العار.. من لامبيدوزا إلى عكار II

Lambidouza

صحيفة السفير اللبنانية ـ

نصري الصايغ :

نشرت «السفير» في عددها يوم الثلاثاء الفائت صفحة كاملة عن الهجرة المرعبة بعنوان «لامبيدوزا وغرقاها.. ودموع التماسيح الأوروبية». الملف يرصد أرقاما ويتحدث عن مأساة. يمكن العودة إلى الملف لإدراك حجم الكارثة الإنسانية واللامبالاة الكونية. الدموع الأوروبية ليست كلها دموع تماسيح. عمدة مدينة لامبيدوزا بكى بطريقة أبكت الناس الذين هم من صنف بشري. دموع التماسيح، هي دموع الحكام والمصارف والمؤسسات والشركات.

باختصار: أوروبا هي المقصد. حصنت أوروبا نفسها. ألغت حدودها الداخلية في ما بينها، وقامت بتحصين حدودها الخارجية في المتوسط وبينها وبين بعض دول أوروبا الشرقية وتركيا. تؤمن أوروبا بحرية السوق وحرية انتقال الأموال وحرية انتقال الأفراد إنما: ممنوع الدخول إلى أوروبا. قوانين تتشدد في إعطاء الفيزا. الهجرة غير مستحبة. التسرّب غير مسموح. أوروبا تقول للعالم: ممنوع الدخول، وممنوع ان تمنعونا من دخول بضائعنا إليكم. من حقنا دعم المزارعين، بمئات المليارات، وممنوع ان تدعموا مزارعيكم. منطق المنافسة يحرمكم من الدعم، حتى ولو مات منتجو الغذاء جوعاً.

العولمة تسمح بحرية انتقال السلع إلى الأسواق. حرية السوق مقدسة، ويعاقب كل من يضع الحواجز في طريقها. لا حرية تضاهي وتتفوّق على حرية السوق. هي الأب المادي لعالم المال ودنيا الاقتصاد.. ولدى نظام العولمة قوى ضاربة لحراسة حرية الأسواق، وهي قوى ضاربة دولية وتملك المشروعية الأممية من أعلى وأرقى المؤسسات المرعية بالتشريعات والقوانين المبرمة. لدى عقيدة السوق مبشرون ومؤسسات وجيوش، منها: الدول الصناعية المنتجة للسلع والمعايير التعجيزية التي تضعها لسلع الدول القادمة من الدول المفقرة (هي في الأساس ليست فقيرة). وإضافة إلى الدول، لدى السوق قوى حامية ومدافعة وداعمة: منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد وحلف الأطلسي ومجلس الأمن الدولي ـ إذا تيسّر ذلك ونادراً ما يفلت من إرادة سادة العالم البرابرة.

ولكن أوروبا ومعها دول الهجوم السلعي الفتاك على العالم، رأت أن تحمي حدودها من تدفق المهاجرين البؤساء إليها، من خلال مؤسسة أنشأتها تدعى «فرونتكس»، لحماية الحدود البحرية (في المتوسط تحديداً) من قوافل وعبّارات الهاربين من بؤس وظلم بلادهم لهم. «فرونتكس» هذه، تعلم شرطة الحدود وخفر السواحل في الدول الأوروبية بكل قارب أو عبّارة تنقل مهاجرين، وغالباً ما تدفعهم الشرطة في أعالي البحار، ليعودوا من حيث أتوا… ونادراً ما يعودون، وغالباً ما يغرقون.

عدد من «استشهد» في البحر المتوسط على عتبات أوروبا، وصل إلى 22 ألف مهاجر، في خلال عقد واحد فقط. المتوسط تابوت مفتوح بلا مراسم تشييع، وغالباً ما يجهل الأهل مصير عائلاتهم.

تتعاون مع «فرونتكس» والدول الصناعية، أعداد من الدول الأفريقية، لمنع المهاجرين من ركوب البحر. تحاول إقناع دول أفريقيا الشمالية، بتشديد الحراسة وإقامة مخيمات لإيوائهم. وقد بلغ ببعض هذه الدول ارتكاب مجازر إنسانية، كتلك التي وقعت منذ يومين في صحراء النيجر، فقد عثر على 87 جثة على بعد عشرة كلم من الحدود الجزائرية. و«يضاف هؤلاء الضحايا (سبعة رجال و32 امرأة و48 طفلاً.. يا ويلكم من الله ومن الضمير) إلى خمس نساء وفتاة في المجموعة ذاتها، فإن الجيش النيجيري قد عثر على جثثهن سابقا وقضين بداية تشرين الأول في رحلة مأساوية إلى الجزائر بدأت نهاية أيلول.

هؤلاء ماتوا عطشاً وجوعاً. منعهم حرس الحدود في الجزائر من العبور إلى شواطئ المتوسط.. المتوسط تابوت من ماء، والصحراء قبر من رمال، وفي المثويين ضحايا جرائم العولمة وأنظمتها السائدة في بلادها الغنية وأنظمة التبعية لها في البلاد الفقيرة. ولبنان مرشح لأن ينضم إلى «منظمة الدول التي يهرب منها أبناؤها… طمعاً بالحد الأدنى من الحياة والكرامة والخبز والأمل والدفء والسلام.

