كيف يمكن الجمع في “السيادة الشعبية الدينية” بين اتّباع آراء الناس واتّباع الله عزّوجل؟

صحيفة الوفاق الإيرانية:

ينشر موقع KHAMENEI.IR مقالاً يتضمّن شرحاً لمفهوم السيادة الشعبية الدينية من وجهة نظر الإمام الخامنئي المرتكزة على التعاليم الإسلامية التي تقدّم نموذجاً في الحكم يأخذ بعين الاعتبار رأي الناس مع الالتزام بطاعة الله عزّ وجل.

الحكومة في الإسلام هي إحدى القضايا العميقة الجذور التي تعود إلى سيرة نبي الإسلام (ص) وهو (ص) أول مؤسس للحكومة في تاريخ الإسلام.

بعد حياة الرسول (ص)، أصبح مبدأ الحكومة الإسلامية محل اتفاق وقبول لدى جميع المسلمين ولم يكن محل تردّد لأي من الصحابة. لذلك فإن ضرورة الحكم في الإسلام أمر مسلّم، والمسألة الأساسية في هذا الصدد هي نوع الحكومة وعلاقتها بالناس من منظور الإسلام.

في إيران، طُرحت هذه القضية بجدية وموضوعية عندما بدأت الثورة الإسلامية الإيرانية في استبدال الحكومة الاستبدادية بحكومة الإسلامية، وبينَ قادة هذه الثورة، وفي مقدّمهم الإمام الخميني (قده)، نظرةَ الإسلام إلى الحكومة وعلاقتها بالديمقراطية. وفي هذا الصدد، بينَ الإمام الخامنئي، القائد الحالي للثورة الإسلامية، خلال سنوات النضال وبعدها على فترات مختلفة، وجهةَ النظر الإسلامية للحكومة وموقع الشعب في الحكم الإسلامي على شكل مصطلح “السيادة الشعبية الدينية”. هذه السطور هي في الأساس مدخل ومقدمة مختصرة لشرح مفهوم “السيادة الشعبية الدينية” التي تبّين نوع الحكومة في نظام الجمهورية الإسلامية.

في تركيب “السيادة الشعبية الدينية”، فإن مفهوم “السيادة الشعبية” يستلزم تبعية الشعب، ومفهوم “الدينية” يستلزم طاعة الله، التي تتحقق من خلال تطبيق ولاية الفقيه. لذلك، يبدو للوهلة الأولى أن هذا التركيب فيه تناقض داخلي. في الأساس، في النظرة التوحيدية، الحاكمية هي لله وحده، ولا يحق لغير الإله أن يحكموا إلا بتنصيب من الله (الإمام الخميني، المكاسب المحرمة، ج2 ص160): “قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء”، (سورة آل عمران، 26). لذا من الواضح أنه لا يحق لأحد أن يحكم، ولا حتى الناس. لذا فإن السؤال الأساسي هو كيف يمكن في “السيادة الشعبية الدينية” الجمع بين التبعية للناس ورأيهم وطاعة الله؟ يمكن تفسير هذا السؤال والإجابة عليه من جوانب مختلفة، وهنا سنشير إلى نقطتين، وهما أهمّ عناصر “السيادة الشعبية الدينية”.

النقطة الأولى هي أن الإسلام يقوم على العقلانية. بطبيعة الحال في الإسلام وكل الأديان السماوية، فإن التدين وطاعة الله لا يكون له معنى وقبول إلا عندما يكون عن طريق الاختيار والانتخاب العقلاني. في القرآن الكريم، عدمُ استخدام العقل من قبل الناس قد نُهي بشكل متكرر (في القرآن الكريم، استُخدم العقل 49 مرة. في 25 آية مختلفة من القرآن الكريم، تمت النهي بشدة عن اللاعقلانية وفي 23 حالة تم التأكيد على العقل)، وتم التأكيد على التعقّل. كما تم التأكيد على العقل والتفكير في كثير من الحالات من خلال الروايات المأثورة لقادة الإسلام. فمثلاً يقول النبي (ص): لا دين لمن لا عقل له (تحف العقول، ص 54). وبالتالي، فإن التدين وطاعة الله يقومان على العقلانية والاختيار البشري. وكمثال آخر، اعتبر أمير المؤمنين (ع) أن من أهم أهداف بعثة الأنبياء إيقاظ العقل البشري: ويثيروا لهم دفائن العقول (نهج البلاغة (صبحي صالح)، الخطبة 1). لذلك، يكمن الاهتمام بالإنسان واختياره في عمق مفهوم الدين وطاعة الله، لأن تقدير العقلانية البشرية منوط بتقدير إرادته واختياره. بمعنى آخر، العقل النظري والعقل العملي متشابكين معاً. والنتيجة هي أن الحكومة الإلهية هي حكومة يتم فيها تقدير خيار الشعب بهدف تنمية عقلانية الناس. ويعتبر الإمام الخامنئي، مستنداً إلى كلام أمير المؤمنين (ع) الذي أشرنا إليه، أن أخذ أفكار الناس وعقولهم من مرحلة التنظير إلى مرحلة العمل، من مبادئ دعوة الأنبياء، وعلى هذا الأساس يدأب على نفي حكم الاستبداد وتبيين السيادة الشعبية الدينية:

في الحكومة الإسلامية، وفقاً لهذا المبدأ، لا يوجد معنى لأي سلطة جائرة. حيثما توجد سلطة جائرة، لا يوجد مجتمع ونظام إسلامي. أينما كان هناك أناس يحكمون الناس ولا يسمحون للناس بالتفكير والتقرير، لا يوجد نظام ومجتمع إسلامي. المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي، وفقاً لتعاليم وتوصيات أنبياء الله، يكون للناس فكر وتفكير، والقدرة على اتخاذ القرارات… حتى موقع القيادة حسب نظامنا الإسلامي المستمد من الدين والإسلام يتم باختيار الناس… السيادة الشعبية تعني الاهتمام بمطالب الناس، أي تفهّم كلام وآلام الناس، أي إعطاء الناس مساحة. في نظام أنبياء الله، يجب أن يكون كل البشر قادرين على التعلّم (الإمام الخامنئي، خطبة الجمعة 3\12\1982).

النقطة الثانية هي اهتمام الإسلام بكرامة الإنسان. كرم الله الإنسان في القرآن: “لقد كرّمنا بني آدم” (سورة النساء، 70). وعليه، فإن أي عمل ينتهك كرامة الإنسان، محرّمٌ في الإسلام. ومن البديهي أن تجاهل إرادة الإنسان، من المصاديق الواضحة على انتهاك كرامة الإنسان. وقد جعل الإمام الخامنئي منطق السيادة الشعبية الدينية على أساس كرامة الإنسان:

في منطق الإسلام، إن رأي الناس المبني على أساس كرامة الإنسان، له اعتباره عند الله تعالى. الولاية مقبولة متى ما يكون الشارع قد نفّذها، وتنفيذ الشارع يكون بأن الشخص الذي نوليه الولاية – في أي مستوى من مستويات الولاية – يجب أن يتمتع بالأهلية، أي يكون عادلاً وتقياً ويريده الناس. هذا هو منطق السيادة الشعبية الدينية (الإمام الخامنئي، في لقاء مع طلاب وأساتذة جامعات قزوين 17\12\2003).

وبالطبع من وجهة نظر الإسلام، فإن كرامة الإنسان تعتمد على عدم التعدي على الحدود الإلهية. بمعنى آخر، عدم ارتكاب المعاصي. في الروايات الإسلامية، لا يمكن الجمع بين الحفاظ على كرامة النفس مع ارتكاب المعاصي (غرر الحكم ودرر الكلم، ص 634) واتباع الشهوات (نهج البلاغة (صبحي صالح)، ص 555). لذلك، فإن الخيارات من خارج إطار الشريعة الإسلامية – التي تضمن الحفاظ على كرامة الإنسان – لا تتوافق مع السيادة الشعبية الدينية. فبحسب النقطة الأولى، إذا كانت الخيارات مخالفة للعقلانية وقائمة على الجهل، فإنها لا تتوافق مع السيادة الشعبية الدينية. في الأساس، يؤكد الدين، الذي وُصِف بالسيادة الشعبية، أن تعاليمه تضمن العقلانية والكرامة والرفعة، وبالتالي فإن الخيارات المخالفة للإسلام ليس لها شرعية دينية. لهذا السبب في دستور الجمهورية الإسلامية، فإن مجلس صيانة الدستور هو المسؤول عن الإشراف على مراعاة الضوابط الدينية في القرارات البرلمانية ومؤهلات المرشحين للانتخابات. وكذلك مجلس الخبراء لضمان وجود المؤهلات الإسلامية – أي العدالة والعلم بالشريعة – في القائد والنظارة الدائمة عليه.

وهنا يأتي دور الاختلاف الأساسي بين الديمقراطية الغربية والسيادة الشعبية الدينية. في السيادة الشعبية الدينية فقط، تتحق محورية الإنسان والحرية والكرامة الإنسانية والقيم الإنسانية الأخرى، بالتناسق والتناسب مع الحقيقة الكونية الكبرى، أي الله والإرادة الإلهية، المتبلورة في الشريعة الإسلامية. وتُوفّر التطوّر والاعتلاء الحقيقيين للإنسان في إطار طاعة الله. لكن في الديمقراطية العلمانية، لأنها غالباً ما تستند إلى مقاربات مادية، يعرَّف البشر (كأعضاء أساسيين في أي ديمقراطية) على أنهم أنانيون وانتهازيون، وبالتالي يفعلون كل ما يلزم لتحقيق مقاصدهم ومصالحهم. على سبيل المثال، في المجتمعات الرأسمالية الديمقراطية، فإن مؤشر القيمة الرئيسي والمحدِّد لـ “رأس المال” هو أن احتمال سحق رأي الأغلبية على حساب تقدير الأقلية من الرأسماليين مرتفع للغاية (وهو أمر حدث كثيراً في هذه المجتمعات المذكورة). في حين، تضيق السيادة الشعبية الدينية والحدود والقوانين الإلهية المجال أمام مثل هذه الأساليب الانتهازية والاستغلالية إلى أدنى مستوى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.