في “الرؤية الاستراتيجية” البوتينية لمحو الارهاب

موقع إنباء الإخباري ـ

الأكاديمي مروان سوداح*

يلينا نيدوغينا*:

لم تكن الرؤية الاستراتيجية البوتينية للحرب على الارهاب وليدة لحظة ولا نزوة أو مصلحة ضيّقة، كذلك لم تكن محكومة في أي وقت من الاوقات لردود أفعال ما، أو رداً مَحدوداً على ترهيب الروسيا قيادةً وشعباً.

بعد النجاح النسبي لعملية “البيريسترويكا” بتقويض أركان الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ونجاحات الشعب السوفييتي، التي أحرزتها أجياله المتلاحقة خلال عشرات السنين في شتى المجالات، ظهر فلاديمير بوتين خلال تيه الامة الروسية وفي حدث تاريخي حرج خيّم عليها، فتلقفته الجماهير وقوميات الروسيا منقذاً لها وقائداً حازماً وفاعلاً، فارتقى نجمه في أوضاع مؤلمة عاشتها الروسيا والعالم وحبس الشرفاء خلالها أنفاسهم مستعجلين ضبط الدولة وتصحيح مسارها.

وبرغم الانفلاتية الرأسمالية وتشكّل الطُّغم المعادية للمجتمع ومستقبل الدولة الروسية العريقة، وبرغم آلامها العَميقة التي سادت أنذاك، إلا أن الروسيا أنتجت رئيساً فذاً وصلباً ومُباشراً وواضحاً في أهدافه ورؤآه التي باشر بتفعيلها لتخليص بلاده الكبيرة وكل مَن يُحالفها من طاعون أسود فتاك، فتمكن سوياً مع رهط من الوطنيين المخلصين وبحكمته وبُعد بصيرته، من الحفاظ على وحدة الدولة الروسية المتآكلة إثنياً وقومياً وجيوسياسياً، وما لبث أن أعاد الاراضي الجنوبية الضائعة الى الروسيا الأُم، وضَمِنَ بقاء المَنفذ البحري في يد الروسيا كما كان عبر الدهور، وردّ الأعداء المُتكالِبين الى نحورهم مقهورين.

وعلى الرغم من الأوضاع والحصار الدولي المتواصل وسياسات الامبريالية المُتلوّنة حِربائياً نهاراً وليلاً، إنتقل بوتين ببلاده الى الفضاء الدولي، وباشر بأعمال ضمان إتحاد الحَلفاء بخاصة مع جمهورية الصين الشعبية، ومساندة وحدة الدولة السورية وتحرير روسيا و “الشرق الاوسط” من الارهاب الدولي الفالت مِن عِقاله، كتعبير كفاحي على الأرض عن وحدة المعسكر الدولي الجديد، الذي بدأ يتشكّل بوضوح بمعاهدات دولية على غرار بريكس وشنغهاي، فسجل بوتين سابقة تاريخية لم يسبقه إليها أحد ومأثرة ستذكرها الاجيال التي ستعيش سيّدة في أوطانها ومستقلة في شؤونها ورسم مستقبلها.

بوتين قَصَمَ ظهر الأرهاب منذ أوائل عهده بوجوده الفاعل على رأس الدولة الروسية الجديدة. فقد فصل القائد فصلاً نهائياً بين الأُولغيارشيا المالية والطُّغم التّجارية والوسطاء وبين الإجهزة العَميقة للدولة الروسية وقراراتها السيادية ومطبخ علاقاتها الدولية، ما أقض مضاجع الغرب الاستعماري برمته من محطيه الى محيطه، إذ كان الأعداء التاريخيين ينتظرون وضعاً “مناسباً” للانقضاض على البلاد الروسية والعباد الروس، وتجريد الدولة السلافية الأُم من أسسـها وقواعدها وإمكاناتها المالية والتقنية والبشرية، إلا أن خطط العدو خابت، إذ اندثرت سطوة الاوليغارشيات المختلفة وحُوصرت وتم تكبيلها، والى جانب ذلك حُوصر الشكل الاستعماري والارهابي للسلطة الذي لم يكتمل نموّه ولم يتمكن من الولادة، فأنقذ بوتين ورفاقه الروسيا برمتها، وشرعت البلاد بالتعافي إبتداءً من قمة الهرم السياسي، وليمتد هذا التعافي الى القاعدة الشعبية والشارع، وحياة الروسيين اليومية وأمزجتهم، الذين يتنفّسون اليوم الصُّعداء مع بوتين وبلادهم الحليفة والعظيمة المُوحَّدة والسيّدة..

