سوريـــة.. مكســر الأوهــام و منبــث الأحــلام

assad - nasrullah - pic

أعلن الأمين العام للأمم المتحدة الثلاثاء، إستقالة المبعوث العربي والأممي الأخضر الإبراهيمي إلى سورية، بعد 20 شهرا من المناورات المكشوفة التي لم تسفر عن نتيجة تذكر، باستثناء التعبير عن الأسف أثناء تقديم استقالته، وتحميل الحكومة السورية المسؤولية عن فشل مفاوضات ‘جنيف’. هذا فيما اعتبرت دوائر بالأمم المتحدة، أن ترشح الرئيس ‘الأسد’ للإنتخابات هو إغتيال لمسار التسوية.

وإذا كانت الجامعة العربية التي يمثلها العميل الإبراهيمي في سورية قد ماتت منذ رحيل الزعيم جمال عبد الناصر رحمه الله، فإن الأمم المتحدة قد قتلتها أمريكا في عهد العميل كوفي عنان، الذي تحول في الحرب على العراق إلى سكرتير للإدارة الأمريكية، يستنسخ قراراتها في مجلس الأمن ليبرر لها استخدام القوة العسكرية للدفاع الشرعي عن النفس في غياب أي دليل يتبث أن المستهدف هو المعتدي الظالم.. وبذلك، تحولت الأمم المتحدة من منظمة للسلام إلى منظمة لشرعنة حروب أمريكا الإستعمارية.

لم يعتدي العراق على أمريكا في الحادي عشر من شتنبر/أيلول 2001، ولا على غيرها من دول الغرب، ومع ذلك كان عليه أن يدفع الثمن. لكن، ثمن ماذا؟… يقولون النفط.. حسنا، وهل قطع العراق يوما النفط عن الغرب؟. أبدا.. ما يؤكد أن الهدف الحقيقي لم يكن إحتلال العراق من أجل نفطه، بل تدميره وإسقاط دولته وإعادة شعبه إلى العصر الحجري الأول، ليتم بذلك محو خصوصية العراق بالكامل، والتي تعني تاريخه وحضارته وثقافة شعبه والمستوى العلمي الذي بلغه علمائه.

ومن مفارقة التاريخ أن العراقيين كانوا أوفر حظا من الهنود الحمر الذين كانوا بلا حضارة كما تعتقد أمريكا، فأبادتهم جميعا كحيوانات برية وحشية، إلا من رحم الله وعاش ليأرّخ للنكبة.. 80 مليون قتلوا على أرضهم من غير ذنب اقترفوه، في أبشع وأفظع مجزرة بشرية وحشية عرفها التاريخ، إذ تعتبر مقارنة مع ما يزعمونه حول محرقة الهولوكوست في حال صحّت بالمراجعة التاريخية، مجرد نزهة.. لكن من يسائل ومن يحاسب إمبراطورية روما الجديدة؟..

نحن نعرف اليوم بالتفصيل عدد الغارات الجوية التي قامت بها طائرات الأطلسي فوق العراق أيام الحرب، ونعرف عدد الصواريخ التي ضرب بها، وأنواعها وأحجامها وأوزانها بل وحتى أثمانها، ونعرف بالتفصيل ما أنفق في هذه “الحرب الحضارية الثانية”، من الصاروخ إلى الرصاصة.. لكن هل يعرف أحد في هذا العالم كم عدد الشهداء الأبرياء الذين سقطوا جراء هذا العدوان الهمجي اليوم؟..

لا أحد بالتأكيد، بما في ذلك الحكومة العراقية. لأن ما لا قيمة له عند الغرب لا يستحق الإهتمام، وروح العربي والمسلم هي روح همجية شريرة، لا تستحق العيش في هذا العالم المتحضر الذي تحكمه قيم الغرب الصهيو – إمبريالية.

هكذا يفكر ويتصرف هذا الغرب المُتكبّر والمُتجبّر، بلا قلب، بلا عقل، بلا أخلاق، بلا ضمير، بمنطق “الربح والخسارة” وبسياسة إنتهازية إجرامية تؤمن بعقيدة “الهدف يبرر الوسيلة” الذي وضع أسسها ميكيافيلي في كتاب “الأمير”.. كل شيىء بالنسبة لهذا الكائن الفاشي في الغرب يقاس بالمال، والمعيار هو الأورو أو الدولار، وما عدى ذلك “هراء في هراء”.

