خريطة سياسية رسمها السيد نصرالله من الإقليم إلى لبنان

موقع النتيار الوطني الحرـ
جورج عبيد:

رسم كلام السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله خريطة سياسيّة توازنت فيها المرونة بالصرامة، وتوازى في متنها الأمل والأم في منطقة عصفت بها صفقة خطيرة في مضمونها، وتداعياتها منهمرة مطرًا اسود في الداخل اللبنانيّ في لعبة التطويق الممارَس خارجيًّا بالوسائل الماليّة والاقتصاديّة على البلاد.

سماحته بعمقه الفكريّ واستشرافه الاستراتيجيّ، مدرك وبلا ريب، بأنّ أعمدة صفقة القرن المزعومة زرعت في لبنان ومنه باتجاه فلسطين المحتلّة. ولم يكتفّ الزارعون الأميركيون بالمدى اللبنانيّ لترسيخ الزرع، بل دمجوا واقع العراق بواقع لبنان، لضرب جذوة قوى الممانعة الممدودة من هناك إلى هنا، وإبطال قوتها وفعلها بتشدّد قلّ نظيره، وحصار روسيا في سوريا، وإصابتها بندوب وأعطاب فتبدو في مواقعها شديدة الوهن، لاهثة من التعب. فجاء خطاب سماحته يوم أمس كثير الإضاءة على تلك المكامن والمثالب الأميركيّة المتكوّمة في ربط الأحداث ببعضها وجذبها إلى المعنى الواحد، وكأن الأميركيين يملكون الأرض والخيار عليها والقرار فيها، فيما هم وجود هشّ بفرضون أنفسهم بالترغيب حينًا والترهيب أحيانًا كثيرة، ويمارسون الضغوطات بقسوة ترعب الضعفاء بواسطة الخونة والعملاء. ولذلك قال السيد نصرالله: “نحن أمام مواجهة جديدة لا مفرّ منها، لأنّ الطرف الآخر يهاجم ويبادر ويشنّ الحروب… لينتهي بالقول إنّ المعركة تحتاج إل الوعي وعدم الخوف من أميركا”.

تشديد سماحته على عدم الخوف من أميركا مستند على هشاشة أدبياتها، وعلى أنّ فاقد الشيء لا يعطيه. فتطويب دونالد ترامب القدس لإسرائيل لتكون عاصمتها اليهوديّة الأبديّة لا معنى له، والعالم باسره يلفظه، لكونه يبطل التوحيد الإبراهيميّ المؤسّس لمدينة السلام، والذي عليه تأسس الكون الجديد منذ ذلك الوقت. التوحيد الإبراهيميّ لافظ بالكليّة للآحادية اليهوديّة المطلقة وماقت لها. هذا أساس ليقف الأوروبيون والعرب والروس بوجه تهويد القدسن والرفض بدوره له شرعيته القانونيّة لكون الأمم المتحدة غير داعمة للمسعى الأميركيّ بالتأكيد على صفقة القرن. كما أنّ ترامب غير قادر على منح الجولان السوريّ للإسرائيليين، فالواهب غير مالك، والموهوب محتلّ، والأمم المتحدة بدورها لا تزال متمسّكة بالقرارين الصادرين عنها وهما 242 و336. السيّد نصرالله قال غير مرّة بأنّ إسرائيل أوهى من بيت العنكبوت، وفي حديث له مع غسان بن جدّو من على شاشة الميادين منذ أشهر توقّع سماحته أن يصلي هو نفسه في القدس ونحن بدورنا سنصلي معه، ستكون لنا صلاة مسيحيّة-إسلاميّة من كنيسة القيامة إلى المسجد الأقصى ليكون لنا في القدس سلام.

بالعودة إلى الخريطة التي رسمها سماحته، فهي غير محصورة بالمدى اللبنانيّ. ذلك أنّ المشرق كلّه هو المدى، ولبنان جزء من هذا المدى. لكن من الواجب القول، بأنّ الخريطة المرسومة مستندة بالضرورة ومنذ أمس بانتصار الرئيس بشار الأسد والجيش السوريّ بمآزرة روسيا وإيران وبخاصّة حزب الله في ريف حلب على القوى التكفيريّة المدعومين بشكل مباشر من الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان. فالمعركة تلك لم تهزم أردوغان، بل هزمت مشروع ترامب في المنطقة، وأردوغان ضمنًا وبالمضمون جزء منه وإن حاول بالشكل القفز عليه وغسل يديه من جوهره. فهي قد فتحت الطريق بين حلب وإدلب باتجاه حسم المعركة هناك بصورة جذريّة وفتحت بدورها حلب باتجاه حمص ودمشق والساحل السوريّ. لقد أعاد النصر حلب الشهباء إلى المعادلة فكان هو الكلام الجديد المباح ميدانيًّا والذي سيؤكّد مجموعة الخيارات المنتظرة. لقد بات واضحًا بأنّ اتفاق الأستانة قد سقط، وانكسر بسقوطه ذلك المثلّث الذي كتب التسوية في سوريا، فتحوّل إلى ثنائيّ واضح في معالمه وتكوينه، سيكون له الأثر الواضح في تكوين اللحظات الجديدة الممدودة من موسكو إلى طهران إلى العراق وسوريا ولبنان، وتلك اللحظات بحدّ ذاتها ستجهض صفقة القرن إجهاضًا عدميًّا قاتلاً. وقد تبيّن ومن دون التباس مدى التماهي الجوهريّ بين تركيا وإسرائيل، فمع كلّ تقدّم للجيش السوريّ في حلب ومحيط إدلب باتجاه القوى المدعومة من رجب طيب أردوغان كان الإسرائيليون من الجوّ يقصفون محيط دمشق بغية الإرهاب والإرعاب، وكمحاولة لبعث رسائل جوفاء لا معنى لها في جوف الصراع القائم ومسراه.

