوط العمالقة
في ضوء هذا كله، نفهم احتفال الأوساط الأدبية في إنجلترا بصدور أحدث كتاب ينتمي إلى هذا النوع من الإبداع الذي يجمع كما أسلفنا- بين متعة القصّ وموضوعية البحث.

هذا الكتاب الذي نعايش محتوياته وطروحاته في سطورنا الراهنة، اختار له مؤلفه، الروائي المؤرخ البريطاني «كين فوليت» العنوان التالي: سقوط العمالقة.

ويبدو أن تناول هذا السقوط، المدوي، أو العملاق كما قد نسميه، قد احتاج من مؤلفنا جهداً واسع النطاق، لدرجة أن يصدر كتابنا في حجم يكاد يكون غير مسبوق، يقارب الألف صفحة (إلا 15 صفحة فقط لا غير).

والواقع أن القارئ المتصفح لهذا الكتاب لا يلبث أن يجد نفسه أمام الجزء الأول من ثلاثية متكاملة، تشكل مشروعاً أدبياً وتاريخياً بالغ الطموح لمؤلفها، تماماً بقدر ما كانت رواية «بين القصرين» هي الجزء الافتتاحي للعمل الشامخ الذي أبدعه أديب العربية الأشهر «نجيب محفوظ» رحمه الله، حيث جاء تمهيداً لما تبعها بعنوان «قصر الشوق» ثم «السكرية»، وهي ثلاثية الراحل العربي الكبير.

وفيما شمّر نجيب محفوظ عن ساعد الإبداع ليروي حكاية مصر العربية منذ بواكير القرن العشرين، فقد فعل مؤلفنا الإنجليزي «كين فوليت» الشيء نفسه، إن لم يكن قد اختار البداية الزمنية ذاتها، وهي العقد الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد عام 1911.

وربما يكمن الفرق في أن محفوظ ركز عمله الروائي على أسرة من أواسط التجار في القاهرة القديمة، (قاهرة المعز والأزهر وسيدنا الحسين رضي الله عنه وحي الجمالية العتيق العريق)، وهي أسرة السيد أحمد عبد الجواد، فإن الأديب الإنجليزي ركز عمله الإبداعي وبحثه التاريخي على عمالقة تلك الفترة من مطالع القرن العشرين، وهم حكام أوروبا في تلك الحقبة، المنحدرون بداهة من الهزيع الأخير للقرن التاسع عشر.

مسرح واسع للأحداث

من هنا، يتميز العمل الإنجليزي باختيار أفق أوسع، ومسرح أعرض، وربما أشمل لحكاية أحداث تلك الفترة الحافلة، كيف لا وقد انقضت برهة زمنية وجيزة علي مفتتح الزمن في كتابنا، قوامها 3 سنوات وربما أقل، فإذا بعالم تلك الحقبة وقد واجه أخطر وأتعس تجربة لكيانه وقيمه وأعرافه، هي اندلاع حريق الحرب العالمية الأولى، الحرب العظمى كما وصفها آباؤنا العرب في تلك الفترة، فكان أن دمرت نفوساً وحطمت أوضاعاً ونظماً سياسية ودولاً، بل وإمبراطوريات.

ومن البديهي أن يكون في تلك الملابسات التي واكبت دراما تلك الحرب العظمى، أبعاد تراجيدية شكلت مادة سائغة للعمل الذي نعايشه في هذه السطور.

من هنا يحق للناقد الأميركي «روجر بويلان» أن يكتب قائلاً:

هكذا اختار المؤلف زمن (مطالع) القرن العشرين مسرحاً لدراما تجمع بين الصعود والانهيار، بين الشموخ الرفيع والبؤس التعيس، ففي هذه البانوراما الحافلة، يتابع القارئون صعود وسقوط الإمبراطوريات، واندلاع ودمار الحروب، ويعايشون شخصيات تنتمي إلى أوساط اجتماعية متباينة، وإن كان مؤلف كتابنا «كين فوليت» ينحاز كما يوضح الناقد «بويلان» – إلى الأخيار الطيبين، الذين لا يتردد في أن ينتصر لهم، فيما تقتصر فظائع التاريخ – كما يقول الناقد المذكور- على الأشرار الذين لا يلبث أيضاً أن يتابع ما يواجهون من مصير سيئ ومحتوم.

