انقلاب تركيا من وحي أميركي

usa-tur

عقيل الشيخ حسين – موقع العهد

التعقيدات المحيطة بالتطورات التي شهدتها تركيا خلال الأيام العشرة الأخيرة فتحت المجال أمام الكثير من التفسيرات والتوقعات التي تغلب عليها صفة التعارض، الأمر الذي لا يسهل معه تكوين تصور واقعي عن هذا الحدث خارج إطار التفاهم الخبيث بين إردوغان وواشنطن.

ويمكن، من خلال تفحص مختلف آراء المحللين، أن نتلمس اتجاهين أساسيين في تفسير ما جرى ويجري.

انقلاب ركيك
الأول يعتبر أن الانقلاب هو من صنع إردوغان نفسه وأن الهدف من صنعه هو إفشاله واستخدامه كمبرر لضرب جميع القوى والعناصر غير الموالية بشكل مطلق للرئيس إردوغان الطامح إلى تحصيل المزيد من القوة اللازمة لإعادة الحياة إلى الإمبراطورية العثمانية. أما أهم ما يدعم هذه النظرية فهو الركاكة الهشاشة التي تميز بها الانقلاب الذي بدا، لاعتبارات عديدة، وكانه قد تواطأ ضد نفسه ولصالح النظام القائم. تكفي الإشارة مثلاً إلى أن الإعداد للانقلاب وتحريك آلاف الجنود ومئات العربات والطائرات والسفن من قبل الانقلايين لم يلفت نظر أحد في تركيا التي تحتل موقعاً خاصاً في حلف الناتو وتقوم على أراضيها شبكات من القواعد العسكرية ذات المهام الاستراتيجية، في ظل توترات وصراعات باردة وساخنة بين المعسكر الغربي وقوى المقاومة والتحرر في المنطقة والعالم.
الثاني يعتبر أن الانقلاب قد نفذ بوحي من واشنطن وحلف الناتو في إطار توجه نحو تسليم الحكم إلى الداعية الإسلامي فتح الله غولين الذي تربطه علاقات وثيقة بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وبهيلاري كلينتون التي لم تعد تفصلها عن البيت الأريض سوى أشهر قليلة . والواضح أن هذه النظرية تعاني من ضعف قاتل لأسباب منها الركاكة المشار إليها أعلاه والتي لا تتناسب بحال من الأحوال مع علو كعب الاستخبارات الأميركية التي نفذت عشرات الانقلابات والتدخلات العسكرية الناجحة خلال العقود الأخيرة.
تطبيع مع الكيان الصهيوني
أما السبب الذي -على ما يقوله أصحاب هذه النظرية- دفع واشنطن إلى تدبير الانقلاب على إردوغان، فيتراوح بين رغبة الولايات المتحدة بتسليم فتح الله غولين مقاليد الحكم في تركيا، بشروط منها تسهيل إقامة دولة كردية مرفوضة بلا هواده من قبل النظام التركي الحالي، وبين سياسات إردوغان التي يقول الأميركيون بأنها أعاقت حربهم المزعومة على داعش، وصولاً إلى المساعي الأميركية الهادفة إلى قطع الطريق أمام ظهور بوادر لمواقف تركية مستجدة حيال الحرب على سوريا في إطار تقارب ممكن بين أنقرة وكل من موسكو وطهران ودمشق.
وبالطبع، لا ينسجم هذا التفسير الذي يكاد يضع تركيا في صف خصوم أميركا في المنطقة، لا ينسجم مع إعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، وهو التطبيع الذي يهدف، في جملة أهدافه، إلى استخدام النفوذ الصهيوني في الضغط على واشنطن ودفعها إلى اعتماد سياسات أكثر رأفة بتركيا المرهقة بفعل تخبطات إردوغان وفشل الحرب على سوريا، وهي الحرب التي راهن عليها إردوغان في إطار طموحاته الطورانية.

ولعل الاحتمال الوحيد الذي يسمح بالنظر إلى الانقلاب على أنه من وحي أميركي هو ذاك الذي يجمع بين بعض عناصر النظريتين ليخرج منهما نظرية ثالثة مفادها أن الانقلاب هو فعلاً من تدبير أميركي، بمعرفة إردوغان أو بغير معرفته، لا لإسقاط إردوغان بل لمنحه المزيد من القوة والقدرة على خدمة مشاريع الهيمنة في المنطقة. وفي الوقت نفسه، لإضعاف تركيا نفسها بفعل أعمال الاضطهاد الواسعة النطاق التي يقوم بها إردوغان ومناصروه في نطاق “الثمن الباهظ” الذي ينزلونه بخصومهم. أما إضعاف تركيا فهو، من الناحية الاستراتيجية، أمر مطلوب أميركياً وإسرائيلياً في جملة المساعي الهادفة إلى تفتيت المنطقة وتحويلها إلى كيانات طائفية وإتنية وما إلى ذلك.
لقد أطلق إردوغان كثيراً من التهديد والوعيد تجاه واشنطن، واتهمها مرة بأنها هي الجهة التي تزعزع الاستقرار في المنطقة, وها هو الآن، وبعد أن سقطت تركيا في وضع من اللااستقرار الأكيد، يحصر خلافه معها إلى مسألة تسليم فتح الله غولين. والحقيقة أن واشنطن لا تتردد للحظة في التخلي عن عملائها خدمة لمصالحها العليا. لكنها لا تبدو الآن جاهزة لأن تفعل ذلك، لأنها تريد الإبقاء على التشنج الظاهري في العلاقة مع إروغان لإشاعة الانطباع بأن هذا الأخير قد انقلب إلى صف خصوم أميركا في المنطقة.
أما إذا ما كان إردوغان راغباً فعلاً في التراجع عن السياسات التي ألحقت الضرر بالعلاقات بين تركيا وجيرانها ووضعت تركيا على شفير الحرب الأهلية، فما عليه إلا أن يعطي الأولوية لسياسة إقليمية تخدم مصالح المنطقة في إطار من التعاون الجدي مع محور الممانعة والمقاومة، ومن القطيعة مع محور الهيمنة المتمثل بالكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.