موسكو وكاراكاس وأماني الاستقرار العالمي

موقع إنباء الإخباري ـ
الأكاديمي مروان سوداح*:
بعد ثوانٍ قليلة من هبوط الطائرات العسكرية الاستراتيجية الروسية في مطار كاراكاس الفنزويلي مؤخراً، ثارت ثائرة الولايات المتحدة، ومِن بعدها رهط متكامل من حلفائها الغربيين، الذين أرفقوا ذلك بوعيد وتهديدات واضحة وتلويح بالأيدي – الهَرمة بالمناسبة! – لروسيا وفنزويلاً، لتجاسرهما على الإعلان المباشر والصريح عن علاقاتهما العَميقة، والتي تعني للولايات المتحدة بالدرجة الاولى، أن كاراكاس لم تعد حديقة خلفية للأنجلوسكسون في واشنطن، وبأن مساعيها لقلب نظام الحُكم هناك لم تعد مُجدية، بل هي لهؤلاء إضاعة للوقت في ردهات وزاراتي الدفاع والخارجية ومؤسستي المخابرات والاستخبارات العسكرية.
فنزويلا كانت في حقبة سبقت الشهيد هوغو تشافيز، مُستعَمَرة للأجنبي، لا قرار سيادياً لديها، ولا سياسةً مستقلة، وشعبها مسلوب القرار ومَقموع بالعصا دون الجزرة، لكن الثورة البوليفارية أعادت إليه إرادته وقراره وكيانه، الذي أفضى بالجيش والثوريين وثلّة الوطنيين، الى التكتّل لنفض غبار مَن يتحكمون به من وراء الماء.
الإعلان الصريح عن أن الطائرات الاستراتيجية الروسية التي ضربت الارهابيين في سوريا ومحقتهم، قد وصلت الى كاراكاس دون توقف في أي مطار، يندرج على معنى لا يَخفى على كبار السياسيين والعسكريين في الغرب برمته، وهي رسالة صريحة أرادت موسكو وكاراكاس، برأيي، إيصالها لواشنطن، ومِن أحد مراميها، “أننا على بُعيدِ رمية حجرٍ من شواطِئكم “، التي تتجول مِن حولها سفننا النووية الروسية، والتي تُقاد بالذكاء الإصطناعي، وبدون بشر حتى!
روسيا والصين في فنزويلا منذ زمن غير قليل، لكن إزاحة الستارة وعلى الملأ عن مشهد التحالف الاستراتيجي بين هذه الأطراف، وفي الظرف الدولي الدقيق حالياً، يندرج ضمن المواجهات الباردة، وأحياناً الحامية الوطيس الحالية ما بين محور روسيا وفنزويلا والصين من جهة، ومحور الولايات المتحدة وأتباعها الغربيين و “مُريديها” من جهة أخرى، وهو مشهد إضاف لروسيا قوة على قوة في النصف الآخر من الكرة الارضية، موازي ومتزامن مع الفعالية الروسية والصينية في ال “هارد لاند” الآسيوية، وفي غرب آسيا وبخاصة في سورية، ناهيك على أن فنزويلا تتمتع بموقع استراتيجي يقل نظيره في الجيوبوليتيكا، ويتحكم بالعديد من الممرات الجوية والمائية الدولية والقارية، ويُشرف على الشواطىء الجنوبية للولايات المتحدة وكوبا، وعلى مختلف بقاع قارتي أمريكا اللاتينية والوسطى أيضاً.
إن دخول روسيا بمهابة معلنة الى ملعب فنزويلا، وبهذه الضخامة والصرامة والإصرار، يَعني كذلك، تجسير رفاقية الدولتين وعسكرييها، وتحقيق إنفراج سياسي واقتصادي ومعنوي لفنزويلا الشعب والدولة، تحتاج إليهما إيّما حاجة، في معركتها الحالية المصيرية، لصد نوايا الهيمنة ونوازع الإلحاقية الامريكية للقارة اللاتينية، وبضمنها فنزويلا.
فنزويلا التي استضافت الرئيس بوتين في وقت سابق، من العام 2018، شهدت على تصريحات الرئيس الروسي الصارمة والمانعة والداعمة لنظام الحكم الوطني في كاراكاس، لا سيّما عندما قال بوتين، أن “أية محاولة لتغيير الوضع القائم في فنزويلا، باستخدام أساليب القوة والإرهاب”، إنّما “تحمل بوضوح طابعاً إرهابياً”، إلى ذلك أكد بوتين، أنذاك، موقف موسكو في دعمها “للجهود التي يبذلها الرئيس مادورو، بغية التوصل إلى تفاهم داخل المجتمع، وكذلك لخطوات الرئيس الفنزويلي الرامية إلى تطبيع العلاقات مع المعارضة”، بينما كشف مادورو عن “إيجاد فرصة لإطلاق برنامج اقتصادي متكامل بين فنزويلا وروسيا”، على خلفية تمسّك فنزويلا بعالم متعدد الأقطاب، وتنامي علاقات البلدين في كل المجالات، التي منها حقول الدفاع والمالية والنفط والتجارة وغيرها”، بعدما شهد التبادل التجاري بين موسكو وكاراكاس، بحسب المتاح في مراجع فضائية “روسيا اليوم”، إنخفاضاً ملحوظاً، في السنوات الأخيرة، على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعيشها فنزويلا، وتشكل الصادرات الروسية 99% (78,7 مليون دولار) من التبادل التجاري بين البلدين، استناداً الى الاحصاءات المعلنة في موسكو، علماً أن روسيا وفنزويلا تعملان على تنفيذ مشاريع استثمارية عدّة، في مجالات الطاقة، والزراعة، والتنقيب الجيولوجي، والصيدلة، إضافة إلى تقّانة الاتصالات والمعلومات، والطب النووي، والتعاون العسكري التقني، وغيرها من المجالات التي يمكنها انتشال البلد من أزمته بالتدريج، سيّما من خلال تعظيم القيم المُضافة في هذه الفضاءات، ونقل الدولة، في المستقبل المرئي، إلى مصاف البلدان المتطورة والسيّدة في أمريكا الجنوبية.