وفي الأحداث الروسية المتلاحقة خلال البيريسترويكا، تكشّفت أسرار عديدة مُذهلة استهدفت الروسيا ككل، فقد كانت هذه قد طُبخت في مطابخ أجنبية بالتعاون مع طُغمٍ محلية عميلة، للسيطرة على ثرواتها ونشر الحروب المتلاحقة عليها ضرباً لوحدة الروسيا فتفتيتها، ومن ثمَّ ترويج فكرة الاستيلاء عليها فاستحسانها شعبياً!، وتجريدها من البلدان الحليفة لها بخاصة في العالمين الاسلامي و العربي، وبعدها كتابة تاريخ جديد للبشرية بأقلام أمريكية وغربية واخرى عميلة انتشلها الغرب من مَزابل التاريخ وسجون المجرمين، الذين أُريِد لهم أن يَسودوا دَهرياً على رِقاع كبيرة في العالم للاستيلاء على ثرواته الباطنية، ضماناً لمستقبل أمريكا والغرب وسيادتهما على الكون بدون دولة الروسيا والشعب الروسي الذي أرادوا له أن يَتشرّد ويندثر كالشعب العربي وبضمنه الفلسطيني.. هذا الشعب الفلسطيني الذي بقي مُحرّكاً للنضال العربي التحرري في منطقة واسعة، حين تراجع هذا النضال وشاخ.

لم تكن رؤية بوتين التحررية لتكتمل وتنتصر بدون محركات جديدة، سيّما قبيل اندلاع الازمة في سورية والعالم العربي، أعني هنا الصقيع العربي الشامل، الذي يَعني انقلاباً واسعاً ومُستهدِفاً بآليات تغيير متعددة النُّظم السياسية العربية، بأضعافها من خلال تسييد الإقطاعيات السياسية على عالم العرب، ونقل هذا الوباء الى الروسيا من جديد. وفي هذا الوضع الحرج، إجترح بوتين فكرة تشكيل مجموعة دولية لمكافحة الإرهاب فكرياً، تقودها روسيا وتعمل بموجبها على تعرية مؤامرات المعسكر الاسترقاقي الدولي وتعزيز الكفاحية الروسية العربية والاسلامية.

وهكذا ولدت في عام 2006م في مَعمعان النضال البوتيني الدقيق وإثر إنضمام الروسيا الفيديرالية إلى “منظمة التعاون الإسلامي” كعضو مراقب، مجموعة أطلق عليها إسم “الرؤية الاستراتيجية”، التي شارك بأعمالها بدايةً 33 شخصية حكومية واجتماعية، من 27 دولة إسلامية، بمن فيهم رؤساء وزاراء سابقون ووزراء خارجية، وشخصيات إسلامية معروفة من إيران، إندونيسيا، المغرب، السعودية والكويت وغيرها.

واقتباساً من صفحات تاريخ المجموعة، أن الرئيس فلاديمير بوتين إتخذ في العام 2014م قراراً جريئاً بتجديد نشاط المجموعة، ووضع المهام والمسؤوليات الرئيسة لها، ودعا الى تشكيل إدارة جديدة لأعمالها، فتم تعيين رئيس جمهورية  تاتارستان الروسية ذات الأغلبية المسلمة (ر. مينيخانوف)، أميناً عاماً للمجموعة، وشغل منصب منسّق أعمال المجموعة السفير (ف. بوبوف)، الذي يَشغل منصب مدير “مركز تحالف الحضارات – (مغيمو)” لدى وزارة الخارجية الروسية.

