الجيش الحر تحوّل من أداة ضغط إلى عبء… أنقرة تسعى لمخرج مشرّف في سورية

مجلة الثبات اللبنانية ـ
هناء عليّان:

يبدو أن إعلان “الجيش السوري الحر” نقل قيادته من تركيا إلى الداخل السوري ليس موجهاً إلى النظام السوري بقدر ما هو موجه ضد أطراف المعارضة السورية المسلحة وغير المسلحة، التي تتنافس في ما بينها على إثبات الوجود في أرض معركة خريطتها الحقيقية أكثر تعقيداً مما تحاول بعض وسائل الإعلام العربية تصويره.

فهذه القيادة التي أخذت امتياز الاسم “الجيش السوري الحر” بدأت تشعر بوجود منافسة حقيقية من تيارات أخرى تسعى لإعلان جيش جديد ينضم إلى “الجيوش” العديدة المنتشرة في الواقع السوري بتمويلات خارجية متنوعة.

ومع دخول الفرنسيين الجدي مؤخراً على خط التمويل والتسليح، برزت مشكلة جديدة بالنسبة إلى هذه القيادة، التي تسيطر وهمياً على كل الحراك المسلح داخل سورية، وتسيطر عملياً على قطاعات محدودة من المرتزقة، وقد أدى الإعلان عن تشكيل ما يسمى “الجيش السوري الوطني”، بقيادة لواء منشق موجود في الأردن، إلى اتهام الفرنسيين، من قبل “الجيش الحر”، بالضغط لـ”خطف الثورة”، فيما تشير الوقائع إلى أن ما يجري هو عملية كباش غير رسمية دخلت فيها فرنسا وقطر والسعودية والولايات المتحدة.

ويبدو أن الاستخبارات الفرنسية، بالتعاون مع الرئيس السابق لمجلس اسطنبول برهان غليون؛ المعروف بصلاته الوثيقة بهذه الاستخبارات، بدأت تعمل حثيثاً لدعم اللواء المنشق محمد الحاج في مواجهة رياض الأسعد، ومن ورائه جماعة “الإخوان” التي تسيطر على “المجلس الوطني”، بما قد يؤشر إلى “نوايا انتقامية” من غليون، الذي لم ينسَ بعد استبعاده عن رئاسة هذا المجلس بمؤامرة “إخوانية”.

وهكذا وجد الأسعد نفسه مضطراً إلى إجراء “تحالف تكتيكي” مع ما تسمى “المجالس العسكرية” التي أنشأها خصمه وجاره في مخيمات هاتاي؛ مصطفى الشيخ، لمنع “الحاج” من سحب البساط من تحت أقدامهما معاً، وبالتالي ذهاب الدعم المادي الكبير إلى “مزاريب أخرى”، واتهم الأسعد القائمين على ما يسمى “الجيش السوري الوطني” صراحة بأنهم “يريدون أن يخطفوا الثورة بعد سنة ونصف السنة من بدايتها”، وأنهم “يريدون القضاء على التوجه الديني للثورة”، وأضاف أن الاجتماع الذي عُقد في اسطنبول الأسبوع الماضي “لم يتم التنسيق بشأنه معنا مسبقاً، بل جرى إبلاغنا به في وقت لاحق، وبعد تدخل وسطاء، وبناء على ذلك حضرنا الاجتماع، ووجدنا السفير الفرنسي في تركيا موجوداً في الاجتماع، وهو أمر يثير أسئلة، كما حضر نحو 40 من كبار الضباط المنشقين، وبعض المدنيين من أعضاء المجلس الوطني السوري بينهم غليون”، معترفاً بأن اللواء محمد الحاج رفض التحدث إليه إلا بعد تدخل بعض الضباط.