هذه المعطيات حول الذهنية التي يتعامل بها الغرب الصهيوني مع العالم العربي والإسلامي، هي التي تسمح لنا اليوم بالقول أننا عندما كنا نؤكد منذ بداية الأحداث أن سورية ستنتصر، لم نكن نتطاول على مجال الغيب الذي هو من علم الله وحده، لكننا لم نكن نتوقع ما هو آتي من فراغ، لأننا كنا نرى بنور الله أن مستقبل سورية والمنطقة بل والعالم يصنعه النظام والجيش والشعب والمقاومة في ميادين الكرامة والشرف في أرض الشام المباركة، حيث يولد المستقبل من نبوءات السماء، بعيدا عن عيون الخبراء الذين سقطوا في فخ التقديرات والتوقعات والحسابات الخاطأة، فعلمنا علم اليقين أن سورية ستنتصر كعلمنا علم اليقين أن “يوم الدين” آت لا ريب فيه.

لأن عدم إيماننا بانتصار سورية المظلومة، يخرجنا من الملة، ويضعنا في الجانب الخطأ من التاريخ حيث توجد أمريكا وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا والسعودية وتركيا وقطر والأردن… وكل من تحالف مع قوى الشر والخراب ضد سورية ولو بموقف سياسي، كشأن أنظمة العمالة والنذالة التي انخرطت في منظومة “أعداء الشعب السوري” .

ثم جاء سماحة السيد ليزيد إيماننا إيمانا، عندما أعلن الحرب على التكفيريين، فأكد سماحته المؤكد بقوله: “كما كنت أعدكم بالنصر دائما، أعدكم اليوم بأننا سننتصر في سورية”. وهو ما فهم على أن سورية خط أحمر، لن يسمح محور المقاومة للأمريكي والإسرائيلي ولا للإرهاب الوهابي السعودي بأن يأخذوا عاصمة النور ليعم الظلام سماء العرب والمسلمين.. فكان فصل الخطاب، لأن سماحة السيد يرى بنور الله الأمور بخلاف ما تبدو للعيان، ولم يسبق له أن توقع شيئا وخالفه الواقع في ذلك.

اليوم سقطت المؤامرة وانتصرت سورية بنظامها وجيشها وشعبها وحلفائها، ففرحت قلوب المؤمنين الشرفاء في كل أصقاع الأرض، لأنهم شاهدوا بأم العين وعد الله يتحقق في سورية ضدا في قوى الشر وجبروت الخراب ورسل الظلام.

حتى المسؤولين في الغرب لم يعد لديهم شك في إنتصار سورية، وكل ما يصدر عنهم من تصريحات إعلامية تعبّر عن يأس وإحباط وشعور بمرارة الفشل، لكنهم يحاولون الظهور بمظهر القوي القادر الذي لا يزال يملك شيئا ما في يده، وأنه ما زال بامكانه صناعة الصيف والشتاء في سورية والمنطقة، وأن لا شرعية للشعب السوري في إختيار رئيسه من خارج المباركة الأمريكية المسبقة.

الرئيس الأمريكي ‘باراك أوباما’ وخلال لقائه العميل ‘الجربا’ بواشنطن بمكتب مستشارة الأمن القومي الأمريكي ‘سوزان رايس’ الثلاثاء، أكد “أن ‘بشار الأسد’ خسر شرعيته كلياً ولا مكان له في مستقبل سوريا”، وفق تعبيره، مشيدا بذات المناسبة بقيادة المعارضة و”تبنيها لنهج الحوار”، ومشجعاً الائتلاف على توسيع رؤاه باتجاه “حكومة شاملة تمثل الشعب السوري بأكمله”.. وهذا هو عين الوهم.

