لبنان وسيادة “الفرانشايز”

موقع قناة الميادين-

ريما فرح:

هي “سيادة السياديين” من دون زيادة أو نقصان؛ “سيادة” الاستيراد (“الفرانشايز”) كسيادة الـ “الماكدونالدز”.

يتحدث كل من هو على علاقة ببعض المسؤولين الأميركيين، المتعاطين بالشأن اللبناني، بكثير من الثقة والاعتداد بالنفس، كونهم يملكون المعلومات التي ترسم الواقع الذي سيكون عليه لبنان حاضراً ومستقبلاً… فيتحدثون عن انهيارات، وفوضى مالية واقتصادية، وانفجار اجتماعي وتفلّت أمني، وسواها من المصائب التي ستنزل على رؤوس اللبنانيين، وسط فراغ آتٍ في المؤسسات بسبب تعذّر تنفيذ أي استحقاق دستوري، حكومياً ورئاسياً.

وما كان ينقص هؤلاء سوى ديفيد هيل، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، الذي قال مؤخراً، غداة إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، إن احتمال استمرار الشلل السياسي في لبنان كبير، وقد يمتد أعواماً طويلة. وإن الحكومة ستواجه صعوبة في تنفيذ مُهمّاتها، واصفاً الوضع بالعصيب.

قبل أكثر من عامين تقريباً، وقبل انفجار مرفأ بيروت، تداول ناشطون، عبر السوشيل ميديا وتطبيقاته، عظةً لأحد الأساقفة المسيحيين، خرج بها على رعيته، يخبر فيها بأن لبنان مقبل على مجاعة وفقدان للمواد الغذائية، حاثّاً الرعية وسائر اللبنانيين على الانخراط في الزراعة، لمواجهة الأزمة القادمة. وقال فيما قاله: إن البطريرك الماروني، في اجتماع لمطارنة وكهنة، تحدَّث عن انهيار كبير آتٍ، ومجاعة، وإن المجتمع الدولي سيتحرك لإمداد لبنان بالمساعدات الغذائية والطبية، عبر مرجعيات من المجتمع المدني، بسبب فقدانه الثقة بالمنظومة الحاكمة.

قبلها، وفي معرض متابعة شؤون التنمية مع هيئات رسمية ومنظمات دولية، تبيّن أن ما كان يحمله المبعوثون الدوليون من هذه المؤسسات إلى من يلتقونهم، هو سؤالٌ مركزي واحد: كم يحتاج المجتمع اللبناني والمقيمون من مساعدات غذائية؟

حينها، لم تكن نسبة الفقر تجاوزت 35%، بحيث كان التوقع الأسوأ للأوضاع الاقتصادية والمالية أن تصل النسبة إلى 50%، في حال تفلت الدولار الأميركي إلى حدود الآلاف الثلاثة.

كانت الأسئلة تلك غريبة في وقت كان لبنان للتو خارجاً من مؤتمر سيدر، الذي بشّر بقروض لمشاريع بنى تحتية واستثمارات دولية تؤمّن مئات آلاف الوظائف في لبنان. كان ذلك كله قبل ما سُمّي “ثورة 17 تشرين” عام 2019.

جاءت “الثورة” ونزلت الجماهير بمئات الآلاف إلى الشوارع تصرخ بخطاب بدأ مطلبياً ليتدرّج سياسياً، متزامناً مع قطع أوصال البلاد، وصولاً إلى خطاب “السيادة” المستمر إلى الآن ضمن سيناريوهات معلّبة، وصولاً إلى اليوم، مروراً بمحطات التدهور، مالياً واقتصادياً، وتهريب الأموال إلى الخارج، ووضع أيدي المصارف على أموال المودعين، والانهيار الدراماتيكي لليرة اللبنانية أمام الدولار، وصولاً إلى فقدان ثقة المجتمع بالدولة ومؤسساتها، والتحول إلى دور أكبر للمجتمع المدني، الذي تَحصَر فيه كل المساعدات كونه مبعث ثقة.

كل ذلك على مدى عامين ونصف عام، وصولاً إلى الانتخابات النيابية التي رفعت سقف الخطاب “السيادي”، الذي ترشحت تحت عنوانه، قوى التغيير و”الثورة” وبقايا “الرابع عشر من آذار”.

