أربعون حزب الله: الأفضل لم يأتِ بعد

موقع قناة الميادين-

أحمد حسن:

بانوراما مدهشة تلك التي تابعناها يوماً بيوم، ولأربعين عاماً، كانت المشهد الأكثر صدقاً وحقيقةً وثوريةً في تاريخنا المعاصر. إنها بانوراما تاريخية علمتنا يوماً بعد يوم أن السيوف يجب أن تسبق المحاريث دائماً.

“هذا الطريق سَنُكْمِلُه: لو قتلنا جميعاً، لو استشهدنا جميعاً، لو دمرت بيوتنا على رؤوسنا. لن نتخلى عن خيار المقاومة الإسلامية. المستقبل أيها الإخوة، المستقبل هو مستقبل المقاومة الإسلامية”.

السيد حسن نصر الله في تشييع الشهيد عباس الموسوي

“لم يعد هناك أي شك، عزيزي الجنرال، في أن هذا البلد هو بلدنا الآن، والسؤال الكبير الذي ساد سابقاً عمن سيربح الحرب حُسِمَ الآن وانتهى الأمر”.

من رسالة ديسالين (قائد ثورة هايتي) لأحد جنرالاته في أعقاب انتصار الثورة

إلى الحبيب الناجي، دائماً
تأويل

 

في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 1799 (الموافق الثامن عشر من برومير من العام الثامن في التقويم الجمهوري الفرنسي)، استولى نابليون بونابرت على السلطة في فرنسا، ليصبح بعد تغيير الدستور القنصل الأول بصلاحيات إمبراطورية.

بعدها بأقل من عام، استحوذت فرنسا، من إسبانيا، على أراضي لويزيانا في أميركا الشمالية، والتي كانت تعادل مساحتها (2140000 كم2) تقريباً مساحة كلّ الولايات الـ16 التي شكلت الولايات المتحدة الأميركية المستقلة حديثاً حينها[1].

ربما تكون هذه اللحظة هي الَّتي شكّلت طموحات نابليون الإمبراطورية (أصبح إمبراطوراً في 1804)، ويبدو أنَّها ساعدت في جنوح خياله إلى تأسيس إمبراطورية فرنسية تمتد من جبال الروكي إلى الهند، ومن شمال روسيا إلى الصحراء الكبرى. و”مع وجود أقوى جيش في أوروبا تحت تصرفه”، يتساءل المؤرخ توماس فلمينج: “من كان يمكن أن يتصدى له؟”، ويجيب: “بالتأكيد ليست الولايات المتحدة، فقد كان قوام جيشها النظامي حينها مثيراً للشفقة، ولا يتجاوز 3 آلاف جندي”[2].

ومن أجل التفرغ لبناء الإمبراطورية الفرنسية العابرة للمحيطات، أرسل نابليون حملة من 60 ألف جندي لإنهاء تمرد المستعبدين الدائر منذ 10 سنين في مستعمرة سانت دومينغو (هايتي لاحقاً). لكن، ولأنَّ الحروب الصغيرة يكون لها أحياناً تبعات كبيرة، انتهى ما كان يظنه بونابرت مجرد “التفافة صغيرة لجيشه لإنهاء تمرد العبيد الصغير” في المستعمرة البعيدة في البحر الكاريبي، والتي قَدّر مداها بأسابيع ستة على أكثر تقدير، إلى كارثة استراتيجية ومفصل تاريخي لن تنهي أحلامه وأحلام فرنسا الإمبراطورية فحسب، بل سيغير العالم أيضاً (حرفياً). فبعد أقل من عامين، وبعد مقتل ما يقارب 60 ألف جندي فرنسي، سقطت مخططاته لإمبراطورية فرنسية عابرة للمحيطات بانتصار ثورة هايتي [3].

في ذلك الوقت، كان مبعوثا الرئيس الأميركي توماس جيفرسون (جيمس مونرو وروبرت ليفينغستون) يطمحان إلى النجاح في مهمة بدت لهما يائسة جداً حينها، رغم أنها تتمثل فقط بالحصول على موافقة باريس بالسماح للأميركيين بعبور نهر المسيسيبي واستخدام ميناء مدينة نيو أورلينز الخاضعين للسيطرة الفرنسية في مقابل 10 ملايين دولار، لكنهما تفاجآ تماماً بالعرض الفرنسي المدهش لهما لشراء كل أراضي لويزيانا بدلاً من ذلك، ولقاء مبلغ صغير (15 مليون دولار)، فوافقا عليه فوراً من دون الرجوع حتى إلى جيفرسون؛ فهزيمة فرنسا المُرّة في هايتي، والقلق من احتمال حدوث مواجهة بريطانية-فرنسية في أميركا الشمالية حينها، مهّدا للصفقة التي ضاعفت حجم الولايات المتحدة بضربة واحدة.

لولا ذلك، لكان مصير الولايات المتحدة إما أن تظل مجرد شريط ساحلي ضيق في شرق أميركا الشمالية، قليل السكان والمصادر، وبلا أي أفق إمبراطوري، وإما أن تنتهي من الوجود تماماً باستعادتها من قبل بريطانيا التي لم تكن قد أسقطت استعادة تلك المستعمرة من اعتباراتها، وخصوصاً أن جيشها كان لا يزال يستعمر كندا في الشمال.