وهكذا أعلن الأسعد عن انتقاله إلى الداخل السوري، فيما كانت الفرصة ملائمة له للتخلص من حياة المخيم بالانتقال إلى منزل محروس من الاستخبارات التركية، مع بعض الطلات التي أريد أن يقال من خلالها إنه بات في سورية، والتي يقسم جنود لاجئون في تركيا أن الأسعد لم يطأها منذ رحيله عنها قبل سنة ونصف.

وعلى الرغم من أن هذه الخطوة هي دعائية، فقد قوبلت بسخرية بالغة من قبل المقاتلين في الداخل، ما قد يؤشر إلى أن عباءة “الجيش الحر” لم تعد تشكل الغطاء الملائم للعديد من هؤلاء الذين يسخرون من “قيادتهم”، بشكل يؤكد بما لا لبس فيه أن قياداتهم في أماكن أخرى تماماً.

وفي مجرى هذه التطورات كان اجتماع اللجنة الرباعية في القاهرة قبل نحو عشرة أيام، بغياب السعودية، وفيها اتضح أمران، الأول: طموح مصر للعودة إلى لعب دور قيادي في تطورات المنطقة، وهو ما لا تريده السعودية، التي تستعمل مع القاهرة أسلوب الترغيب والترهيب، والثاني: “الحشرة” الخانقة التي تعيشها تركيا، حيث طلب أحمد داود أغلو، من وزير الخارجية الإيرانية علي أكبر صالحي، مساعدة أنقرة في الخروج من الوحول السورية، بعد أن تبين أن لكل من الولايات المتحدة وفرنسا حساباتها ومصالحها التي تبقى فوق أي اعتبار، وأنه لكل من السعودية وقطر أيضاً حساباتها، فالأولى تشعر بتراجع دورها الإقليمي، ولهذا بدأت بضخ المال والسلاح والمسلحين، والثانية تشعر أنه إذا ما اتفق الأربعة الكبار، فإنها ستتحول إلى أقل من مشيخة، ولهذا ستندفع بمزيد من الحسابات الخاطئة والمغامرات، وبالتالي أمام هذه التطورات واهتراء الأوضاع الداخلية في تركيا؛ أمنياً واقتصادياً، وتقهقر شعبية “حزب العدالة والتنمية”، باتت أنقرة بحاجة إلى مخارج وحلول، وهو ما حاوله أوغلو مع صالحي.

سخونة الأحداث بدأت تهز تركيا

إذاً، بعد أن اشتدت وطأة الأزمة السورية، يبدو أن سخونة الأحداث بدأت تطال تركيا مباشرة، دافعة إياها إلى التململ مما آلت إليه الأمور، وربما إلى الندم لاحتضانها “الجيش الحر”، ومده بالدعم والسلاح.

حوادث بالجملة تسجَّل يومياً بين أفراد “الجيش الحر” وبين المواطنين الأتراك، الذين بدأوا يتذمرون من تدفق اللاجئين والجنود المنشقين إلى بلادهم، ومن ممارسات غير مقبولة يقومون بها، تؤذيهم وتضرّ بمصالحهم، وبأوضاعم المعيشية والأمنية، فعلى سبيل المثال، تردد أن بعض الجنود السوريين المنشقين رفضوا دفع حسابهم في أحد المطاعم التركية على الحدود، وبادروا بالقول إلى صاحب المطعم عند مطالبتهم بتسديد الفاتورة الكبيرة: “أرسلوا الفاتورة إلى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، فهو الذي دعانا”، وهناك حوادث مماثلة لا تُحصى دفعت بالأتراك إلى مطالبة حكومتهم بتعديل مواقفها، وبإيجاد حل لهؤلاء “الضيوف” المتمردين حتى على مضيفيهم.

