سيل العاصي وجسر الدولة

موقع إنباء الإخباري ـ
أمير قانصوه:

 

في أواخر الثمانينات، كان أهالي الهرمل درجوا في ظل ظروف الحرب على التعامل التجاري مع مدينة حمص السورية، فكانوا يقصدونها لشراء احتياجاتهم، وأحياناً كثيرة لشراء البضائع التي يبيعونها في سوق الهرمل.. أو العكس حيث يحملون البضائع اللبنانية إلى أسواق حمص..

المهم أنه في الصباح الباكر لأحد الأيام، وكانت أمي (رحمها الله) قد تهيأت وصديقاتها للذهاب إلى حمص.. مرّ السائق باكراً، يدور في أزقة حيّنا في الهرمل حتى امتلأت سيارته المرسيدس بالمسافرات..

ما إن غادرت أمي البيت، حتى غفوت من  جديد.. لتأتي بعد وقت (…) وقد اعتقدت أن النوم قد أخذ مني اليوم بأكمله.. هممت أن أبرّر لها (راحت علي نومة) لتفاجأني بالقول: لم نذهب إلى حمص.. فقد وقع جسر العاصي.

أصابنا الخبر بالذهول.. أنصدّق . أم أنها “نهفة” من “نهفات” أمي..

قالت: لا.. صدّقوا.. جاء السيل وأخذ الجسر..

– سيل يأخذ الجسر.. الشريان الوحيد للهرمل مع كل بقاع الوطن؟

خلال أقل من ساعة، كانت الهرمل كلها تعاين موقع الجسر الذي “أكله النهر”.

وصارت الهرمل مشطورة بين المقيمين والمغادرين.. فلا سبيل للمقيمين إلى المغادرة ولا حتى سباحة في مياه النهر الموحل… والمغادرون لن يجدوا جسراً يرتقونه عائدين إلى أهلهم.

صار التموين يُنقل إلى الهرمل عبر رميه من ضفة النهر إلى الضفة الأخرى مشدوداً بحبل حتى لا يسقط في النهر.. وطاف سمك الترويت على الطمي الذي حمله السيل إلى ضفتي النهر.. وهو يلفظ أنفاسه.

كان هذا السيل هو الأول الذي يشهده العاصي.. لم نعرف من أين أتى وكيف تجمعت كل المياه لتصب في النهر العذب وتحول واحاته إلى خراب..

ابتكر شباب الهرمل الخلاقون جسراً من جذوع الخشب وأعمدة الكهرباء، يعبره المشاة بمغامرة الوصول إلى الضفة الاخرى. ذهاباً أو إياباً إلى الهرمل.. وبعد أيام نجحت مساعي الخيرين في إقناع الجيش اللبناني بتركيب جسر عسكري حديدي لعبور الآليات.. فعادت الهرمل إلى رحاب الوطن بجسر من الحديد.. كلما عبرناه ذكرّنا صوت قرقعة الحديد بهدير السيل.. الذي كان يعاود هجماته في مواسمه التي صارت موسمية دون أن يلامس جسر الحديد.

ومنذ ذلك الوقت يأتي السيل.. يأخذ مقاهي العاصي ويجرف جنى الناس وتعبهم.. ويبتلع أسماك الترويت من الأحواض المنتشرة على ضفافه.. دون أن تشغل الحكومات وكل الجهات بالها بإيجاد حل للسيل.. كأن تجعل في مجراه سداً أو بحيرة تحضن السيل قبل أن يصل إلى النهر.. وهو أمر ممكن وليس مستحيلا..

يحكى في مقاهي العاصي ان الحيوانات الاليفة ومنها الكلاب والقطط تستشعر الخطر فتبتعد عن ضفتي النهر .. ثم يأتي بعد ذلك السيل.

إلا دولتنا، فطوال ثلاثين عاماً وحاسة الشم عندها معطلة.. بالتأكيد الأمر لا يتعلق باستشعار خطر… بل هو فقدان الشعور بالمسؤولية.

بالمناسبة فإن الحكومة، وبعد سنوات طويلة، لزّمت بناء جسر العاصي.. لكن وقبل اكتمال بنيانه انهار الجسر الموعود.. لفساد في التلزيم.. وبعد إعادة إعماره دمّره العدو في حرب تموز 2006 وأعادت الهيئة الايرانية بناءه..

في هذا السيل الذي حدث الليلة (3|11|2017)  لم ينهر الجسر.. لكن السيل جرف كل أمل بدولة قد تعي أن الناس هناك.. فقدوا أي إحساس بوجودها.. ولن ينفع أن تقول لهم أنا موجودة. حتى يشعروا أنها موجودة.

ربما يكون عبور الجسر إلى حمص أقرب إلى الواقع من وصول الدولة إلى الهرمل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.