غزة قبل الانفجار

PALESTINIAN-ISRAEL-CONFLICT-DEMO

د. مصطفى اللداوي:

كل الدلائل والأحداث الجارية في قطاع غزة تشير إلى أنه بات يقف على فوهة بركانٍ كبير، وأنه حتماً سينفجر، وأن انفجاره سيكون مدوياً بلا حدود، وسيترك آثاره على المنطقة بأسرها، ولن تكون هناك قدرة لأحد على ضبط التطورات، أو لجم الأحداث، أو تغيير مسارها، وستتحمل أطرافٌ دولية وإقليمية كثيرة مسؤولية ما سيحدث في المنطقة، إذ أنها سبب مباشرٌ في الأزمة، وهي المسؤولة عن وجودها وتفاقمها، وعدم إيجاد حلولٍ جذريةٍ لها، بل لعلها كانت معنية باستمرارها، ومستفيدة من وجودها، وحريصة على توظيفها خدمةً لأهدافها، وتطبيقاً لبرامجها السياسية المختلفة، وهو ما أدى إلى هذه النتيجة المأساوية، التي تحبس الأنفاس، وتنبئ بأن القادم سيكون أسوأ وأخطر.

قطاع غزة كما كل فلسطين، بضفتها الغربية وقدسها الشرقية والغربية، والنقب والمثلث والجليل، كلها محتلة ومغتصبة، ولا يوجد في قاموس المصطلحات السياسية الدولية وصفاً آخر لها، فقد اغتصبتها عصاباتٌ صهيوينة، وأعانتها على ذلك دولٌ أخرى، سلحتها ومكنتها وساندتها في غيها وظلمها واعتدائها، فكانت دولة إسرائيل على الأرض العربية الفلسطينية، وهي الدولة التي لم يكن لها وجود، ولا حق لها في الأرض ولا التاريخ، فهي دولةٌ محتلةٌ غاصبة.

والأرض الفلسطينية كلها، بغض النظر عن أي اتفاقٍ سياسي، وقبل التوصل إلى أي حلٍ نهائي، مهما اتفق الفرقاء والشركاء، والخصوم والأعداء أو اختلفوا، فإن أرض فلسطين تبقى كلها تحت الاحتلال، وهي بموجب اتفاقيات جنيف، وكافة الاتفاقيات الدولية ذات الاختصاص، مسؤولة من سلطات الاحتلال، الذي عليه أن يتكلف بحفظ الأمن، وسلامة المواطنين، وتوفير مستلزمات العيش الكريم لهم، دون مسٍ بكراماتهم، أو اعتداء على حرياتهم، أو مصادرة لحقوقهم.

وعليه فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي وحدها دون غيرها، هي المسؤولة مسؤولية تامة عما يعانيه الفلسطينيون عامةً وسكان قطاع غزة خاصة، وعما يواجهون من صعابٍ إنسانية ومعيشية، وصحية وتعليمية وغيرها، فهي التي تخلت، كونها سلطة احتلال، عن كل التزاماتها تجاه السكان الخاضعين لسلطاتها، والقاطنين على الأرض التي تحتلها وتديرها، بقراراتٍ عسكرية أو إدارية، وهي التي امتنعت عن تقديم الخدمات الواجب عليها توفيرها أو تسهيلها.

وهي التي تقوم بسلطاتها ونفوذها بفرض حصارٍ مشدد على قطاع غزة، بري وبحري وجوي، وتمنع تواصله مع عمقه الوطني، وتحول دون بناء علاقاتٍ طبيعية مع دولة الجوار مصر، وتفرض على المجتمع الدولي الالتزام بالحصار، وعدم العمل على خرقه أو تجاوزه، وتمنع المساعدات، وتصادر المعونات، وترفض قيام السكان والحكومة بأي أنشطة تجارية أو اقتصادية من شأنها تخفيف الأزمة، أو التقليل من حدتها، فلا تجارة خارجية، ولا موافقة على ميناء، ولا سماح بوجود مطارٍ يسهل على السكان، ويخفف عن المسافرين أعباء وجهود السفر، ولا تسمح بإدخال ما يحتاجه المواطنون عبر المعابر التي تتحكم بها وتسيطر عليها، ولا تقبل أبداً أن يبحر الصيادون في عمق البحر بحثاً عن رزق، أو سعياً وراء صيد يغني.

