مستقبل الولايات المتحدة الصعب

صحيفة الشعب المصرية ـ
بقلم: زياد حافظ *:
خلال زيارتنا الصيفية للولايات المتحدة أُتيحت لنا مرّة أخرى الفرصة للقاء بعض النخب للتداول في شؤؤن الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية بشكل عام وفي منطقة شرق الأوسط بشكل خاص. كما تسنّت الفرصة لقاء بعض العائلات الأميركية والإستماع إلى آرائهم وشجونهم في السياسة الداخلية. وما كنّا نتوقّعه حصل بالفعل حيث الخطاب الرسمي الأميركي عند النخب يختلف كلّيا في محافلهم الخاصة مع يقين تفكيرهم. فخطابهم الرسمي يلبّي حاجات القوى الضاغطة التي تموّل السياسيين ومراكز الأبحاث التي “تصنع” القرار. أما الأهم فهو ما سمعناه من الناس العاديين الذين يواجهون بإرتياب الإنتخابات القادمة حيث خياراتهم محدودة للغاية بين السيء والأسوأ!
بالفعل فإن شجون المواطن الأميركي العادي مختلفة عن أولويات النخب. ففي ولاية كاليفورنيا حيث مكثنا بعض الوقت تبيّن لنا من الحديث مع بعض الأهالي أنهم يراقبون بريبة التحوّلات الديمغرافية الحاصلة في ولاياتهم. ما سمعناه هو ما قرأناه في كتاب سامويل هنتنغتون الأخير قبل رحيله هو قلق الأميركي العادي عن فقدان الهوية البيضاء الأنكلوساكسونية البروتستنتية. بالمناسبة معظم متحدّثينا كانوا من الكاثوليك المنحدرين من أصول إيطالية وإيرلندية! فما أرادوا التعبير عنه هو قلقهم من التدفّق الوافد من الدول اللاتينية ومن الدول الآسيوية وخاصة من الصين والهند. في المنطقة التي زرناها أي شمال كاليفورنيا وخاصة منطقة سيليكون فالي الغنية بالمؤسسات الرائدة في التكنولوجيا وبالتالي ثرية للغاية سمعنا هذا الكلام من قبل مواطنين من الطبقات الوسطى الذي يصعب إتهامهم بالعنصرية أو الإنغلاق. من بعد الشكاوى التي سمعناها تراجع اللغة الإنكليزية في العديد من المناطق بل حلّ مكانها اللغة الإسبانية، وذلك في شمال كاليفورنيا. أما في ولايات الجنوب الغربي الأميركي فتغيب اللغة الإنكليزية كلّيا في المدن والقرى الحدودية مع المكسيك.

لكن هذه الأحاديث لا يمكن إعتبارها دلائل قاطعة عن واقع حال بل عن مزاج عام يتزايد في حقبة التراجع السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي في الولايات المتحدة. لا نستطيع القول أن هذه حالة عامة وجارفة بل في تصاعد مستمرّ وتتأكد لنا مع كل زيارة نقوم به للولايات المتحدة وذلك منذ أكثر من عشر سنوات على الأقل.

ومن الملفّات التي تهمّ المواطن الأميركي ملف البطالة وملفّ الصحة أو الضمان الصحّي وملف التربية. هذه الملفّات ظهرت بسبب إخفاقات في البنى السياسية والإقتصادية في الولايات المتحدة والتي تجاهلتها عن قصد أو عن جهل النخب السياسية. فالخيارات الصعبة التي يجب أن تواجهها الولايات المتحدة والتي لا تجرؤ النخب على إتخاذها بل حتى على إجراء بحث موسّع مع الجمهور الأميركي العريض فهي تتعلّق بنمط الحياة المبني على الإستهلاك المفرط والمموّل بالدين والنظام السياسي القائم الذي سنتطرّق إليه لاحقا في هذا المقال.