وجراء الممارسات غير الأخلاقية التي يقوم بها أفراد من “الجيش الحر”، بحيث يتجولون في الأحياء التركية شاهرين سلاحهم، ويستولون على ما يريدونه من المحال عنوة، ويتغاضون عن دفع بدلات إيجار الشقق التي يقطنونها، رغم المساعدات المالية الكثيرة التي يتلقونها، أكد المواطنون الأتراك في المدن الحدودية، لا سيما في كيليس، أن “اللاجئين السوريين يتسببون لنا بمتاعب؛ إنهم أشبه بقنبلة موقوتة”.

كما لا يُخفي المواطنون الأتراك غضبهم من سياسات بلادهم المنحازة في الملف السوري، ويقول أحدهم إن السياسات الغربية التي ينفذها أردوغان ستنعكس سلباً على تركيا، جازماً بأن تركيا ستكون الهدف الثاني بعد سورية، ويضيف: “لماذا نقوم بما نقوم به ضد إخواننا في سورية لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.. هذا الرجل يقود بلادنا نحو الخراب”! وفي اسطنبول يشير شابان تركيان، بعربية يغلب عليها طابع سكان الساحل السوري: “نحن لم نكن نتحدث العربية، لكننا اليوم نتحدثها في بيوتنا وشوارعنا بسبب كثرة اللاجئين”، ويشكو الشابان اللذان يعملان في أحد فنادق المدينة، من وجود “النازحين السوريين” الذين يتجولون بسلاحهم، مرددين روايات عدة عن مقتل شرطي تركي على يد معارض سوري، ويقول أحدهما إن “هؤلاء النازحين لم يجلبوا لنا سوى المصائب والفوضى”، ليضيف الآخر: “إننا مستعدون لحمل السلاح لمواجهة ما يجري، إذا اضطررنا إلى ذلك”.

انقسام سياسي

وقد أدت هذه النزاعات إلى انقسام سياسي في تركيا، إذ انتقد عدد متزايد من نواب المعارضة علناً دعم حكومة أردوغان للجيش السوري الحر، واعتبروا أن هذا الدعم يجب أن يتوقف في حال كان يتعارض مع مصلحة الأتراك، ويؤثر عليهم سلباً؛ كما يجري الآن.

وطرح هؤلاء النواب العديد من علامات الاستفهام حول الأنشطة التي تجري في بعض المخيمات على الحدود، التي تحولت على حد قولهم إلى مخيمات تدريب لمقاتلي “الجيش الحر” تعج بالسلاح، مبدين تخوفهم من انتشار السلاح العشوائي في المنطقة الحدودية، بما يهدد بتفجير نزاعات متفرقة.

وقد أثيرت الشبهات حول ما يجري دخل المخيمات، بعدما رُفض السماح لوفد من حزب المعارضة الرئيسي (حزب الشعب الجمهوري) بزيارة مخيم “أبايدين”، الذي يؤوي عشرين جنرالاً وعشرات الجنود السوريين.

ويتخوف النواب من أن يقوم بعض الجنود المنشقين بإطلاق الصواريخ والقنابل من داخل الأراضي التركية باتجاه سورية، مما يعني، حسب الأعراف الدولية، أن تركيا في حالة حرب مع سورية، في حال لم تتحرك الحكومة التركية لوضع حد لتصرفات اللاجئين العسكريين على أراضيها.

ممارسات وحشية

في نطاق آخر، أعرب عدد متزايد من النشطاء الأتراك والجمعيات المدنية والحقوقية عن استنكارهم الممارسات الوحشية التي يقوم بها عناصر “الجيش الحر” بحق بعض الجنود السوريين؛ من ذبح وتعذيب ورمي من أسطح الأبنية، منتقدين حكومتهم لدعمها هذا الجيش الذي يطالب بالحرية والديمقراطية، بينما يمارس شتى أساليب العنف ضد الآخر.

جراء ذلك تردد أن المخابرات التركية وجّهت توبيخاً شديد اللهجة لعدد من قادة الكتائب المسلحة التابعة لـ”الجيش الحر”، على خلفية نشر مقاطع على الإنترنت تُظهر ممارسات وحشية للمقاتلين في مدينة حلب، خلال تعاملهم مع أشخاص مؤيدين للنظام السوري وقعوا في قبضتهم.