بدوره، وزير خارجية فرنسا ‘لوران فابيوس’ لم يُفوّت مناسبة اجتماعه مع ‘جون كيري’ في باريس، للتعبير في تصريح إعلامي مشترك الثلاثاء، عن أسف حكومة بلاده الشديد لعدم قيام إدارة أوباما بضرب سورية.. لأنه بالنسبة لهذا الصهيوني المتعطّش للدماء، لا يهم عدد الشهداء الذين سيقضون في صفوف المدنيين لو كانت الضربة حصلت.. بل ما يهم هو ما ستكسبه بلاده من أموال وعقود خليجية كفيلة بإخراج فرنسا المتداعية من أزمتها الإقتصادية الخانقة.. وهذا أنموذج من طريقة التفكير الذي وصل إليها عقل الأنوار في عصر الظلمات الأمريكية.

الواقع العسكري في سورية اليوم يقول، أن المؤامرة الإرهابية سقطت، وأن وليمة اللئام للإحتفال بسقوط دمشق سياسيا في ‘جنيف’ أصبحت حلما مستحيل المنال، لكن لا بأس من أن يُعبّر الفاشلون عن وجهة نظر مخالفة تماما لما يشهد به الميدان، ما دام التعبير لا يحدث التغيير.

التغيير في سورية بدأ في حقيقة الأمر منذ أن قرر الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه الله التحالف مع إيران هروبا من غدر العرب ومؤامرات العرب، فأسس لتحالف أثبت اليوم مع بشار الأسد قمة الإخلاص والوفاء والتضحية..

إن ما نشهده اليوم من انتصار لم يكن وليد اللحظة، بل تمت صناعته في الماضي البعيد بعقول القادة في سورية وإيران، فأتى أكله الطيب بإذن ربه، وما صنعه الرئيس بشار الأسد والجيش العربي والشعب السوري وحلفائه في محور الممانعة والمقاومة اليوم، لن نرى تجلياته ونتائجه العظيمة على الأرض إلا بعد مرور بضع سنين ، لأن الحاضر صنع في الماضي والمستقبل يصنع اليوم في الحاضر.

إن ما يحصل اليوم في سورية أيها السادة ليس إنتخابات لصناعة حزب حاكم أو زعيم مستبد، لأن التغيير الذي يبنى على الرموز ينتهي بمجرد أن يرحل الرمز كما حصل مع الزعيم جمال عبد الناصر رحمه الله، وغودو لن يعود مهما طال الإنتظار.

إن ما حصل في سورية لا يحتاج كثير تفسير، لأن السر يكمن في وجود منظومة جبارة تعمل كخلية نحل في إطار محور دولي ممتد من الصين إلى إيران، ومحور آخر إقليمي ممتد من إيران إلى لبنان.. وهناك عقول جبارة تعمل في صمت، ولا نسمع ولا نرى سوى ما تفرزه من وقائع مدهشة تظهر على السطح فتبعث الأمل في النفوس بغد سيكون أجمل مما كان.

ودعك مما يقوله ‘أوباما’ حول الرئيس ‘الأسد’ لأنه كلام بلا معنى، والمراد به محاولة الضغط على إيران لتتنازل عن بعض من أوراق القوة التي أصبحت تفاوض بها الغرب، وترفض من موقع المنتصر أن تتنازل قيد أنملة عن حقوقها المكتسبة أو مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.. ومن له رأي معاكس لهذا الطموح المشروع فقد فاته الأوان يتثبت وجهة نظره في ساحة المنازلة الكونية الكبرى الني دارت خلال السنوات الثلاث في سورية.. أما اليوم، فقد انتهت اللعبة وغلب تحالف الروم و قبائل الجهل العربية.

تستطيع السعودية التي خسرت حربها ضد إيران في العراق وسورية ولبنان أن تطالب بجائزة ترضية لرد الإعتبار، لكنا حتما لن تنال شيئا ذو قيمة تسترد به بعضا من شرفها الضائع بين أقدام الأمريكي والصهيوني، وبالتالي، لن تكون لها جائزة ترضية على تآمرها وخسارتها المذلة، لا في العراق ولا في سورية ولا في لبنان، لأن من أوهموها أنها زعيمة العالم العربي والإسلامي “السني” كذبوا عليها فصدقتهم من غبائها.. فجاء وقت الحساب لأن الله يمهل ولا يهمل.