لكن نابليون، بصفقته المدفوعة بهزيمته المرة في هايتي، إضافةً إلى رغبته في تجنب المواجهة مع بريطانيا، وخصوصاً في حال الضعف والعجز التي كانت تمر بها فرنسا بعد هايتي، ساهم في تغيير مصير الولايات المتحدة والعالم. كان ذلك، كما سنرى، إحدى التبعات الكثيرة والمتعددة لثورة المستعبدين وانتصارهم في جزيرة هايتي الصغيرة والبعيدة.

بعدها بقرنين، في تموز/يوليو 2006، دعمت الولايات المتحدة، التي أصبحت القوة المهيمنة الوحيدة على العالم والإمبراطورية الأقوى في التاريخ، العدوان الصهيوني (45 ألف جندي) على لبنان بقوة للقضاء على بؤرة التمرد الوحيدة في المنطقة العربية.

كانت الولايات المتحدة تبتغي إعادة ترتيب المنطقة كلها وفق مصالحها، ووفق الظروف الكونية الجديدة، والتفرغ لمواجهة خصومها الجدد الصاعدين على المستويات الكونية والإقليمية (الصين، روسيا، إيران، كوريا، كوبا، فنزويلا، بوليفيا…)، لكن فشل سلاح الجو الصهيوني، أحد أكثر أسلحة الجو تطوراً في العالم، في حسم المعركة، “أثار الذعر” في البنتاغون، وشكّك في “عقيدتهم العسكرية الجديدة”، كما نقل خبراء عن مسؤول عسكري أميركي رفيع، ما دفعهم إلى “نفض الغبار عن خططهم الجوية التي تم تجهيزها استباقاً لأوامر قد تصدر عن البيت الأبيض بضرب المواقع النووية الإيرانية”.

لهذا، استنتج هؤلاء الخبراء، في دراسة مهمة عن حرب تموز، أنَّ حزب الله لم يسجل “نصراً عسكرياً كاملاً وقاطعاً في حربه مع إسرائيل”[4] فحسب، بل شكل انتصاره أيضاً “هزيمة سياسية كارثية لأميركا التي ساندت إسرائيل في الحرب وضربة لمكانتها في المنطقة”[5].

لكن، كانت هذه التقديرات والكثير غيرها[6] تُراجع وتَعمل على تقييم حرب الـ33 يوماً من مسافة زمنية قريبة، وبالتالي لم تكن حتى بعض مفاعيل الحرب المتوسطة والبعيدة المدى قد اتضحت بعد أو بدأ أفقها حتى بالظهور. ولأن المفاعيل البعيدة المدى لهذه الحرب لم (ولا يمكن أن) تنتهِ مع وقف إطلاق النار، بل تبدأ عادة معه، وأيضاً لأن معنى الحرب، ومعنى انتصار المقاومة، يتغيران باستمرار مع مرور الزمن، فيما تختبر كل الأطراف تبعات ومعاني تصاعد مفاعيل انتصار المقاومة من زمن إلى آخر، وكل من خندقه، فإن هذه الحرب الصغيرة بالمعنى الميداني، مثل هايتي، قد تشكل مفصلاً أساسياً في تاريخ المنطقة، كما سنرى.
التاريخ في المقاومة

في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1803، أعطى جان-جاك ديسالين، قائد ثورة هايتي المدهش، الأمر لأشجع جنرالاته وقائد أحد أهم ألويته فرانسوا كابوا بالهجوم على الحصن الفرنسي الأخير في فيرتيير. كانت المهمة، كما الثورة ذاتها، تبدو مستحيلة جداً لكلّ من عرف معنى انتصار الثوار في هايتي وتبعاتها على الجغرافيا السياسية للاقتصاد العالمي القائم على العبودية حينها (وليس على هايتي فقط كما سنرى)، أو لمن عرف دور مستعمرة هايتي في إنتاج السكر؛ السلعة المهمة حينها في التجارة الدولية، قبل القطن والبترول لاحقاً، أو لمن عرف قليلاً فقط عن موازين القوى المادية والأيديولوجية (وليس العسكرية فقط) المختلة بشكل هائل لمصلحة الفرنسيين والأوروبيين، أو حتى لمن عرف القرار الأوروبي والأميركي الحاسم بضرورة تدمير التجربة الثورية (غير الأوروبية) السوداء الأولى، وحتى العمل على منع مجرد تسرب خبر ثورة المستعبَدين إلى المستعمرات الأخرى، بسبب إدراكهم خطورة تحولها إلى مثل ونموذج وحجة، فحتى رغم انتصار الثورة وإعلان الاستقلال عام 1804، لم تعترف الولايات المتحدة باستقلال هايتي إلا سنة 1862، أي بعد 59 عاماً على الاستقلال، وبعد اندلاع الحرب الأهلية الأميركية التي كانت في جانب منها استجابة للتحولات الاقتصادية والسياسية العالمية الكبرى التي أسست لها ثورة هايتي بتحرير المستعبدين وحكمهم للجزيرة[7].