إستند سماحته برسم الخريطة على ما تحقّق وما يؤمل تحقيقه فيما بعد. ذلك أنّ النصر المحقّق الآن وغدًا في سوريا جاذب لمجموعة معادلات ليس صعبًا على المراقب استشرافها وقراءتها. من أهمّها فقدان الأتراك قدرتهم على التموضع في المشهد الإقليميّ، فخسارتهم لريف حلب طريق لخسارتهم إدلب، ولا ضرورة وكما قال الرئيس بشار الأسد لسماع بعض الفقّاعات الآتية من الشمال، لقد خسر أردوغان رهانه ولم يعد مالكًا الأوراق، خسر روسيا كما خسر إيران في الوقت عينه، وهما غير قادرين على تعويمه، وقد انكشف دوره كدعامة لصفقة العصر بعكس ما أظهره من رفض. ستتحرّك السعوديّة والإمارات لاستكمال الحوار مع سوريا، واستهلاك الحوار باتجاه التحاور مع إيران وقد كان اللواء قاسم سليماني رحمه الله يعدّ العدّة لتسييله وتسييره من بعد تسهيله برزمة أفكار ظهرت ما بين الطرفين. السعوديّة والإمارات بدأتا تلمسان أهمية النصر المحقّق في سوريا وهما المشتهيان سقوطًا مريعًا وذريعًا لأردوغان ومشروعه الإخونجيّ في المنطقة الممتدة من المشرق إلى ليبيا مرورًا بالخليج من خلال تحالفه وقطر، وهذا يحفزّهما لسدّ المنافذ أمام تركيا بحوار مع سوريا وترتيب حوار ممكن مع إيران وفقًا لتطورات المرحلة المقبلة. ومن أهمّها أيضًا بأن الوضع اللبنانيّ سينجذب إلى هذا النصر الجديد متأثّرًا بتفاعلاته وإسقاطاته، والقوى الداخلية ستتعامل معه حتمًا بتأثيرات اللحظة، كما أنه أسقط وكما قلنا صفقة القرن لتعيد خلط أوراق اللعبة فيما بعد حين سيتمّ انكفاء الأميركيين باتجاه معركة الانتخابات الرئاسيّة عندهم.

وبعد، فإنّ الشق اللبنانيّ من كلام السيّد واضح من حيث تبنّي الحكومة اللبنانيّة برئاسة الدكتور حسان دياب. “فهي ليست حكومة حزب الله”، ولكنّها أيضًا ليست حكومة “أميركيّة” لا بالواقع ولا بالمطلق. إنها حكومة اختصاصيين معظمهم أكفاء. لقد دعاهم السيد لتأليف لجنة سياسية من معارضين وموالين لأن الوضع الاقتصادي والنقدي في حلة خطرة”. وقد رام سماحته بتلك الدعوة إلى التفاف سياسيّ نحو حلّ جذريّ لهذه الأزمة. غير أنّ المسألة لا تحتاج برأي بعضهم لنقاش أو حوار، بل لقرار واضح غير منتسب إلى ترف النظريات الاقتصادية والماليّة، أو المباحثات السياسيّة. المشكلة عاصفة بالجميع وتهدّد الجميع، والقرار ينطلق بتفعيل السلطة القضائيّة، ولي الأذرع العاملة على استبقاء لبنان أرضًا للفوضى الهدّامة. الأميركيون باستغلالهم للقمة الناس وأموالهم عبر عملائهم، ينظرون إلى لبنان كأداة أو كحوض لاستمرار هيمنتهم على المنطقة بعدما فقدوا بالمطلق سوريا مع انكسار القوى التي كوّنوها ومولوها وأطلقوها. يحاولون استبقاء لبنان قاعدة لهم مقابل القاعدة الروسيّة في سوريا. ما يجعل تلك الأذرع مكبوسة، قرار يتولاه الرئيسان ميشال عون وحسان دياب يدعوان فيه الثالوث الأسود، حاكم مصرف لبنان، نقيب الصرّافين، ورئيس جمعية المصارف مع أصحاب المصارف، وبلا مقدمات أو نظريات، يأتي القرار على النحو التالي: “إمّا تعيدون الأموال من الخارج وتتقيّدون بسعر واحد للدولار، أو رؤوسكم في الدقّ. وفي الوقت يتمّ فتح باب الحوار مع مالكي السندات اليوروبوندز للتفاوض المرن معهم من أجل جدولة تسديد الدين، ثمّ فتح كوريدور اقتصادي باتجاه سوريا والعراق. فخاطبة سوريا باتت ضروريّة وزيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني لاريجاني مقدّمة واقعيّة لفتح هذا الكوريدور لمواجهة الضغط وإيقاف النزف.

قرار كهذا كاف لزعزعة أميركا في لبنان. يكفي كلام السيد حيث ظهر الأمل متوازنًا مع الألم: “هناك أمل بينما هناك من يريد للبنانيين عليكم الاستسلام للخارج وبيع دولتكم للخارج أو لغير الخارج”. وأكمل قائلاً من يدعو إلى اليأس يرتكب خيانو وطنيّة، والمسألة تحتاج إلى الوعي والشجاعة والتضحيّة والتخلّي عن الحسابات الخاطئة، فأميركا لا تخيف. أي لا تخيف الأقوياء بحقوقهم. ويجب أن تعطى الحكومة فرصة ثمينة وطيبة «فإذا نجحت هذه الحكومة في وقف الانهيار والانحدار وتهدئة النفوس، فهي تقدم خدمة كبيرة لكل اللبنانيين».

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.