بوتين يبهر بخطاب جديد

ruusia-putin

صحيفة السفير اللبنانية ـ
جميل مطر:

لم يعد العالم ينظر إلى فلاديمير بوتين بعدم اكتراث أو لا مبالاة، فالرجل عاد بعناده ومشكلات بلاده يفرض روسيا على العالم لاعباً فاعلا، أو، وهو الأهم، لاعباً رئيساً محتملاً في الساحة الدولية.
أكتب هذه المقدمة على ضوء قراءة متمعنة لخطابه الأخير في الاجتماع السنوي للجمعية الاتحادية الروسية الذي انعقد قبل أيام قليلة بقصر الكرملين. توقفت مليا أمام ردود فعل السياسيين والمعلقين الغربيين على هذا الخطاب وقد تجاوز اهتمام أغلبهم مضمون الخطاب، بمعنى أنه بينما لم يجد المتتبع لخطب بوتين سواء في لهجة هذا الخطاب أو مضمونه اختلافا واسعا مع لهجة ومضمون خطبه خلال السنوات السبع الأخيرة، ظهرت ردود كما لو كان في الخطاب مفاجآت أو تطورات خطيرة في السياسة الروسية.
تكمن أهمية الخطاب من وجهة نظري في أنه يعيد التذكير برؤية روسيا للعالم الخارجي كما صاغها فلاديمير بوتين في خطابه الأشهَر في مؤتمر الأمن الذي عقد في مدينة ميونيخ في العام 2007، وهي الرؤية التي طورها وأكدها في خطب أخرى منذ ذلك الحين كخطابه في الجمعية الاتحادية في كانون الأول من العام الماضي وخطابه في القرم في آذار 2014 وخطابه في سوشي في 24 تشرين الأول من العام ذاته، وخطاب آخر في القرم في 4 كانون الأول الجاري.
في خطابه في ميونيخ قبل 7 سنوات، وصف بوتين النظام الدولي بأنه النظام الذي حفل بعدد من الحروب لم يشهدها أو يتسبب فيها نظام دولي سابق على نظام القطبية المنفردة، قاصداً هيمنة أميركا على النظام الدولي. كانت القطبية المنفردة كما رآها بوتين وقتذاك ولا تزال غطاء لاستخدام غير مبرر للقوة وتحقيق مصالح دول بعينها وغطاء لجهود كبيرة لتوظيف المنظمات غير الحكومية والأهلية لخدمة أهداف دول عظمى والتدخل في شؤون دول أخرى. هناك في ميونيخ أعلن بوتين رفض روسيا لنظام القطبية الأحادية باعتبار أنها تكاد تصبح مستحيلة لسببين: أولهما أنها صارت تتطلب إمكانات هائلة، عسكرية واقتصادية وسياسية، لم تعد تتوفر لأي دولة في العالم، وثانيهما أنها، أي القطبية الأحادية، صارت مستحيلة أخلاقيا.
هذا الجانب من رؤية روسيا للعالم أعاد بوتين تثبيتها في خطبه التالية وآخرها خطبته قبل أيام أمام الجمعية الاتحادية. عناصر هذا الخطاب لن تختلف كثيرا عن عناصر خطبه الأخرى، ولكن اللهجة والكلمات تغيرت، فكانت أشد وأقوى، حتى أن بعض ردود الفعل بالغت ووصفت الخطاب بأنه «خطاب معركة». هناك بلا شك ما يبرر هذه المبالغة، ولكنه لا يبرر على الإطلاق الأصوات الزاعقة التي راحت تتنبأ بحرب باردة ثانية، ولم يبرر بالتالي أي إجراءات على أرض الواقع تقوم بها دول لها مصلحة في إثارة توترات عالمية أو إقليمية.
لهجة الخطاب لها ما يبررها. فقد عاد فلاديمير بوتين للتو من رحلة «عذاب» طافت به من الصين إلى استراليا إلى روسيا ليجد في انتظاره عقوبات جديدة فرضتها الدول الغربية على بلاده، و«روبلا» تدهورت قيمته إلى الثلث، وانخفاضات جذرية في سعر النفط. إذا أضفنا هذه التطورات إلى وضع استثنائي في علاقات روسيا الخارجية، ترتبت على انتفاضة كييف واستعادة روسيا شبه جزيرة القرم وضمها نهائيا إلى الوطن الروسي، لربما اقتنعنا بأنها كافية لتجعل خطاب بوتين الأخير ساخنا. ولكنها بالتأكيد ليست كافية للحكم على الخطاب بأنه بمثابة إعلان عن نشوب معركة في حرب باردة جديدة. أظن أن ما أثار بوتين أكثر من غيره هو تجدد حربه مع متمردي أقاليم الشيشان وجسارة المسلحين الذين أقدموا على خوض قتال في وسط مدينة غروزني، المدينة التي يعتقد بوتين وبحق أنه حقق فيها إنجازه الأول كرئيس عندما فرض بالقوة المسلحة استقراراً سياسيا وعسكريا شمل كل أقاليم الشيشان، وجلب له شعبية كبيرة في روسيا. كان بوتين في خطابه صريحا وقويا عندما اتهم الولايات المتحدة ودولاً أخرى في الغرب بإثارة عناصر التمرد من جديد في الشيشان. أعتقد أنه اعتبر هذه المؤامرة أخطر على سلامة روسيا وعلى مشروعه بناء روسيا الكبرى من تمدد «حلف الأطلسي» والاتحاد الأوروبي في دول الجوار.
