لماذا يهدد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي؟

 

 

كمٌّ هائلٌ من الأقاويل ذهبت لتقول بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو شخص مجنون، وأنه يعرّض الاتفاق النووي مع إيران إلى الخطر، لكن ترامب ليس بمجنون، إنما وكعادته في المغامرة، يصر على إظهار نفسه مجنوناً ليجني مزيداً من الامتيازات من خلال التلويح بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران.

إن التصريحات التي أدلى بها ترامب في البيت الأبيض والتي عبّر عنها بوصفها “الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إيران”، لم تأت بأي جديد سوى الإهانة والتشهير بالأمة والحكومة الإيرانيتين.

إن الفحوى من استمرار هذه التصريحات العدائية هو أن الحكام الأمريكيين سواءٌ أكانوا جمهوريين أم ديمقراطيين، كانوا دائما يقفون ضد إيران خلال السنوات الأربعين الماضية، مع اختلاف بسيط هو أن لهجة “ترامب” الشخص الأحمق والمتهور، كانت دائماً وقحةً وبعيدةً عن الأدب والمجاملة الدولية، وهو رئيس لبلد يقطنه 320 مليون مواطناً، أو بعبارة أخرى فإن استراتيجية ترامب التي تنم عن عدم فهمه وإدراكه للسياسية الإيرانية، تحتوي على أمور ومحاور عدةٍ والتي لم تختلف اختلافاً جوهريا عما فعلته حكومات الولايات المتحدة بعد الثورة الإسلامية.

خلال خطابه “المجنون”، وتماماً مثل أي شخص متهور، تجاهل ترامب الواقع الموجود في الشرق الأوسط وكل قوى الشر (مثل السعودية والبحرين) وجعل من إيران سبباً لجميع المصائب، وهدد طهران بأنه سيواجهها بأشد أنواع العقاب.

حتى لحظة إعداد هذا التقرير لم يبد أحد إعجابه بهذا الخطاب باستثناء الكيان الصهيوني وعدد من العرب الرجعيين في الخليج الفارسي، لم يبد أي شخص سعادته من خطاب ترامب ولم يأخذه حتى على محمل الجد.

وحتى الحلفاء الغربيين والشركاء للولايات المتحدة وعلى وجه الخصوص الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي لطالما كانت تجري خلف السياسات الأمريكية في مختلف القضايا، اعترضت على تصريحات ترامب وقالت وبشكل صريح بأنها ستدافع عن الاتفاق النووي التي أبرمته مع إيران، وسوف تتجاهل تصريحات ترامب حيال هذا الأمر.

مباشرة وبعد خطاب ترامب، نشر البيت الأبيض وثيقة بعنوان “استراتيجية أمريكا الجديدة تجاه إيران”، اتهمت الوثيقة إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة، وطالبت باتخاذ إجراءات وتدابير ضد الجمهورية الإسلامية في إيران.

انتشرت تحليلات مختلفة لهذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تتناول موقف ترامب تجاه الاتفاق النووي من جهة، ومن جهة أخرى تُظهر الرئيس الأمريكي بمظهر التاجر المجنون الواقع تحت تأثير “كسينجر” وأشخاص آخرين، يطمع في الحصول على المزيد من الامتيازات في المنطقة بما في ذلك إيران.

كما ذُكر في سابق السطور، فإن هدف ترامب الرئيسي من خطابه قبل الحصول على تنازلات في المنطقة أو اتهام إيران بالإرهاب هو السعي لإظهار نفسه على خلاف الرؤساء الأمريكيين السابقين حيث أنه يسعى إلى مواجهة إيران والتغلب عليها في مختلف المجالات، إلا أن الخلاف بين إيران والولايات المتحدة تحول إلى سياسة سلوكية مثيرة للاهتمام يمكن أن يطلق عليها “التظاهر بالجنون” بقصد ترهيب الطرف الآخر للحصول على المزيد من الامتيازات.

ومن أجل فهم أفضل لهذه السياسة، ينبغي أن نعود إلى الوراء بضعة عقود من الزمن، ففي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وفي حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والتحالف الغربي، قال “هيرمان كان”، وهو عالم عسكري أمريكي ومؤسس “نظرية النظام”: “لعل أفضل طريقة لفرض سياساتنا هي جعل أنفسنا عصبيين وعاطفيين قليلا في هذه اللعبة، والطرف الذي يبدي نفسه بصورة المندفع والعازم على تحقيق شيء ما والذي يضع نفسه في مكان “اللا عودة”، لديه فرصة أفضل لكسب نقاط من الجانب الآخر الذي أتى بسلوك صلب، وقد يكون التظاهر بالتزام أعمى بسياسة وقحة هو أفضل استراتيجية في الأزمات”

ولكن من هو الشخص الذي لقّن ترامب، صانع الأبراج والذي لا يفقه من السياسة الخارجية إلا القليل، هذه الاستراتيجية الذكية؟

الإجابة سهلة جداً على هذا السؤال، يمكن للمرء أن يسمي شخصاً معروفاً ويشهد له بأنه “أعظم استراتيجي” في الولايات المتحدة: هنري كيسنجر، الدبلوماسي السابق وكبير منظّري الولايات المتحدة، والذي يرى بأن ترامب يمتلك قدراً عاليا من الذكاء.