فثقافة الدين تغذّي الإستهلاك بل تشجّعه. الفكرة الجهنّمية المبتدعة في الولايات المتحدة هي أن الدخل الفردي ليس المصدر الوحيد لتحقيق “الحلم الأميركي” ولشراء السلع التي تشفي غليل المستهلك. بل أنه تمّ استبدال الدين بالدخل لشراء السلع وهذا يخفّف الضغوط على أرباب العمل لرفع الأجور والرواتب طالما أن الدين وسيلة معتمدة في المجتمع. بل أكثر من ذلك فإن تقييم الفرد المادي لا يستند بالضرورة على مستوى موجوداته أو دخله أو سيولته بل على تقدير أسواق الإئتمان له. اي بمعنى آخر قيمة الفرد مرتبطة بقيمة وقدرته على الإستيدانة. الفرد الذي لا يتمتع برصيد إئتماني فرد مشكوك به.

ثقافة الدين والإستهلاك كمحرّك أساسي للإقتصاد أوصلت البلاد إلى حالة الإفلاس. فالولايات المتحدة مفلسة وتعيش في الدين الذي ما زالت تموّله الصين لأن مصلحة الأخيرة تقضي بذلك. ستستمرّ الصين في تمويل ديون الولايات المتحدة طالما الأخيرة مستمرّة في استيراد حاجاتها من الصين ودفع الإقتصاد الصيني إلى الأمام. لكن عندما يبلغ السوق الداخلي الصيني عتبة القوّة الشرائية الموجودة في الطبقات الوسطى في الولايات المتحدة ستتخلّى الصين عن التركيز على صادراتها لتنمية اقتصادها وستفقد عندئذ الولايات المتحدة مصدرا أساسيا لتمويل سياسة نفقاتها الإستهلاكية.

لا تريد النخب مقاربة ذلك الموضوع. فهي تنشر حالة الإنكار عن الوضع السيء لإقتصادها مكتفية بالقول أن هذه حالة “عابرة” كما صرّح العديد من المسؤولين الحاليين والسابقين. تسنّت لنا الفرصة العام الماضي حضور حلقة نقاشية في معهد البروكنز حول حالة الدين العام وضرورة وضع سقف للنفقات العامة. ذهلنا بمستوى حالة الإنكار. الملفت هو أن بعض النخب اللبنانية والعربية ما زالت تراهن على “متانة” الإقتصاد الأميركي وقدرته على تجاوز الأزمة التي تمرّ بها الولايات المتحدة! صحيح أن الولايات المتحدة ما زالت تحظى بمكوّنات متينة تمكّنها من إجتياز الأزمة ولكن بعد اتّخاذ الإجراءات اللازمة وهذا غير وارد في الأفق القريب وحتى البعيد. وبالتالي تكون الحالة صعبة للغاية قد تصل إلى الإنفجار الداخلي.

حتى الآن ما زالت المؤشرات الإقتصادية تدّل على أن الولايات المتحدة لم تخرج من حالة الركود والإنكماش الإقتصادي. فما زالت معدّلات البطالة مرتفعة ولم تتحسن رغم التلاعب بها لتخفيف وطأة الواقع. وهذا ما يمكن أن يجهض فرص إعادة إنتخاب اوباما لولاية ثانية. فعالم المال والإعلام حسم على ما يبدو أمره لمصلحة المرشّح الجمهوري وبالتالي يلاقي الرئيس اوباما صعوبة متزايدة في تمويل حملته الإنتخابية. فقط المؤشرات المالية تدّل على حالة معيّنة من الصحة والعافية. ولكن الأسواق المالية لم تعد تعكس يقين الإقتصاد الأميركي بل تعكس إداء عالم إفتراضي منقطع عن الأداء الإقتصادي الفعلي.