لبنان، كسواه من دول التبعية في نظام العولمة، يطبق بحرفية أوامر المؤسسات الدولية الاقتصادية. تلميذ منتظم في أدائه. لذلك، كل لبنان يخسر باستثناء مصارفه (راجع مقالة غسان عياش ورد فواز طرابلسي عليها في جريدة «السفير»). ومصارف لبنان أهم من شعب لبنان وزراعته وصناعته وإنتاجه. مصارف تربح عبر عمليات توظيف ريعية وعقارية. لا حصة تذكر في تمويل المصارف وميزانيات الدولة لقطاعات انتاجية. هذه متروكة لمصيرها. التجار يرثون الأخضر واليابس. عاش ميشال شيحا، فيلسوف المركنتيلية، والإبن الشرعي للخرافة الفينيقية، والجد المؤسس لنظام الاقتصاد الحر بلا ضوابط وصولاً إلى النيوليبرالية التي طبقت مع الحريرية. قلة لا تزال تتشبث بمنطق آخر، شربل نحاس في مقدمتها، ولكن… هل نفلح البحر؟

أوروبا هذه، أفصح عنها المفكر جاك اتالي في مقالة نشرها الأسبوع الفائت في مجلة «لو بوان» الفرنسية. (23 تشرين الأول 2013). يقول إتالي: نحن بحاجة إلى مهاجرين ولكن مهاجرين منتقين. عدد الناس الذين يريدون أو يحبون أن يعيشوا في غير بلادهم سيتخطى المليار في عقدين، مقابل 200 مليون إنسان اليوم، بشكل طبيعي. ويستثنى من هذا العدد الضخم أولئك الذين ينتقلون لأسباب مأساوية طبيعية أو حربية. يكمل أتالي نبوءته:

إن الديموقراطية بحاجة إلى أسواق والأسواق بحاجة إلى الحرية. لا إمكانية لحرية مستدامة للأسواق والسلع من دون حرية انتقال الأموال وانتقال الناس. لن نستطيع فرض إبقاء العمال والموظفين المنتجين لسلع رائجة لمؤسسات عالمية، مقيمة في دول فقيرة، بسبب رخص اليد العاملة فيها، ونمنع عنهم حلم السفر. هم ينتجون بأيديهم ما يرونه مستحيلا عليهم في بلادهم. سيتوجهون إلى أوروبا، المصدر الأساس للسلع، إلى جانب دول أخرى كاليابان وأميركا.

يضاف إلى ما تقدم فإن أوروبا بحاجة إلى مهاجرين. الأوروبيون يستنكفون عن ممارسة مهن وضيعة. هذه من اختصاص المهاجرين. وأوروبا بحاجة إلى تجديد شبابها ونسلها وزيادة عدد سكانها. إنما، المطلوب ان تختار أوروبا مهاجريها، ممن هي بحاجة إليهم، وليس ممن هم بحاجة إليها. ويضع اتالي اليساري النيوليبرالي، مستشار الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران، قيوداً للهجرة، لتكون العملية الانتقائية، نافعة لأوروبا، وأهمها، أن يكون المهاجر مرشحاً لأن يصبح أوروبياً باللغة والثقافة والتقاليد. أي أن يتم تحويله من إنسان إلى إنسان آخر، عبر عملية تمثل الغريب بكامله، وليس التفاعل معه، عبر هضمه برمته وليس عبر احترام تميزه. «نازية ثقافية طوعية وانتقائية».

ليست النازية وحدها اصطفائية. ليست الصهيونية وحدها عنصرية. ليست الطوائفيات والمذهبيات عندنا عنصرية. النيوليبرالية في الدول الديموقراطية اصطفائية بتفوق. تشارلز داروين لم يتحدث عن خرافة في عملية الاصطفاء والترقي. الفارق بين دارون وفلاسفة العولمة المنتشرين في المؤسسات المالية والشركات العملاقة أن دارون تحدث عن العالم الحيواني، فيما «المبشرون» البيض يقومون بالتصفية في العالم الإنساني.

لبنان داخل هذه المنظومة. لذلك، وبرغم المأساة التي دفع أبناء من عكار وطرابلس ثمنها الفظ، لم يتقدم أحد بخطة أو مشروع أو… لإخراج الناس من بؤسهم. ففي اليوم التالي للمأساة، استعاد أصحاب المصالح ورؤوس الأموال نشاطهم كالمعتاد، بعدما ذرفوا دموع التماسيح.

غريب… برغم ذلك، لم يغضب أحد بعد. كل الغضب ينتج ويصرف ويوظف في الأمكنة الطائفية والمذهبية المدمرة.

ننام اليوم على حزن… غداً نستفيق على توقع مأساة أخرى. «الله يستر».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.