العمالقة الذين يتناولهم كتابنا، هم في الأساس أصحاب التيجان في أوروبا عند بدايات القرن العشرين، استهلوا سنوات القرن وفي أيديهم أكثر من صولجان، يستوي في ذلك قيصر روسي من آل رومانوف في عاصمته بطرسبورغ، وقيصر ألماني من سلالة الإمبراطور «ولهلم»، الذي عرفه العرب وقتها باسم «غليوم»، وإمبراطور نمساوي من أسرة الهابسبورغ عاهلاً لمملكة النمسا والمجر (هنغاريا كما يعرفها العرب أيضاً)، هذا فضلاً عن عاهل تركي هو السلطان العثماني ساكن قصر يلدز المنيف والشهير على ضفاف البوسفور، الفاصل بين أوروبا وآسيا في إسطنبول، الآستانة، كما كان يعرفها كذلك عرب ذلك الزمان.

24 سنة من القرن
العمل التاريخي الروائي ينتهي به مؤلفنا مع حلول سنة 1924، ومعها يوضح هذا العمل كيف انتهت سيرة كل هؤلاء العمالقة، الذين اكتووا بلظى الحرب العالمية الأولى وصراعاتها الدولية المدمرة، ولم يبق منهم سوى واحد فقط، هو جورج الخامس، ملك بريطانيا العظمي في تلك الفترة.

ولأن المؤلف لم ينطلق من موقع المؤرخ المحترف، فقد آثر أن يشّيد معمار عمله من خلال أحوال خمس عائلات تابعت فصول وسطور كتابنا سيرتها، ومصائر أفرادها، أفراحهم وأتراحهم، وتقلّب ظروفهم الاقتصادية، بل ومواقع إقامتهم ما بين الغنى والفقر، وما بين إنجلترا وألمانيا إلى روسيا وأمريكا.

وربما أدى هذا التنوع إلى ما عمد إليه المؤلف من تخصيص 6 صفحات في مفتتح هذا الكتاب لبيان الشخصيات التي سيتابع سيرتها ومصائرها على مدار الأبواب والفصول، فإذا بنا نتابع بشغف تطورات حياتها وتقلبات مصائرها، وهنا تتعدد شخصيات العمل ما بين عامل مناجم بريطاني من مقاطعة ويلز، إلى شقيقته داعية حقوق الانتخاب للمرأة، إلى أرستقراطي من بروسيا الألمانية، إلى دبلوماسي أميركي من مقاطعة بافالو شمالي ولاية نيويورك، إلى الرئيس الأميركي «ودرو ويلسون»، داعية إعلان حق تعزيز المصير للشعوب عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، إلى استعماري عتيد.

كان أيامها عضواً شاباً في مجلس العموم البريطاني، وذاع صيته بعد ذلك، وكان اسمه «ونستون تشرشل»، هذا فضلاً عن شخصيات أخرى، ظهرت، بل اقتحمت، مسرح أحداث كتابنا، وإن كان ظهورها نادراً ومرتبطاً بسياق الأحداث التاريخية، التي أجاد مؤلفنا عرضها بعد جهد بحثي متعمق وجدير بالإعجاب، هنالك نصادف «لويد جورج» رئيس الوزراء الذي يصوره المؤلف في إهاب سياسي متدلّه أحياناً في حب النساء، إلى جانب «فلاديمير لينين» زعيم ثورة البلاشفة الروسية في عام 1917، وقد رسم الكتاب شخصيته من واقع دراسة سيرته – بوصفه زعيماً صارم الملامح، مكفهر الأسارير، وتسيطر عليه نزعة شبه مَرَضية من غرور العظمة.

الفقراء والموسرون
يفتح ستار الأحداث مع الفصول الأولى، لا في قاعة ملكية، بل في غياهب منجم الفحم في أرياف ويلز الإنجليزية.

وهنا، يكاد القارئ يلامس، أو حتي يعايش، تعاسة العمال الذين يهبطون كل صباح إلى القاع في أسفل السافلين، كما يقال، ويحمل كل منهم صرّة من قماش مهترئ، وتحوي أرخص أصناف الطعام وأشدها رداءة، بل وتعاسة، هذا فيما يتحول الكتاب من باب المقارنة إلى مأدبة تقام في اللحظة نفسها عند أهل الحظوة والثروة سكان الأدوار العليا – كما يسميهم الناقد «بويلان»، مقارنة بعمال المنجم تحت الأرض، فإذا بالمحظوظين وقد نعموا بسماط فاخر، يبدأ بالمقبلات الروسية، وفي مقدمها الكافيار، ثم الزبد الطازج، والسمك المدخن، وأنواع الرنجة، التي لا يتورعون عن الاستمتاع بها مع أقداح الشراب المعتّق، شمبانيا يحتسونها، وترجع كما يحرص المؤلف علي التوضيح – إلى عام 1892.