ولأن “السيادة بالسيادة تُذكَر”، يحملنا ذلك إلى ما كشفه المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، في ندوة له في معهد واشنطن، وهو بالمناسبة الأب الروحي لمشروع الاستثمار في “الثوار”، حين وصفهم بالنرجسيين الذين سيأكلون بعضهم البعض، عن الدور الأميركي في تسريع حدوث الانهيار المالي في لبنان، إذ قال ضاحكاً وبطريقة شامتة: “فرضنا عقوبات على مؤسسات حزب الله المالية، كبنك الجمال، وكنا حريصين على مزامنة ذلك مباشرة بعد قيام وكالة موديز للتصنيف الائتماني بخفض تصنيف لبنان، وكنا نحن من يقف خلف هذا القرار”.

وفي الجانب السيادي عينه، وجب التوقف عند شروط صندوق النقد الدولي، التي تُلزم لبنان غير القادر على تحملها، بتطبيقها تحت طائلة التهديد بحرمانه من أي “مساعدة”، كقروض بقيمة ثلاثة مليارات دولار، موزعة على أربعة أعوام، والاستمرار في حالة الانهيار الشامل.

وإن كانت شروط صندوق النقد الدولي تبدأ بتشريعات إصلاحية مالية، وبإقرار خطة تعافٍ مالي أقرتها حكومة لبنان، على عجل، في آخر جلسة لها قبل تحوُّلها إلى حكومة تصريف أعمال، راميةً كرة مخاطرها في ملعب مجلس النواب المنتخَب، فإن حناياها غير المعلنة لا تنتهي عند الضغوطات لتقديم تنازلات سيادية أين منها الترسيم البحري، وربطها بإمداد لبنان بالكهرباء، عبر استجرار الغاز المصري والكهرباء من الأردن، وصولاً إلى دمج النازحين السوريين في المجتمع اللبناني، وإلى مقايضة – على ذِمَم الراوين – السلام مع “إسرائيل” في مقابل الغذاء، وإلّا فالمجاعة.

يحدّثونك عن شروط وشروط، تبدأ ولا تنتهي، ولا ينفكون عن التطرّق إلى السيادة…

هي “سيادة السياديين” من دون زيادة أو نقصان؛ هي “سيادة” الاستيراد (الفرانشايز) كسيادة الـ”الماكدونالدز”.

اليوم، نشهد انتقال حملتها، وتحت مسمّيات التغيير والمعارضة إلى مجلس نيابي، سيتجاوز بالتأكيد قطوع تشكيل إدارته المجلسية بانتخاب رئيس ونائب له وهيئة مجلس ورؤساء لجان ولجان، لكنه لن يتجاوز قطوعات عمله التشريعي، بحيث تؤشر كل الدلائل على أن دوره سيكون منعدم الإنتاجية بفعل تركيبته التي تحمل في طبيعتها عناصر فشلها. أمّا دوره المحاسبي، فقد ينتظر طويلاً من يحاسبه، لأن ما يُنقَل وما يصل إلى الداخل اللبناني، وفق السيناريو المرسوم والذي اعتاد اللبنانيون توقعاته في الأعوام الأخيرة، أن لبنان مقبل على فترة طويلة في ظل حكومة تصريف أعمال، مع ما يعني ذلك من شلل، يحتاج كل قرار تتخذه إلى توقيع الوزراء جميعاً، بحيث يصبح كل وزير في منزلة رئيس للجمهورية بسبب الحاجة إلى توقيعه، وستقطع هذه الحالة في فراغ رئاسي بعد تعطيل الاستحقاقين الدستوريين الحكومي ورئاسة الجمهورية.

الناس تزداد بؤساً، فيقابلونها بمزيد من الحديث عن السيادة.

ثم يحدّثونك عن “مبادرة” فرنسية، يبحثون عنها في كومة قش، متطلعين إلى “قَبة باط” أميركية، ويقيسون درجة القَبة التي لن تصل يوماً إلى زاوية قائمة وسط انشغال الرئيس الفرنسي بالانتخابات التشريعية المرتقبة هناك… ولا ينفكون عن التشدق بالسيادة.

بالأمس، لعب دولار السوق السوداء لعبة بهلوانية، فارتفع وهبط خلال ساعات قليلة جداً عشرة آلاف ليرة لبنانية، وردّ وزير المالية، متحدثاُ إلى وكالة “سبوتنيك”، السبب إلى أنه نتيجة عوامل خارجية.

حقاً، إن “سيادة الفرنشايز” نعمة مجهولة قد لا نستحقها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.