الشيء المسكوت عنه في مقاربة الواقع الإقتصادي والإجتماعي هو دور السياسة في الموضوع. قلنا وما زلنا نقول أن الإقتصاد ليس إلاّ السياسة ولكن بلغة الأرقام. فالخيارات “الإقتصادية” الأميركية هي سياسية بامتياز. فكما ذكرنا أعلاه إن ترويج ثقافة الإستهلاك وتمويلها عبر الدين له أسباب ودلالات سياسية في غاية الأهمية. فشعار “إشتر اليوم وإدفع غدا” أساس ترويج الإستهلاك والمبيعات. فلمّا بادر الرئيس رونالد ريغان إلى كسر شوكة النقابات العمّالية فقدت الحركة العمّالية مؤسسة تحمي حقوق العامل. وما سمح بذلك هو أن العامل أو الأجير كان يشبع حاجاته الإستهلاكية عبر التسهيلات الإئتمانية. يقول الإقتصادي روبرت بولين أن متوسط الحقيقي لقيمة الأجور تدنّت منذ ولاية الرئيس نيكسون ولم ترتفع مما يؤكد تراجع نفوذ النقابات في حماية حقوق العمال والأجراء. وهذا التراجع لم يأت من فراغ. فالتحوّلات التي جرت عن قصد وتعمّد في السياسات الداخلية وخاصة الإقتصادية هدفت إلى رفع مرتبة الرأس المال على حساب العمل كعامل للإنتاج وأن الأولوية هي “مكافأة” رأس المال وعلى حساب العمل. هكذا تُفهم توطين القاعدة الصناعية الأميركية في الدول الناشئة وتصدير الوظائف لها. النخب الحاكمة في الولايات المتحدة عبر القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة حاربت “النظريات الشمولية” التي تكبح الفرد وتفرض السيطرة القسرية على المجمتع. إلاّ أن سياساتها الإقتصادية تهدف إلى نفس النتيجة ولكن ب”رضى” المواطنين وهذه هي البراعة والفرق مع النظم الشمولية التي تصادر قسرا الحرّيات بينما ما تقوم به النخب الحاكمة في الولايات المتحدة هي مصادرة الإرادة عبر الإستيدانة. وهذه الإستيدانة سمحت لتفاقم الفجوات في الدخل الفردي والإنقسام الإجتماعي وشجّع ثقافة الإثراء السريع عبر التحوّل من إقتصاد إنتاجي إلى إقتصاد ريعي مالي إفتراضي.

ولكن بعيدا عن هذا “التنظير” الذي قد يتّفق أو يختلف معه القارئ إلاّ أن الملفّات الحرجة التي تواجه النخب الحاكمة الأميركية ما زالت دون معالجة ولو سطحية.

فعلى سبيل المثال قضية التغيّر الديمغرافي التي تشهده الولايات المتحدة تفرض على النخب خيارات صعبة. فمن جهة تشير الإحصاءات السكّانية أن المجتمع الأميركي بدأ يشوخ ويعاني من أمراض الشيخوخة. فمعدّل النمو السكاني الطبيعي، أي المعدّل الذي يحافظ على الوتيرة الطبيعية للنمو والحفاظ على المستوى الحالي للسكّان، في تراجع. إن النسبة الشيوخ لمجمل عدد السكاّن في تزايد وتشير التقديرات السكانية أن في حلول 2050 ستصبح نسبة المسنّين (أي أكثر من 65 سنة) الأكثرية في السكان وما يرافقه من تداعيات على الصعيد السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي. الحلّ لسدّ العجز في النمو هو عبر الهجرة الوافدة. لكن في أيّام الشدّة والشحّ الإقتصادي تصبح الهجرة موضوع خلاف كبير. هذا ما نشهده في الولايات الجنوبية الغربية للولايات المتحدة حيث نسبة السكّان المنحدرين من أصول لاتينية أميركية وصلت إلى حدود تهدّد بمحو الصورة الأنكلوساكسونية البيضاء البروتستنتية.