علاقات فنزويلا مع روسيا تتطور باضطراد، وهي ترى أن ضالتها تكمن في موسكو بالذات، التي تستطيع إنقاذها من مخالب الولايات المتحدة الامريكية، ومن أتباع واشنطن القاطنين في فنزويلا، بخاصة رموز تلكم القوى المُعرّاة بتحالفها مع الرجعيات المحلية المرتبطة بالغرب، من خلال رؤوس الأموال، والتجارة وعمليات التهريب والمضاربة، والتي أدت الى تناغم وتداخل المصالح والأهداف السياسية للرجعيات الفنزويلية المحلية، ليس مع واشنطن فقط، إنما ومع تل أبيب أيضاً، التي تقيم علاقات “نشطة” و.. “عميقة” مع الرجعيات الفنزويلية، وتدعمها مادياً وتساندها معنوياً، وحتى بالمشورة والتخطيط للخطوات التالية في كل “نقلة سياسية”، ولا نستبعد هنا أن يَنقل “الكيان” مواجهاته لموسكو من الجبهة السورية، ليشمل فيها الجبهتين الفنزويلية والاوكرانية، والأخيرة تشهد حالياً نقل إرهابيي “داعش” الى شرق أوكرانيا، حيث تقوم واشنطن هناك بتوسيع تواجدها العسكري وقواعدها، والدفع نحو تجييش الاوكرانيين على موسكو، لتوفير مجندين جدداً في الحرب على روسيا، يموتون في نزاعات ليست في صالحهم، إنما من أجل تجسير الأهداف الكونية الامريكية على حدود روسيا.
روسيا لم تحاول سابقاً، وهي لا تحاول حالياً، التغطية على علاقاتها مع كاراكاس، فقد سبق لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أن أكد لنظيره الفنزويلي، أهمية التعاون بين البلدين في المجال العسكري- الفني، الذي يتيح للقوات المسلحة الروسية استخدام مطارات وموانئ فنزويلية، ومنوهاً في الوقت نفسه، إلى أن التعاون الثنائي يستمر على مستوى مرضي، ومشدداً أن موافقة فنزويلا على استقبال طائرات وسفن حربية روسية، “سيستفيد منها كل من روسيا وفنزويلا”، وبهذا التعاون مع فنزويلا “سيُتاح للعسكريين الروس اكتساب خبرات في رحلات جوية طويلة، والحفاظ على مستوى جيد لجاهزية المعدات العسكرية الروسية”، علماً أن العلاقات العسكرية بين البلدين، تجري بموجب إتفاقية موقعة بين بوتين والرئيس الفنزويلي السابق، الشهيد هوغو تشافيز، تعود الى عام 2001، وهي تضمن أرضية مناسبة للتعاون العسكري بينهما، وبموجبها زوّدت روسيا القوات المسلحة الفنزويلية بالأسلحة، بينها رشاشات كلاشنيكوف، ومروحيات وطائرات مقاتلة، وأنظمة للدفاع الجوي، وغيرها من الأسلحة والمعدات الروسية الصُنع، التي تضمن استقلالية فنزويلا وسيادتها وسلامة نظامها البوليفاري وسلامة أرضها.
خلاصة القول، أن تعميق وتعدد العلاقات الروسية الفنزوويلية يخدم السلام والآمان العالمي والديمقراطية ومبدأ سيادة الدول على نفسها، وشرعية حكوماتها وآمن شعوب أمريكا اللاتينية، ويمتد ذلك لحماية شعب الولايات المتحدة نفسه، بتقليص أسباب وإمكانيات حرب واسعة، جنوب القارة الامريكية الشمالية، قد تمتد ذيولها المآساية للقارة الشمالية، إضافة الى ذلك، سيمنح الاستقرار الفنزويلي إمكانيات مُضافة لكل شعوب المنطقة، لتطوير اقتصاداتها، في أجواء الآمان المالي والاستثماري، وسيفتح لكل مَن يُوظّف إمكاناته للتفعيل المُربح على أرض فنزويلا والمنطقة المحاذية لها.

*رَئيس رَابطة القلميين العَرب حُلفاء روسيّة ورئيس مجلس الإعلام والتضامن الاردني والعربي مع شعب جمهورية فنزويلا البوليفارية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.