استمر بوتين في إلقاء الخطاب سبعين دقيقة، تحدث خلالها بلهجة عنيفة عن دول الغرب التي راحت ترتدي ثياب النازية لتعزل روسيا وتحجزها وراء الأورال، وهى تعلم تماما كيف انتهت المحاولة النازية الأولى التي ستكون أيضا مصير المحاولة الثانية. تحدث عن تطوير القوات المسلحة الروسية والعقبات التي يضعها الغرب أمام هذا التطوير، ولكنه كان حازما في التنبيه إلى أنه لن يدخل في سباق تسلح، في إشارة بالغة الذكاء الى السباق الذي فرضه الرئيس ريغان على الاتحاد السوفياتي في الثمانينيات من القرن الماضي، وانتهى بانهيار الاقتصاد السوفياتي.
من ناحية أخرى، حاول التشديد على اعتقاده بأن الغرب يقف وراء الانتفاضة الأوكرانية. بوتين لا يخفي رأيه في أزمة أوكرانيا من حيث أنها ليست أكثر من محاولة غربية جديدة ضمن سلسلة محاولات عبر القرون ومنذ عهود القياصرة لإضعاف روسيا، بل وأضاف ان من أهداف الدول الغربية تفكيك روسيا وتدميرها ونسف جهودها لتثبيت دعائم «الحضارة الروسية».
لم يفت بوتين انتهاز الفرصة لينتقد قادة دول الجوار، موجها حديثه إليهم بالقول: «لم نعد نعرف مع مَن نتكلم في هذه الدول، أنتكلم مع حكومات دول مستقلة أم مع السادة والرعاة في الخارج؟».
الجديد في هذا الخطاب، ولعله جديد أيضا في خطاب روسيا السياسي والتاريخي، إشارة بوتين إلى أن مكانة شبه جزيرة القرم بالنسبة للشعب الروسي تماثل مكانة جبل الهيكل في القدس بالنسبة للشعوب الإسلامية والشعب اليهودي. هكذا، يبدو بوتين وقد شعر بأن حال روسيا هذه الأيام ومشكلاتها المعقدة وحرب العقوبات المفروضة عليها ومحاولات احتوائها، تستدعي إثارة المشاعر القومية والدينية في آن واحد. راح يستعير من التاريخ رواية الأمير السلافي فلاديمير الذي جرى تعميده مسيحياً في شبه جزيرة القرم في القرن العاشر الميلادي، فكان بهذا التعميد أول إعلان عن وصول المسيحية الى هذه المنطقة من العالم وما نجم عن دخولها، إذ توحدت القبائل والشعوب لتشكل «الأمة الروسية». الرسالة هنا هي: لا وجود لروسيا «الوطن أو القوم أو الحضارة» من دون القرم.
ترك الخطاب في نفوس المهتمين بالشأن الروسي أصداء شتى، تبدأ بتشبيه الخطاب بالخطب التي مهدت لنشوب الحرب الباردة الأولى وتنتهي بتوقعات متباينة عن مستقبل حكم الرئيس بوتين. أعتقد شخصيا أن أهم ما رشح من هذه الأصداء يلخصه رأيان متكاملان ومتضادان في الوقت نفسه. الرأيان يتفقان على أن استمرار جهود احتواء روسيا وفرض العقوبات عليها سيؤديان بالضرورة إلى تصاعد حاد في الشعور القومي والديني. أما الاختلاف بين الرأيين فيظهر حين يعلن رأي من الرأيين، عن ثقته بأن هذا التصاعد في المشاعر القومية، خصوصاً بعد مزج هذه المشاعر بالدين أي «المسيحية الأرثوذكسية الروسية» وبالعرق «أي العنصر السلافي»، كفيل بأن يخلق ثقة أكبر في النفس، ويقضي على شعور الدونية المتجذر تجاه الغرب في الثقافة الروسية، ويشجع القادة الروس على التعامل باتزان واعتدال مع الغرب ومع دول الجوار.
أما الرأي الآخر، فيعتقد أن هذا التصعيد كفيل بأن يلهب المشاعر الروسية المعادية للغرب والمعتمدة تاريخيا على رؤية للعالم الخارجي لم تتغير كثيرا عبر القرون. هذه المشاعر، لو تصاعدت، تستطيع أن تدفع بقادة روسيا إلى محاولة استعادة سياسات التوسع الإقليمي ومحاولات تنفيذ الحلم الإمبراطوري. من ناحية أخرى، قد يدفع هذا بالسياسة الخارجية الروسية في اتجاه عرقلة جهود حل المشكلات والأزمات الدولية المستعصية، والاستفادة من العداء المتزايد للغرب في العالم الإسلامي، والعودة الى أساليب إثارة الاضطرابات ضد المصالح الغربية في آسيا وأفريقيا، والعمل تحت الأرض أسوة بما تفعله أميركا ودول الغرب في روسيا والشرق الأوسط. أصحاب هذا الرأي لا يستبعدون أن يبدأ الروس، إذا استمر الضغط عليهم والعقوبات ضدهم، في فتح جبهة اضطراب خطيرة في البلقان، حيث المشاعر ضد الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» تغيرت وعادت تنحاز للجانب الروسي.
أتصور أنه يتعين علينا في الشرق الأوسط أن نستعد لتطورات تمس احتمالات عودة الاستقرار والأمن، وتمس أيضا المصالح المباشرة للإقليم كنتيجة حتمية لتطورات هذا الصراع بين روسيا والغرب. مرة أخرى تعين علينا أيضا أن نراقب سلوك تركيا، فهي أقربنا إلى حدود الصراع الملتهبة وأكثرنا خبرة في الاستفادة من صراعات روسيا الخارجية. ها هي بالفعل تستفيد من أزمة أنابيب الغاز الروسية لتسد حاجتها من الطاقة، ولتحصل على دخل نقدي كبير، وتواصل تجديد مزايا موقعها الاستراتيجي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.