وريبة الأميركيين من هذا التحوّل لا تخلو من العنصرية الواضحة ولكنها منسجمة مع تاريخ الولايات المتحدة. فمن يقرأ تاريخها يرى مدى العداء للكاثوليك الذين يُنعتون ب”أتباع البابا” وليس كمسيحييين من مذهب مختلف! الخطاب السياسي القائم في موسم الحملات الإنتخابية الرئاسية والمجالس الوطنية والمحلّية لا يخلو من تناول قضية الهجرة الوافدة. صحيح أن الهجوم هو على الهجرة غير الشرعية ولكن المقصود هو هجرة الوافدين من دول أميركا اللاتينية. لكن بالمقابل من يشجّع على تلك الهجرة غير الشرعية؟ فهم أرباب العمل بشكل عام وخاصة في القطاع الزراعي. فاليد العاملة الوافدة كثيرة ورخيصة وتسدّ الفراغ الحاصل في عدم إقدام المواطنين الأميركيين على تلك الأعمال الشاقة. والنتيجة زيادة في السكاّن في المدن الكبرى وضغط على الخدمات الإجتماعية. خطاب الجمهوريين يهدف إلى منع تقديم أي من الخدمات الإجتماعية لهؤلاء المهاجرين من خدمات صحية وتعليمية.

لذلك هناك ملفّان مزدوجان: ملف الكلفة الإقتصادية والإجتماعية للهجرة والملف الثقافي الناتج عن تغيير في اللغة والثقافة حيث في المدن والقرى الأميركية الحدودية الجنوبية أصبحت اللغة الإسبانية اللغة المحكية والمكتوبة وعلى حساب اللغة الإنكليزية. والولايات التي تشهد ذلك التحوّل الجذري هي تكساس، وكولورادو، واريزونا، ونيومكسيكو، وجنوب كاليفورنيا. هذه من أكبر الولايات في الولايات المتحدة سكّانيا وإقتصاديا. والتباين الثقافي والسياسي بين مكوّنات تلك الولايات يهدد تماسكها وانسجامها وإرادتها في البقاء في الوحدة الإتحادية.

أما الملفّ الأكثر دقّة وحرجا هو ما أشرنا إليه أعلاه أي المأزق الذي دخل فيه النظام السياسي الأميركي. ليس هناك من كلام في المحافل الدولية والعربية عن ذلك المأزق. فما زال العديد من المراقبين الدوليين والعرب يعتبرون النظام السياسي الأميركي نموذجا يمكن الإقتضاء به. لكن الحقيقة مختلفة. فمنذ ولايتي كلينتون شهدت الحكومة الأميركية عدّة أزمات تدّل عن خلل بنيوي ونظامي في النظام السياسي القائم. الآباء المؤسسون حرصوا على نظام تتوزع فيه السلطات بين ثلاث مؤسسات مستقلّة: السلطة التنفيذية، السلطة التشريعية، السلطة القضائية. يتغنّى العديد بمدى استقلالية المؤسسات لكن الواقع هو بعيد عن ذلك. فخلال ولاية بوش الابن حاول نائب الرئيس الأميركي ديك شيني تقويض صلاحيات الكونغرس في تحديد توجّهات السياسية الخارجية بما فيها القيام بأعمال عسكرية دون الرجوع إلى الكونغرس. وتاريخ الرجل حافل بمحاولاته لتقوية السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعة ويساعده في ذلك مجموعات الضغط واللوبيات المرتبطة بالمجمع العسكري النفطي والمالي (والآن الأمني). وليس قانون “الباتريوت” الذي يحدّ من سلطة القضاء والكونغرس بحجة محاربة الإرهاب إلاّ تقييدا للحرّيات العامة. أحداث أيلول 2001 كانت الذريعة المثلى لتحقيق تلك القيود التي لم تستطع النخب الحاكمة فرضها في أوج الحرب الباردة مع الشيوعية من الخمسينات حتى الثمانينات من القرن الماضي.

