“صَحافة لينينغراد” وبوتين.. ذكريات من أوراق مُبعثرة

موقع إنباء الإخباري ـ
الأكاديمي مروان سوداح*:

زيارتي الى كلية الصحافة لجامعة جدانوف اللينينغرادية الحكومية، بعد نحو 32 سنة على تخرّجي منها، لم تكن عادية البتة. فهناك في لينينغراد تغيّرت أشكال الحَجر وملامح البُنيان حتى، وتضاريس الأرض كذلك، واختلفت الصور وكل شيء آخر، وطال ذلك تضاريس البشر أنفسهم، والتي لم تعد شبيهة بسابقاتها.

تغيّر النظام السياسي في روسيا، فطال التغيير الناس أيضاً. هناك مَن سيطرت عليهم روح الرأسمالية وجَشعها، لكن هناك غيرهم مِمَن لم يَرضخوا للواقع، فاستمروا يَحيون في عالمهم الاشتراكي الخاص وعقيدة المساواة، وإن كانوا يَخضعون لطغيان الرأسمالية الإجرامية وقوانينها عُنوة وقهراً، والتي لم يتصوّروا عودتها لروسيا حتى في أحلام اليقظة.

لكن في كلية الصحافة اللينينغرادية، كان الأمر مُختلفاً. فهناك شعرت بأنه وإن تغيّرت صورة المَبنى الحَجري التاريخي العريق الذي خرّج ألوف الإعلاميين والصحفيين الروسيين والأجانب، وإن تبّدل إسم الكلية الى “المعهد العالي للصحافة والاتصال الجماهيري”، إلا أن رئيستها الاستاذة الدكتورة غروموفا ليودميلا بيتروفنا كانت في غاية الأناقة واللطف والأدب خلال استقبالها لنا أنا وعقيلتي، فقد غمرتنا بترحيبها ومحبتها واحترامها ورعايتها الطاغية، فكان اللقاء حَميمياً جداً ويعكس عواطف حقيقة الانسان الروسي ومشاعره الشرقية الجيّاشة، ويَعرض لسلوكيات مُعظم المواطنين الروس ممن آثروا البقاء على نمطيتهم السابقة وعهدهم الانساني.

في الحقيقة، وإن كنت أحنُّ للواقع الاشتراكي وناسه واستمساكي به لأسباب جوهرية كثيرة، إلا أنني مُعجب للغاية بإدارة  الكلية التي تتفوق بجدارة على مثيلتها السابقة في عهد الحزب الواحد، ذلك أننا كطلبة لم نكن أنذاك نستطيع أن نتحدث بحرية وديمقراطية مع الإدارة التي كانت تتألف من رئيسٍ ومساعدٍ، لأسباب محض بيروقراطية واستعلائية وشخصانية، وتتعلق كذلك بتلكم الشخصيات التي كانت ترى بأنها أعلى وأرقى من الآخرين وتمسك بمصير الطلبة فإما تصفية مستقبلهم أو إحياءهُ!، وتترفع عن العلاقة المتساوية معهم، وحتى مجرد التواصل الانساني الذي لم تكن تتمتع بأقله..!

سابقاً، كان الشأن الشخصي للطلبة شأناً يُحَاسِب عليه رئيس الكلية الى درجة الانتقام من الطالب، وحتى زواج الطلبة كان يجب ان يكون بموافقة رئيس الكلية ويخضع لمشيئته، ناهيك عن المسائل والقضايا الشخصية الاخرى للطلبة وملفاتهم الانسانية، والتي كانت حتى نهاية عهدي بالكلية عام 1985م، شأناً يرتبط التعامل معه بمزاج رئيس الكلية!

آنذاك أذكر، بأن رئيس الكلية حاول تهديدي بالفصل من الدراسة لمجرد أنه لم يكن يَعلم بزواجي قبل إتمامه، ناهيك عن الزواج الديني الذي عارضه بعد إتمامه وتوعدني لأجله بعظائم الأمور، فقد كان “سعادته” يَعتبر قضايا الطلبة شؤوناً سياسية تخصه وتخضع لمشيئته كونه شخصيةً مهيمنةً بالمطلق على الكلية وشعبها.

إلا أن الصورة كانت مختلفة ومتعارضة ما بين إدارة الكلية وإدارة قسم الأجانب الذي ترأسه في أواخر دراستي في الجامعة، فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، الذي غدا لاحقاً رئيساً لأكبر دولة في العالم. فقد غيّر وجود بوتين وإدارته صورة العلاقة الضحلة بين الإدارة ومجاميع الطلبة وبخاصة الاجانب منهم، فأصبحوا يَشعرون بالطمأنينة والحرية والعدالة والتمتع بحياة مستقرة وهانئة دون تدخل في شخوصهم، وترسّخ احترامهم للبلد السوفييتي والروسي وشعبه وتعمّقت مَحبتهم له، إلى حد أن بوتين لم يكن يُخالف أي طالب أجنبي، وعلى الأخص إن كان عربياً حتى وإن  ارتكب شأناً كان يُعتبر مُخَالفاً للقانون، فقد كان بوتين يُدرك بِبعد بَصيرتهُ أن الأجنبي لا يمكن ان يَلم ويحيط بالقوانين الروسية بكليتها خلال فترة دراسته القصيرة في الاتحاد السوفييتي، كما ولا يمكن له أن يرتكب مخالفة عن سابق إصرار وترصّد.

وفي الواقع، كان قسم الاجانب في الجامعة، ونائب بوتين في الادارة الجامعية والاجنبية وإسمه الدكتور فايتيوغ،  أعلى مكانة إدارية من إدارات الكليات، ونفوذه مهيمناً على رؤسائها وإداراتها فيما يخص الاجانب والتعامل معهم. قوّة بوتين في الجامعة آنذاك كانت كبيرة سيّما وانه كان يَشغل المنصب الثاني فيها، نائب رئيس الجامعة، وشغل بوتين أيضاً عدداً آخر من المناصب القيادية. لذلك، كانت مكانته حاسمةً في الجامعة برمتها وعليها، فبوتين كان رجل “سمولني” الأول والقوي، فقد كان “سمولني” المركز القيادي الأعلى في العاصمة الشمالية، لينينغراد، وضواحيها المترامية المساحات.

لذلك، كان حرص الإدارة البوتينية كبيراً على مختلف الطلبة الاجانب ورعايتهم حتى في قضاياهم الشخصية، ومن هؤلاء أنا كاتب هذه السطور، إذ كنت حينها ناشطاً خارج النطاق الدراسي البحت. فإدارة بوتين أدركت ببُعد بصيرتها، أن هؤلاء الاجانب وبعد تخرّجهم من كلياتهم سيكونون سفراء لروسيا وشعبها في عوالمهم، لكونهم عايشوا الشعب الروسي، وتقاسموا معه الخبز والملح وكامل اليوميات، وفهموا حياته ومصاعِبه والتواءات التاريخ الروسي، وصداقة الروس الحقيقية للعرب، والتي يحاول أعداء روسيا تعكير أجواءها منذ فجر العلاقات الروسية العربية، وهي حقيقة ناصعة من الضرري ان يَعرفها كل عربي وشتى الخبراء بالشأن الروسي، وبأن يدرسوها بعمق وموضوعية العُلماء، لكونها المدخل الأهم والمِثالي لفهم طبيعة الصّلات العربية الروسية وانسجام المَشرق الآسيوي بسلافييه الروس وعربِهِ.

*خريج كلية الصحافة في جامعة جدانوف اللينينغرادية الحكومية السوفييتية ورئيس رابطة القلميين مُحبي بوتين وروسيه للاردن والعالم العربي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.