وهدد الضباط الأتراك باحتمال قطع المساعدات اللوجستية والإمداد بالأسلحة التي تورَّد لمقاتلي المعارضة، لا سيما في حلب، في حال استمر المقاتلون بتصوير أنفسهم وهم يمارسون أعمال تعذيب وقتل بشعة بحق موالين للرئيس الأسد، ونشرها على موقع “اليوتيوب”.

وقد تسببت هذه الصور والمشاهد بالحرج للحكومة التركية، ليس فقط في الداخل، بل أيضاً أمام منظمات حقوقية دولية، بسبب دعمها لمسلحين يمارسون أعمالاً منافية وبشكل خطير لحقوق الإنسان.

وكانت قد بُثّت على موقع “اليوتيوب” لقطات مروعة لمقاتلي “الجيش الحر” وهم يذبحون شاباً معصوب العينين، ويلقون بعض الجثث من أحد الأسطح على حشود فرحة تهلل في الأسفل، وفي أحد أفلام الفيديو كانت الجثث تُلقى من سطح مكتب للبريد، وسط وابل من الرصاص، وأمكن سماع صوت ارتطام الجثث بالأرض، وشوهد أفراد غاضبون من الحشد وهم يركلون الجثث ويدفعونها على السلم ويلتقطون صورها بهواتفهم المحمولة.

كما انتشر على الإنترنت واحد من أبشع أفلام الفيديو، ويظهر فيه مسلحو المعارضة وهم يذبحون ببطء رجلاً معصوب العينين، وحين بدأ رجل في ذبحه سمع في الخلفية أصوات تردد “الله أكبر” و”الحمد لله”!

صراع طائفي

إلى ذلك، هناك تخوف تركي من أن الحرب الأهلية التي يسعى البعض إلى تأجيجها بين السوريين، من خلال تصوير النزاع على أنه سُني – علوي، قد تنتقل إلى الداخل التركي، حيث توجد أيضاً أقليات علوية كبيرة جداً، مما يولد توترات غير مرغوبة بين السكان العلويين والسُّنة داخل تركيا نفسها.

وذكرت مصادر غربية أن السلطات التركية بدأت تقرع أبواب آلاف اللاجئين السوريين في مدينة أنطاكيا، وتطالبهم إما بالعيش في المخيمات أو الانتقال إلى داخل تركيا، خوفاً من تفجر الصراع الطائفي في المنطقة، وطُلب من اللاجئين تنفيذ الأوامر فوراً، وإخلاء المنازل المستأجرة.

وأشارت التقارير إلى أن هذه الإجراءات الصارمة تمثّل تحولاً كبيراً من جانب حكومة رجب طيب أردوغان، التي بدأت تشكو من أن الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة تخلوا عن تركيا، وتركوها وحدها على خط المواجهة في صراع ينساب عبر حدودها ويهدد بحرقها.

وكان سياسيون من أنطاكية قد أكدوا في تصريحات متفرقة أن هناك مؤامرة يجري إعدادها من أجل تحقيق شرخ أهلي وتحريض السنة والعلويين في المدينة على الاقتتال، وذكّر هؤلاء بمجزرة مارا؛ المدينة الجنوبية الشرقية، حيث اقتتل العلويون والسُّنة، وقُتل 111 علوياً، وجُرح آلاف السُّنة والعلويين في اشتباكات طائفية عام 1978، وأشاروا إلى أن هناك العشرات من الأميركيين الذين يذهبون إلى مطعم “أناضولو” وسط أنطاكيا كل ليلة، متسائلين عن سبب مجيئهم، بالإضافة إلى رجال فرنسيين وإيطاليين، بحيث يمكن رؤية “الجواسيس الأجانب في كل مكان، وفي وضح النهار”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.