ولد كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي السابق، في ألمانيا، وتربطه صلة بترامب حيث أن كليهما يملكان جنسية ألمانية، ويذكر ان كيسنجر كان مهندس وقف إطلاق النار في الحرب الأمريكية الفيتنامية والمستشار الأمن القومي لريتشارد نيكسون وأستاذ في السياسة الخارجية في جامعة هارفارد الذي نجح في نفس وقت دفاعه عن العديد من الانظمة الدكتاتورية في الستينيات وبداية السبعينات، في الحصول على جائزة نوبل للسلام في ديسمبر 1973 بسبب دوره البارز في إنهاء الحرب الدموية في فيتنام.

تأثر كيسنجر بآراء “هرمان كان”، والأهم من ذلك، كان تأثره برؤى “توماس شيلينغ” الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد صاحب استراتيجية (حكمة اللامعقول)، وكان نيكسون يتأثر بآراء كيسنجر وتحليله للأمور.

يعتقد “هرمان كان” بأن الحرب الباردة، كانت “حرب الديوك”، وكان يعتقد أنه كان الفائز في هذه اللعبة، وكان يغلب عليه شعور بأنه لا يخاف من أي شيء، وأنه لا يعترف بالألم، وهو مستعد للتنازل لتدمير أحد الطرفين.

كيف يمكن فرض مثل هذا الرأي؟، يجيب “توماس شيلينغ”: “تُحل مثل هذه المشكلة بأن يجعل أحد السياسيين نفسه يبدو غير حكيم أو أن يضع نفسه في مكان لا يملك فيه حق الرجوع أو العودة إلى الوراء”.

في الواقع، كان كيسنجر يقصد ما يلي: كم يمكنك “عامداً متعمداً” محاولة جعل نفسك “سياسي غير عقلاني تماما”، وإلى أي مدى يمكنك أن تظهر نفسك مجنونا لكي تقوم بإخافة خصمك وإرعابه.

وقد علّم كسينجر نيكسون على هذا جيداً، وشدد عليه بأن يظهر بمظهر القوي، وتعهد في الحملة الرئاسية بإنهاء حرب فيتنام بأي وسيلة ممكنة، كما تعهد ترامب حين قال أنه سوف يلغي الاتفاق النووي مع إيران.

كان تحليل كيسنجر الذي نقله إلى ترامب والذي تحول إلى مذهب يقتدي به ترامب، هو الضغط على إيران بكل السبل في أعقاب المعركة مع داعش من أجل الحد من نفوذها في المنطقة، وكانت الخطوة الأولى لتهديد إيران وتقويض نفوذها هو التهديد بإلغاء الاتفاق النووي معها.

ويعتقد كيسنجر أنه، كما هو الحال في فيتنام، يجب أن تسير هذه الاستراتيجية جنباً إلى جنب مع أسلوب “الرجل المجنون”، ففي شخص كدونالد ترامب، والذي يملك كل المؤهلات العقلية والذهنية للعب هذه الشخصية جيداً، طلب منه كسينجر أن يتحدث عن ذلك قدر الإمكان، في حملته الانتخابية، وما كان خطاب ترامب المجنون في الأمم المتحدة غير خطوة على هذا الطريق الذي رسمه كسينجر له.

وكان هذا الخطاب المربك والمجنون قبل 48 ساعة من اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف وريكس تيلرسون، من الواضح، أن تيلرسون كان يهدف إلى تذكير نظيره الإيراني بأن رئيسه هو شخص مجنون تماما، ويتوجب على إيران إما أن تكون مستعدة وبجدية لإعادة النظر في سياساتها الإقليمية أو مواجهة عواقب تلك السياسة.

كثيرة هي الأقاويل التي ذهبت لتقول بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو شخص مجنون، وأنه يعرّض الاتفاق النووي مع إيران إلى الخطر، لكن ترامب ليس بمجنون، إنما وكعادته في المغامرة، يصر على إظهار نفسه مجنوناً ليجني مزيداً من الامتيازات من خلال التلويح بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران. ولكي يخاف البقية من ترامب فإنه يصر في أقواله وأفعاله على أن يقول ” أنا مجنون”، حتى أنه ليست لديه أي مشكلة بتشويه صورة أمريكا لكنه يريد فقط أن يجبر خصومه على الاستسلام له دون أي مقاومة.

ولذلك فإن ترامب ليس بشخص مجنون، بل هو شخص ذكيٌ جداً أبدل ذكاءه جنوناً، آملاً أن يستطيع بلغة الترهيب والتخويف القيام بما يريد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.