أما على صعيد القضاء فتتمّ التعيينات القضائية في المحاكم الإتحادية والمحكمة العليا على أساس الإنتماء الإيديولوجي أو السياسي للقاضي. فالأحكام القضائية تحظى بمثابة قوّة التشريع القانوني وبالتالي تصبح (أو أصبحت) السلطة القضائية تابعة للمزاج السائد في السلطة التنفيذية. فملفّ حق المرأة في الإجهاض قد يحسم في المحاكم وليس في الكونغرس وهذا ما يتنازع عليه الحزبان المتحكّمان بالحياة السياسية في الولايات المتحدة

التناحر بين الإدارة والكونغرس هو المثال الأول للشلل في أداء الحكومة كما التناحر داخل الكونغرس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي هو المثل الثاني في البنية والنظام السياسي القائم. ثم إن حدّة الخلاف بين الحزبين يعكس الإستقطاب الحاصل بين المواطنين. لم يعد الخلاف السياسي تنافسا مقبولا بل أصبح محاولات إقصاء لا تخلو من الكيدية. أضف إلى ذلك التحوّلات داخل الحزبين وخاصة الحزب الجمهوري حيث الوسطية غابت كلّيا لمصلحة المتطرفين من كافة الأطياف: انجيلية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية. النتيجة لكل ذلك هو الشلل في مقاربة ومن بعد ذلك معالجة مشاكل الوطن. هناك أيضا تحوّلات داخل الحزب الديمقراطي ولكن تجاه الوسطية وعلى حساب القاعدة التقليدية الليبرالية “اليسارية” بالمفهوم الأميركي.

هذه الحالة تجلّت في كتاب صدر مؤخرا في الولايات المتحدة عن كاتبين مرموقين وناشطين في العمل السياسي وهما توماس مان وهو كبير الباحثين في معهد بروكنز ونورمان اورنستين وهو باحث في المعهد المحافظ الأميركي “معهد المبادرة الأميركي” (أميركان انتربرايز انستيتوت). عنوان الكتاب مثير ومعبّر: “إن الوضع أسوأ مما تعتقد”! يحلّل الباحثان أسباب الشلل في الحكومة الأميركية ويعتبران أن حدّة الإستقطاب بين الحزبين داخل الكونغرس ألغت الأجندات السياسية لكل منهما وحلّت مكانها نقطة واحدة وهي منع الحزب الآخر من تحقيق أي مكسب سياسي سواء في الكونغرس أو في البيت الأبيض. قانون اللعبة الصفرية أصبح قانون اللعبة السياسية (كما هو في المجتمعات الفئوية كلبنان) حيث “مكسب” فريق يعنى حتما “خسارة” للفريق الآخر. وبالتالي الشلل الكامل.

نتيجة ذلك الشّلل في الحكومة الأميركية في معالجة القضايا الوطنية هو ما وصفته اريانا هفّنغتون في كتاب صدر عام 2010 عنوانه: ” أميركا العالم الثالث أو كيف خذل السياسيون الأميركيون الطبقات الوسطى والحلم الأميركي”. عدّدت هفنغتون في كتابها المذكور أعلاه الإخفاقات وترهّل المرافق العامة والبنى التحتية الأميركية بسبب الإهمال والإنفاق على أمور غير ذي جدوى. أن تتكلّم أميركية مرموقة بأن الولايات المتحدة أصبحت دولة من العالم الثالث ظاهرة لها دلالات تؤكّد مدى الترهّل القائم.

الخطاب السياسي بين الجمهوريين والأميركيين لا يهدف إلى توحيد الصف بل إلى تقاسم أميركا. هذا ما كتبه جوناتان كوهن في مجلة “نيو ريبابليك” (الجمهورية الجديدة) الديمقراطية الميول. الفرق شاسع جدّا في الفلسفة السياسية والإجتماعية بين الحزبين والإستقطاب الناتج عنهما. وبالتالي لا يبشّر ذلك على توافق ممكن في المستقبل القريب وحتى البعيد على حلول ناجعة للمشاكل والتحدّيات التي تهدد نسيج ووحدة المجتمع الأميركي.

