عقيدة التطرف في دولة الإرهاب

موقع قناة الميادين-

شرحبيل الغريب:

“سيف القدس” لم ولن يُغمَد، وسيظل مُصْلَتاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، من أجل تحرير القدس وفلسطين. فهو الأجدى والأقوى للجم السياسة الإسرائيلية، وستكون له الغلبة والنصر.

كشف تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في فلسطين، ارتفاعاً كبيراً في مستوى الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وحجمها، منذ مطلع العام الجاري، تركّزت، في جوهرها، على جرائم القتل والتهجير والسياسات التهويدية في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة. ووثّق التقرير، منذ مطلع هذا العام، قتل إسرائيل (55) فلسطينياً، وتهجير (881) فلسطينياً في الضفة الغربية المحتلة، وهدم (624) مبنىً، منها (527) في محافظات الضفة الغربية، و(97) مبنىً و(42) منشأة اقتصادية في مدينة القدس المحتلة.

علينا أن نتوقف أمام هذا الإحصاء الصادر عن مؤسسة دولية إنسانية تراقب سلوك الاحتلال الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية، وترصد انتهاكاته من دون إلحاق مثل هذا التقرير بموقف يُدين ويَفضح الانتهاكات الممنهَجة بحق الشعب الفلسطيني، والتي ترتقي إلى مستوى جرائم حرب ضد الإنسانية.

روَّج البعض أن السياسة الخارجية لحكومة بينيت ــ لابيد ستكون مغايرة لسابقتها تجاه الفلسطينيين، وهذه صورة غير واقعية. فعلى الرغم من تباين تشكيلة هذه الحكومة، فإن سِمَتَي التطرف والإرهاب هما المسيطرتان على القرار فيها. وهذا كان واضحاً عبر تصريحات أكثر من مسؤول إسرائيلي، وعلى رأسهم رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت، الذي أكد أنه يعارض إقامة دولة فلسطينية، وأنه سيواصل البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، ولن يغيّر الواقع في مدينة القدس المحتلة، والذي جرى في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ناهيك بتصريحات أخرى لوزيرة الداخلية الإسرائيلية، آيليت شاكيد، التي قالت بوضوح إنّ أي حديث عن قيام دولة فلسطينية لن يكون في عهد هذه الحكومة. واعتبرت أن قضية لَمّ الشمل للفلسطينيين تشكّل خطراً أمنياً على “إسرائيل”، وكل هذه المواقف تعكس الوجه الحقيقي لـ”إسرائيل”.

النتيجة، التي يجب على كل الأطراف التي تتوسّم تغييراً في السياسات والمواقف لأي حكومة إسرائيلية التسليمُ بها، هي أن أي حكومة إسرائيلية، سواء كان يرأسها نتنياهو أو بينيت أو لابيد، وحتى كل القيادات الإسرائيلية، ستكون سياستها تجاه الشعب الفلسطيني قائمة على تكريس واقع الاحتلال، واستمرار سياسة القتل والبطش والتهجير وسرقة الأرض وهدم المباني والسيطرة على المقدَّسات الفلسطينية، وحتى حرمان الفلسطيني من أبسط حقوقه.

الحال في عهد هذه الحكومة لن تُغاير سابقتها التي ترأّسها نتنياهو، والقراءة العميقة لمثل هذا التقرير المهم تفيد بأن النهج الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني لم يكن وليد عهد حكومة نتنياهو أو حكومة نفتالي ــ بينيت، بل هو نهج بدأ منذ عام 1948، ولا يزال قائماً حتى هذه الأيام، وأن النكبة التي حلَّت بالشعب الفلسطيني لم تكن ذكرى عابرة نسيها الفلسطينيون، بل هي نهج إسرائيلي ممتدّ ومستمر حتى يومنا هذا.

مثل هذا التقرير يفضح طريقة تفكير الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين أينما وُجدوا في الأرض المحتلة، سواء في مدينة القدس المحتلة أو الضفة الغربية، أو المناطق المحتلة عام 1948، والتي أغرقوها بالمخدِّرات لتمرير مخطَّط نسيان الهوية والتاريخ والتجذُّر بالأرض الفلسطينية، في محاولة إسرائيلية لصناعة “الفلسطيني الجديد”، وتسويق نظرية التعايش مع واقع البيئة الجديدة هناك. ويكشف، في الوقت ذاته، زيف كل الرهانات التي يجري التحضير لها من أجل استئناف مسار سياسي تفاوضي مع السلطة الفلسطينية، قائم على “حل الدولتين”، إلاّ أن الحقيقة، وفقَ التقديرات الأميركية والإسرائيلية المتطابقة، هي أن الحَراك العربي الجاري لن يوصل المشهد مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي إلاّ إلى سلام اقتصادي، تقوم من خلاله السلطة الفلسطينية بدور أمني وظيفي لحماية أمن “إسرائيل”، ومنع المقاومة الفلسطينية من الفعل المقاوِم. وهنا، علينا ألاّ نُغفل ما لخّص به وزير أمن الاحتلال بيني غانتس زيارتَه الأخيرة رام الله، ولقاءَه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بحيث قال: يمكن تلخيص زيارتي رام الله في التالي: “سلطة أقوى في الضفة الغربية تساوي أمناً لإسرائيل أقوى”. وبالتالي، هكذا تريد “إسرائيل” المشهد.