لا نملك كقارئين لهذا العمل- سوى الاعتراف بما يتحلى به مؤلفنا، الإنجليزي الجنسية، من نظرة نراها موضوعية حتى إلى تاريخ بلاده، أو بالتحديد إلى المناهج الدراسية التي يعلّمونها للناشئة في أصقاع الإنجليز.

إن «كين فوليت» لا يتورع عن نقد، بل كشف المستور – بشأن النظرة الأحادية الجانب التي يقدمون بها تاريخ بريطانيا إلى الناشئة المتعلمين في مدارس الإنجليز، يقول المؤلف في سطور كتابنا: عندما يقرأون كثيراً عن (عظمة) العدالة الإنجليزية، فأنت لا تجد ذكْراً من قريب أو بعيد لأمور أخرى (في تاريخ إنجلترا، ويعمد الفرقاء إلى سترها وإخفائها): هم لا يقرأون كما يضيف المؤلف بصراحة – عن سياط كانت تستخدم في ضرب الأستراليين، ولا عن المجاعة في إيرلندا، ولا عن المذابح في الهند (خلال حقبة الاستعمار البريطاني).

من هنا، يحمد النقاد لمؤلف هذا الكتاب كيف أنه لا يكتفي بسرد الوقائع – حتى ولو كانت مدققّة في إطار الحدث التاريخي- إن المؤلف يعيد تركيب الأحداث كيما يقدمها في إهاب بالغ التشويق، وقد أضفى عليها أكثر من لمسة إنسانية، ولكن دون أن يشوه السياق أو يحيد عن المسارات الزمنية أو الوقائع والأحداث الفعلية التي أصبحت محل تسليم أو إجماع.

ولعل هذه الجوانب من الحذق والمهارة، هي التي دفعت عدداً من نقاد هذا العمل يقاربون، حتى لا نقول يقارنون، بينه وبين العمل الروائي الملحمي الذي توفر علي إبداعه العبقري الروسي الشهير «ليو تولستوي» (1828-1910)، وأصدره كما هو معروف تحت العنوان الشهير: «الحـرب والسـلام».

المؤلف في سطور
لم يكن الكاتب الإنجليزي كين فوليت قد تجاوز سن السابعة والعشرين، حين أصدر عمله الروائي الأول بعنوان ما لبث أن حاز شهرة واسعة، وهو «عين الإبرة»، ومن ثم طبّقت شهرة هذا العمل آفاق الاهتمام الدولي، وبعده أصدر عمله المهم الثاني بعنوان «أعمدة كوكب الأرض»، ليشق الطريق إلى قائمة هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) عن كتب القمة المئة في آداب اللغة الإنجليزية.

وربما تكمن مشكلة القراء والنقاد في أن «فوليت» يكتب بإسهاب، لدرجة أن بعض أعماله تكاد تقارب الألف صفحة، وإن كانت تعوض عن هذا الحجم الكبير الجسيم أحياناً- قدرة المؤلف على الاحتفاظ باهتمام قارئيه، وخاصة ما يتعلق بتفرّده في تضفير الدراما بالتاريخ، ضمن جديلة تجمع بين الإبداع الروائي والعرض التاريخي.

وخاصة عندما تحّول المؤلف في الآونة الأخيرة من تواريخ القرون الوسطى إلى التاريخ الحديث، القرن العشرين بالذات، الذي أصبح المشروع الجديد للكاتب «فوليت» بعد أن أصدر باكورة ثلاثيته عن عمالقة حكام أوروبا من ملوك وأباطرة، عند مستهل القرن الماضي، وقد أطاحت تراجيديا الحرب العالمية الأولي بأغلبيتهم، فيما ظل القصر الملكي البريطاني في بكنغهام مستمراً في أداء دوره المراسيمي في بريطانيا. علي أن فصول وصفحات هذا العمل التاريخي الإبداعي الطموح قد تنوعت، من حيث مسارات الأحداث ومواقعها عبر العواصم المختلفة على خريطة القارة الأوروبية، بكل ما سادها من تعقيدات وتشابكات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.