إضافة للشلل القائم بسبب التناحر بين الحزبين هناك سبب آخر يزيد من العجز في اتخاذ الحلول الناجعة للمشاكل القائمة وذلك هو النظام الإنتخابي القائم والذي يلعب المال الدور الأساسي فيه. فالحملات الإنتخابية مكلفة للغاية سواء على مستوى المحلّي أو الولاية أو على الصعيد الإتحاد. فعلى سبيل المثال تشير مصادر متعدّدة أن الحملة الرئاسية قد تشهد أرقاما قياسية في الإنفاق الذي قد يصل إلى مليار دولار لكل من المرشحين. فبغض النظر عن دقّة الأرقام أو صحّتها فإن الإجماع هو أنه كبير للغاية ويفوق طاقة أي مرشح مهما كان ثريا. لذلك يكون تمويل الحملات مدخلا للمصالح الخاصة والقوى الضاغطة لتغطيتها واستخراج منافع ومكاسب من السياسيين الذين يتلقون تلك “التبرّعات”. فالسياسي الأميركي المعاصر أصبح أسيرا للقوى المالية وبالتالي لا يستطيع اتخاذ قرارات أو تبنّي تشريعا يتناقض مع مصالح المموّلين. هذا يُضعف بشكل ملحوظ “ديمقراطية” النظام. هذا ما أشار إليه الإقتصادي المرموق جوزيف ستيغليتز في مؤلفه الأخير: “ثمن اللامساواة” الذي صدر منذ بضعة أسابيع. وما يزيد الطين بلّة تدخّل المحكمة الدستورية العليا في قرار شهير عام 2010 يعتبر أن المال هو وسيلة للتعبير وبما أن الدستور يصون حق التعبير فلا قيود على المال “للتعبير”!

أضف إلى ذلك فإن الإعلام السائد (الذي يشبه الآن الإعلام الرسمي في الدول المتسلّطة) مملوك من شركات عددها يقارب اصابع الأيدي. معظم الشركات التي تملك المؤسسات الإعلامية من تلفزيون وراديو وصحف ومجلّات وأستديوهات للسينما وما يمكن أبتكاره من وسائل التواصل، هي من مكوّنات المجمّع العسكري الصناعي المالي. فليس هناك من رأي خارج تلك المجموعة الضيّقة التي تسوّق مصالح تلك الشركات وإن كانت على حساب مصالح المواطن الأميركي. لذلك نشهد صعود الوسائل البديلة عن الإعلام “الرسمي” عبر الشبكة العنكبوتية التي لا تخضع حتى الآن لسيطرة تلك الشركات رغم المحاولات العديدة لها. لكن المؤسسة الرسمية الأمنية الأميركية تسعى للدخول على تلك الشبكة لتراقب بحجة مكافحة الإرهاب والمخدّرات وإخضاع المواطن الأميركي وغير الأميركي لرقابة “الأخ الأكبر”.

في هذا السياق نذكّر بظاهرة عسكرة المجتمع الأميركي وتنامي الشركات الأمنية الخاصة وامتداد نفوذها على المؤسسة العسكرية والأمنية الأميركية. لمن يهمه الأمر فهناك العديد من الباحثين تكلّموا عن هذه الظاهرة في المجتمع الأميركي: شالمرز جونسون وهوارد زيم على سبيل المثال. هذه العسكرة عبر الشركات الأمنية بدأت تأخذ أبعادا مخيفة في عهد الرئيس بوش الابن الذي بادر إلى “خصخصة” وزارة الدفاع. وليس من سرّ دور الشركات الأمنية في العراق وأفغانستان واليوم في سورية. المؤسسة العسكرية الرسمية تنظر إلى “خصخصة” مهام الدفاع بعين الرضى لأن القيادات العسكرية ترى ملاذا ينتظرها بعد قضاء الخدمة العسكرية القانونية. فالعديد من المسؤولين في تلك الشركات من الضباط والجنود السابقين ويتقاضون رواتب مرتفعة جدا ويتحرّكون بدون قيد أو شرط وبحماية المؤسسة العسكرية الرسمية. أضف إلى ذلك فإن تداخل الشركات الأمنية بالإقتصاد والمجتمع الأميركي واضح. فالشركات تقوم بحماية الشركات والمؤسسات الخاصة والشخصيات البارزة والمربّعات السكنية التابعة لذوي الدخل العالي. الفجوة بين الطبقات الثرية والطبقات الأخرى تتفاقم والحماية هي للأغنياء فقط. فهناك “ابرتهايد” اجتماعي واضح على اساس الثروة.