حتى إسرائيل فهمت أن اللعبة انتهت، فقال جنرالاتها مؤخرا أنهم لا يفكرون في التدخل في الشأن السوري، وأن ما يهم “إسرائيل” هو حماية “حدودها” في الجولان المحتل.. لكن بالنسبة لمحور المقاومة الحرب مع هذا الكيان الغاشم لم تبدأ بعد لتنتهي، وأن القادم سيكون مرعبا بعد تأسيس حزب الله السوري، ودخول روسيا وإيران على خط القضية الفلسطينية، حيث أقنعوا عباس بوقف المفاوضات وإعادة اللحمة للشعب الفلسطيني من خلال المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، فسقط وهم تصفية القضية، وهو ما أقلق إسرائيل وأغضب أمريكا، فشعروا أنهم كلما توغلوا في غيهم وتكالبهم إلا وفقدوا أوراقهم الواحدة بعد الأخرى.

أما حماس، فلا زيارة لخالد مشعل إلى طهران ولا من يحزنون، وكل ما قيل حول هذا الموضوع لا أساس له من الصحة، لأن إيران قالتها واضحة جلية: “من خسر الرهان على الوهم يجب أن يتحمل مسؤولية خياره الفاشل فيستقيل، ليترك فسحة لمن بمقدوره زراعة الأمل في الشعب الفلسطيني، وإعادة البهجة والفرحة والعزة والكرامة لقلوب الأمة لتكون على قلب رجل واحد من أجل تحرير فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر.. هكذا تكلمت طهران.

أما السعودية التي فشلت في مقايضة الرئيس العتيد في لبنان برأس المالكي في بغداد، فقد سمعت ما لا يرضيها من الإيراني والأمريكي أيضا.. وعندما قررت الإنفتاح على طهران مقابل استبعاد الأسد ووضع أي شخص مكانه تريده إيران من باب حفظ ماء الوجه، كان الجواب: “الأسد خط أحمر حتى لو اشتعلت المنطقة برمتها”، وإيران ليست في وارد تقديم جوائز ترضية للمتآمرين المهزومين.

ما من شك، أن القادم من الأيام سيخوض مجور المقاومة حربا ساحقة على الإرهاب وفق ما تخطط له طهران ومحورها، لكن، مع مراعات عدم قتل الإرهابيين حتى لا يخدموا أهداف الأمريكي والسعودي، تماما مثل ما حصل في حمص ومناطق أخرى بفضل العقل الإستخباراتي الإيراني والسوري وعقل حزب الله الجبار، لأن الهدف هو إعادة هذا المنتوج الفاسد المسمى “إرهابا” إلى أصحابه، ليبدأ الرقص مع الذئاب في دول المؤامرة والعدوان.

أما الرسالة النهائية الحاسمة والقاطعة التي أراد حلف المقاومة بعثها لأمة العربية والإسلامية من إنتصار سورية، فمؤداها: لقد ولى عصر الحروب الصليبية والحضارية على الأمة، وانتهى مسلسل الإستسلام الذي بدأ بفعل الخيانة في ‘كامب ديفيد’ وما تلاه من مسلسل الإستسلامات في مدريد وأوسلو و واد عربة حتى تحولت نكبة 48 في الوعي العربي من حدث إلى حالة تراكمية دائمة.

اليوم سقطت كل منظومات التآمر والخيانة في المنطقة، من ‘الجامعة العربية’ مرورا بـ’المؤتمر الإسلامي’ وانتهاءا بـ”لجنة القدس” التي باعت القدس في سوق النخاسة السياسية، وخسرت أنظمة العمالة العربية شرعيتها ومنطق وجودها واستمرارها..

وحدها بندقية المقاومة في لبنان وسورية وغزة، مدعومة بإرادة أطفال الحجارة في الضفة من ستصنع المستقبل في فلسطين والمنطقة، وستعود القدس لنا بمساجدها وكنائسا جميلة كما كانت أول مرة ، فيغمرنا عبق التاريخ الكامن في أسواقها وبيوتها وجدرانها القديمة، منذ أن زرعت السماء وعدها في منبث الحلم بسورية، ليفرح يومئذ بنصر الله شرفاء الأمة..

هـــــذا وعــــــد الله..

أحمد الشرقاوي – بانوراما الشرق الأوسط

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.