وهي في الوقت الذي تتخلى فيه عن مهامها وواجباتها تجاه شعبٍ يخضع لسلطة الاحتلال، تنفذ ضد السكان مهاماً قتالية، وتعتدي عليهم، تقتل وتعتقل وتصادر، وتغير وتقتحم وتخترق، وتجتاز الحدود لتستفز، أو تدخل لتزرع عبواتٍ ناسفة، أو أجهزة تجسس ومراقبة.

إسرائيل وحدها تتحمل المسؤولية إزاء ما يجري في قطاع غزة، وعليها وعلى مصر والولايات المتحدة الأمريكية أن يدركوا أن حل أزمة الفلسطينيين في قطاع غزة ليس باتجاه مصر، وليس على حساب الشعب المصري، فمصر دولةٌ عربيةٌ شقيقةٌ جارة، يهمها الشعب الفلسطيني، وتقلقها معاناته، وتشقى لمساعدته، ولكنها ترفض أن تقوم بالنيابة عن الاحتلال، فتؤدي مهامه، وترفع العبء عنه، وتساعده في التخلي عن واجباته، فهي إن ساعدت وتعاونت فهو من جانب الأخوة والرابطة العربية والإسلامية، فهي ليست ملزمةً به، ولا مسؤولةً عنه، ولا تتهم بالتقصير إن لم تتمكن من المساعدة والعون، ولهذا فلا ينبغي أن يكون انفجار قطاع غزة تجاه مصر، ولا يجب توجيه المواطنين للثورة عليها، والتطاول على سلطاتها، أو الزحف نحو الحدود واجتيازها، لفرض واقعٍ جديد، والاحتكام إلى معادلةٍ أخرى.

الانفجار يجب أن يكون باتجاه دولة الاحتلال، وضد مصالحها وأمنها، ونحو عمق الوطن الفلسطيني كله، فإن كان من زحفٍ قادم فهو باتجاه الوطن، وعبر بواباته التي يوصدها الاحتلال، وتحرسها دباباته، وينصب عليها مدافعه ورشاشاته الآلية، ففي الزحف نحو الوطن فسحةً وفرجاً، وعلى أبوابه ترتسم ملامح الفوز والنجاة، والزحف ينبغي أن يكون بكل السبل، فلا يقتصر على السؤال والاستجداء، والمظاهرات والاحتجاجات، والاعتصامات والمؤتمرات، بل يجب أن تنطلق المقاومة الفلسطينية من جديد، بكل أشكالها التي اعتدنا عليها وعرفها الاحتلال، وشرب من كأسها، وذاق مرارتها، فقد طال غيابها، واستغرق سباتها، فتمكن العدو من إعادة ترتيب أوراقه، وتنظيم مهامه، فالعودة إليها منجاةٌ لنا، وانتصارٌ لشعبنا، واضطرابٌ وقلق في صفوف عدونا.

أما السلطة الفلسطينية في رام الله، والحكومة الفلسطينية في غزة، ومرجعياتهما التنظيمية، وانتماءاتهما السياسية، فإنهما غير مبرئتين مما يحدث، بل هما جزءٌ من المشكلة، وأساسٌ فيها، فلا تفاجئان إن طالهما التفجير، أو أصابتهما شظاياه، أو حلت بهما أو عليهما اللعنة، وانقلب عليهما الشعب، وطالبهما بالاتفاق أو الرحيل، وإلا فإن عليهما التعجيل في تجاوز الأزمة، ونزع فتيل الانفجار، إذ لا مكان للشماتة والتشفي، ولا وقت للتفكير والتكتيك، وإنما الالتفات إلى مصالح الشعب، وهموم الوطن، والاتفاق الفعلي، والمصالحة الناجزة، فهذا أمرٌ قد تأخر، وواجبٌ قد وقع فيه التقصير، وعلى الطرفين معاً قبل غيرهما، وعلى دول الجوار والإقليم والمجتمع الدولي، أن يدركوا جميعاً أن قطاع غزة جزءٌ من الوطن الفسطيني كله، وأنه يقوى بشطره، ويمتنع بوحدته، ويشبع باتفاقه، ويتجاوز أزماته بعودته إلى حضن الوطن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.