لكن الخطورة في عسكرة المجتمع الأميركي تكمن في الفجوة المتفاقمة بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية. نذكّر هنا بالإنتقادات اللاذعة للجنرال ماك كريستال قائد القوّات الأميركية في أفغانستان للرئيس اوباما. صحيح أن الدستور الأميركي يُخضع المؤسسة العسكرية للقرار السياسي للمؤسسة السياسية المدنية ولكن “ملاحظات” ماك كريستال ظاهرة يجب الإنتباه إليها لأنها لاقت ترحيبا في العديد من الأوساط العسكرية وإن كانت حتى الآن أقلّية. التباعد بدأ في عهد كلنتون وتفاقم في عهد بوش الابن حيث التخطيط للتوجهات العسكرية كان من صنع المدنيين الذين يفتقدون لأي ثقافة ومعرفة عسكرية. الحرب على العراق مثال على ذلك. المهم هنا أن دور المؤسسة العسكرية في رسم السياسات الخارجية للولايات المتحدة في تنامي مستمر. لا يمكن إسقاط الدور الوازن لها في تحديد الخيارات الإستراتيجية سواء كانت من طابع عسكري أو أمني أقتصادي أو سياسي. قيادة المنطقة الوسطى لها دور أساسي ويقول شالمرز جونسون في كتاباته أن قائد المنطقة الوسطى هو السفير الفعلي لدى الدول التي تغطّيها القيادة. فهو يحدّد المسار الإستراتيجي والخارجية الأميركية تقوم بهندسة وتسويق الخيارات بعد أخذ رأي البيت الأبيض. لذلك نرى الزيارات الدورية التي يقوم بها قائد المنطقة الوسطى لدول الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية.

إذا أضفنا إلى كل ذلك قضية السلاح بين الأفراد في المجتمع الأميركي وثقافة العنف المترسخة فيه نرى خطورة الوضع القائم. فإذا استمرّ الإنكماش الإقتصادي وتفاقمت الفجوة بين مكوّنات المجتمع الأميركي وتجذير ثقافة العنف وحمل السلاح وعدم الإقدام على معالجة أي من الملفّات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية فعناصر الإنفجار الكبير تكون قد اكتملت. بالمناسبة، نذكّر القارئ أن الدستور الأميركي يعطى الحق ويحمي حملة السلاح. فإنشاء ميليشيات حقّ شبه مقدٍّس (إلاّ عند البعض في لبنان!).

وأخيرا وليس آخرا هناك مسألة تراجع التعليم ومستواه في الولايات المتحدة. نعم، لم تعد الولايات المتحدة الأولى في العالم في مستوى التعليم بل تراجعت مرتبتها إلى 37 حسب الإحصاءات الصادرة في الولايات المتحدة نفسها. وهذا التراجع يؤثر على مستوى التنافسية الإقتصادية بل هو أيضا مؤثرإلى حدّ كبير في مستوى الإستخدام والتوظيف كما جاء في دراسة صدرت مؤخرا عن معهد بروكنز. فمستوى التعليم للفرد يؤثر بنسبة 30 بالمائة على الأقل في تفسير مستوى البطالة.

هذه بعض المشاكل التي تواجهها الولايات المتحدة وليست كلّها. التحدّيات التي سردناها معظمها نظامية وبنيوية أي حلولها يجب أن تكون جذرية وذلك إضافة إلى القضايا الإقتصادية التي تكلّمنا عنها بشكل سريع في البداية. المهم في كل ذلك أن النخب الحاكمة سواء كانت في السطلة أو خارجها ما زالت عاجزة عن مقاربة جدّية للواقع. فحالة الإنكار متلازمة مع حالة الإرباك وهذا ما نلاحظه في السياسة الخارجية وسنعرضه في وقت لاحق.

*أمين عام المنتدى القومي العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.