ليس متوقَّعاً، من خلال وضوح الموقف الإسرائيلي، أن تعيد حكومة بينيت حساباتها وتُراجعَ سياساتها تجاه الفلسطينيين، بل إن المانع القوي لوقف التمادي الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني، هو تعزيز الفعل الفلسطيني المقاوم في كل الجبهات داخلياً، واستنزاف الاحتلال، وعدم إعطائه الشعور بالراحة والأمان والهدوء. والتجارب العملية أثبتت صحة هذه النظرية. في المقابل، فإن الصمت بشأن الجرائم الإسرائيلية معناه التمادي إسرائيلياً أكثر فأكثر حتى الوُلوغ في مزيد من السياسات العنصرية التهويدية، وصولاً إلى اقتلاع الفلسطيني من أرضه ووطنه.

تاريخياً، أثبتت التجارب أن الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقّف عن سياساته وإجرامه بحق الفلسطينيين إلاّ بالفعل المقاوِم. فالانتفاضة الأولى عام 1987م حجّمت الاستيطان، وأربكت حسابات مؤسَّسة الاحتلال الإسرائيلي، وجعلتها في حالة استنزاف فرضها الشعب الفلسطيني على كل نقاط التماس مع المحتل، على نحو جعل “إسرائيل” آنذاك تبحث عن مسار سلام سُمّي “اتفاقية أوسلو” من أجل وأد الانتفاضة. وكذلك حال الانتفاضة الثانية، فبعد فعل مقاوم استمر سنوات، أُفرِغتْ المستوطنات الإسرائيلية، وفرّتْ قوات الاحتلال الإسرائيلية من قطاع غزة، تحت ضربات المقاومة، وأصبح محرَّراً منذ تلك اللحظة.

الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وسلوك المقدسيين هناك، ومقاومة فلسطينيي عام 1948، أثبتت نجاعة الفعل الفلسطيني المقاوم. والتراجع الإسرائيلي في معركة “باب العمود”، وقبلها معركة البوابات الإلكترونية، كان واضحاً. وأفشل الشعب الفلسطيني سياسة فرض الأمر الواقع داخل المدينة المقدسة، وفي المسجد الأقصى بصورة خاصة.

وفي معركة “سيف القدس” الأخيرة، والتحرُّك العسكري للمقاومة الفلسطينية من قطاع غزة، استطاعت المقاومة فرض معادلة لأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، عنوانها “فلسطين وحدة واحدة، والكلمة للفعل الفلسطيني المقاوم فقط، مهما تغيَّرت الظروف والأساليب والتكتيكات”. وفي نهاية المطاف، استنجدت “إسرائيل” بدول في المنطقة لوقف ضراوة نيران المقاومة وفعل صواريخها، وكانت النتيجة وقف ترحيل حي الشيخ جراح، وإفشال مخطَّط القدس موحَّدة للإسرائيليين.

التقرير الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية لن يكون الأخير، أمام استمرار الغطرسة الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني. وهذا ما يتوجّب استحضاره على الدوام، والعمل على دعم الفعل الفلسطيني المقاوم وتفعيله، وعدم إعطاء المحتلّ شعوراً بالأمن والأمان. فمثل هذه الحال يفتح شهيته أكثر، ويزيد في مخطَّطاته الإجرامية والعنصرية تجاه مزيد من التوسع والتهويد الاستيطانيَّين ضدَّ الفلسطينيين.

الاحتلال الإسرائيلي ماضٍ في تَوَسُّعه وتَغَوُّله، وهو ما يدلّ على أن عقلية التطرُّف حاضرة بقوة على الرغم من الجهود العربية والدولية، والتي تحاول أن تخلق بيئة سياسية قائمة على رغبة أميركية في تهدئة جبهة قطاع غزة هذه الفترةَ، بعد الهزيمة الأميركية في أفغانستان، ونتيجة رغبة واشنطن في لملمة أوراقها وملفاتها وإعادة تموضعها من جديد، في وقت يُجْمِع كل المراقبين على تَراجُع دور أميركا وهيبتها في المنطقة.

في أيّ حال، المشهد، فلسطينياً، لا يوحي بحالة من الاستقرار أو الهدوء. فالانفجار وشيك ومتوقَّع في أيّ لحظة، أمام إصرار “إسرائيل” على تكريس سياستَي التطرف والإرهاب تجاه الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدَّساته، وسعي عناصر “جماعة أمناء الهيكل” مجدّداً لاقتحام باحات الأقصى، وأداء صلوات تلمودية فيها، وشرح مزاعم إقامة “الهيكل” المزعوم، وتنفيذهم جولات استفزازية مقصودة أمام مرأى المسلمين والعرب ومسمعهم.

انتهت معركة “سيف القدس” بتحقيق إنجاز كبير لحلف القدس، الذي يقف سنداً قوياً لدعم المقاومة الفلسطينية للدفاع عن أُولى القبلتين. لكن “سيف القدس” لم ولن يُغمَد بعدُ، وسيظل مُصْلَتاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي، من أجل تحرير القدس وفلسطين. فهو الأجدى والأقوى للجم السياسة الإسرائيلية، وستكون له الغلبة والنصر، كما أثبتت لنا كل الوقائع التاريخية أن الاحتلال حتماً إلى زوال، والنصر والعزة للمقاومة وحلف القدس.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.