وفي الحقائق التي يجدر بنا التوقف عندها ولزوم التعريف بها، أن “المجموعة” قد استحدثت رغبةً بنقل العَملانية النضالية السياسية والفكرية الى أوساط اوسع الجماهير العالمية، ومَنحها أبعاداً حقيقية على الأرض، الى ضرورات استعادة أمجاد الروابط والعلاقات والصِّلات الحميدة والتعاون ما بين الروسيا والدول العربية والإسلامية والتي كانت من بين محطّاتها المُضيئة القوافل العربية المتلاحقة التي سلكت الارض الى قلب موسكو وخيّمت دُهوراً في شارع “أرباط” الشهير بوسط عاصمة الروسيا، لتصير الكلمة العربية – “أرباط” – صفةً مُلازمة للعلاقات العربية الروسية الطيبة.

وفي هذه الأجواء الحماسية، عَقدت “المجموعة” اجتماعها الأول في 27-28 مارس/آذار 2006م في العاصمة موسكو، وتحقّقت تطلعات بوتين بفتح آفاقٍ جديدة أمام الفعاليات الاجتماعية والسياسية والدينية الروسية في مكافحة الارهاب، ولإرساء علاقات مُثمرة وأكثر شساعةً مع الدول العربية والإسلامية، والعمل وفق الرؤية البوتينية الثاقبة التي ترى بوضوح: لزوم “تعزيز” الموقف الروسي الإسلامي المشترك لنبذ ومواجهة التطرف والمشاحنات القومية والطائفية، وتسريع دوران عجلة “التعاون ما بين الروسيا والعالم الإسلامي الذي بات ينمو ويتطور ليشمل المجالات الاقتصادية والإنسانية والثقافية، ومثل هذه الشراكة القائمة على أساس مبادئ الاحترام والصراحة تعمل لصالح استتباب الاستقرار والأمن في العالم وتعتبر مِثالا للحوار الحضاري”.

إن عالمنا العربي والروسيا في أمس الحاجة اليوم لتفعيل نشاط مكافحة الارهاب بكل أشكاله وتجلياته ضمن رؤية إستراتيجية واعية، لذا تنهمك “المجموعة” راهناً في التركيز على وضع دراسة لإضفاء الحيوية على أعمالها، ولتدعيم أركان “التعاون طويل الأمد” ما بين موسكو والعواصم العربية والإسلامية، وتنسيق المشاريع المشتركة في الكفاح لاجتثاث الإرهاب الدولي على أسس واقعية وذات أبعاد إستراتيجية لشراكة فعّالة لعالمين جَارين إسلامي وروسي، ومن خلال ترجمة المَخطوطات والكتب ذات الصّلة من والى اللغات الروسية والعربية، الفارسية والتركية وغيرها، والتعريف بالفكر العربي والاسلامي وتراثه.
نتمنى لمجموعة الرؤية الاستراتيجية وفكرتها البوتينية الرائدة والعميقة مؤسسية ثابتة وديمومة، وتواصل تقدمها في إعمالها والتوفيق في مساعيها النضالية، ووضع لبنات ثابتة لعالمٍ سلميٍ ومتعافٍ من وباء الارهاب الدولي.

*الأكاديمي مروان سوداح: مؤسس ورئيس الرّابطة الدّولية للقَلميين العَرب حُلفاء روسيّه – الاردن.

*يلينا نيدوغينا، كاتبة ونائب رئيس الرابطة الدّولية للقَلميين العَرب حُلفاء روسيّه ورئيسة تحرير ملحق الاستعراض الروسي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.