لكنَّ كابوا (المُكنى من رفاقه بـ”أخيل الأسود” لشجاعته الفائقة ونجاته من الموت بأعجوبة مراراً) ورفاقه الذين تحلوا بشجاعة مذهلة، “لن تصدقها إلا إذا رأيتها فعلاً وبعينيك فقط”، كما قال سي ل آر جايمس في وصف شجاعتهم في “اليعاقبة السود”، استطاعوا الانتصار في النهاية بعد 4 جولات عنيفة ودامية جداً وخسائر بشرية هائلة في صفوفهم، بفعل الهجوم المتكرر والعنيد على الحصن الفرنسي الأخير، رغم تسليحهم المتواضع.

في النهاية، سقط الحصن الَّذي اختبأ خلفه الجيش الذي كان يُعتبر حينها الأقوى والأفضل في العالم، والذي كان مسلحاً حتى الأسنان بالمدافع ذات القذائف العنقودية والرشاشات الثقيلة والسريعة؛ فنابليون وجنوده الذين انتصروا عام 1805 في معركة أوسترليتز التي تعتبر تحفة تكتيكية في العلم العسكري جعلت الجميع يعترف بنابليون كأحد أعظم الجنرالات في التاريخ، وبجيشه كأفضل جيش في العالم حينها، خضعوا في هايتي، وجلسوا إلى الطاولة في حصن فيرتيير في مقابل الجنرال كابوا، ووقعوا اتفاقية الاستسلام بشروط ديسالين المذلّة لهم، متعهّدين الرحيل عن الجزيرة إلى الأبد، ومتنازلين عن أغنى المستعمرات الأوروبية حينها على الإطلاق.

بعد تلك المعركة، تغير العالم جذرياً. ومن تلك الجزيرة الصغيرة بدأت إعادة تنظيم الجغرافيا السياسية للاقتصاد العالمي. فثورة هايتي “نشرت الرعب في المستعمرات القائمة على تجارة الرقيق، واعتبرها المستعبدون رمزاً ومثالاً”، كما جاء في تقرير لليونسكو.

وبعد 3 سنوات فقط من الاستقلال، في عام 1807، تم إلغاء التجارة الأوروبية بالمستعبدين الأفارقة. وبعد 30 عاماً، في عام 1834، انتهى استعباد الأفارقة في كل المستعمرات البريطانية. وبعد 60 عاماً أيضاً، وقعت الحرب الأهلية الأميركية التي كان إلغاء العبودية إحدى نتائجها كإحدى التبعات البعيدة المدى للثورة العظيمة. أبعد من ذلك، استمر تأثير هذه الثورة لعقود طويلة لاحقاً، لتصبح أحد العوامل المهمة والملهمة في نشوء حركات التحرر الوطني في كل أصقاع الأرض، وخصوصاً في أميركا اللاتينية[8].

كانت الثورة في هايتي تبدو مستحيلة فعلاً بكل المقاييس، ووفق أي قراءة حينها لحال العالم وحال الجزيرة. ولو كنت مؤرخاً يعيش في أي مكان في العالم حينها (وخصوصاً في هايتي)، أو لو كنت حتى مجرد شاهد حي على الثورة، لبدت لك ضرباً من الجنون بفعل حال العالم وبنية اقتصاده وحال هايتي ونظامها الاجتماعي؛ فأن يتحدّى مستعبد “أسود” فقير مختطف من بلاده في جزيرة بعيدة جداً، وبسلاح أبيض في أحسن الأحوال، أقوى جيوش العالم وأغنى دول الأرض (فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، أميركا) مجتمعة، ويطالب بما ليس أقل من تغيير بنية اقتصاد العالم القائم على العبودية وإنهاء الاستعمار، بدا فعلاً ضرباً من الجنون.

لكن هذه الثورة ستكون حدثاً مفصلياً ومهماً في التاريخ الإنساني الحديث، إن كنت تنظر إليها اليوم بأثر رجعي، وخصوصاً إن كنت مهتماً بجدلية المحلي والعالمي (وأن العالم في النهاية هو وحدة تحليلية واحدة تؤثر أجزاؤه وتتأثر ببعضها البعض وبما يحدث فيها)، وإدراك ترابط حال العالم وحال الوطن الذي تنتمي إليه، ففي أي قراءة معمقة للتاريخ، أو أي قراءة بعين مؤرخ من موقعنا اليوم، ستستنتج أيضاً أن فهمنا لثورة هايتي، كحدث مفصلي في التاريخ الحديث، لا يساعدنا على فهم تاريخ العالم الحديث بأسره فحسب، بل أيضاً فهم جوهر مشروع المقاومة العربية المتصاعدة للاستعمار الصهيوني لفلسطين، كامتداد نسيجي للمشروع الاستعماري الغربي بقيادة الولايات المتحدة واستشراف مستقبلها.

ففي 1791، كان العالم على أعتاب انقلاب تاريخي وتأسيس عالم جديد باقتصاد-سياسي عالمي جديد وإعادة تشكيل لجغرافيا العالم السياسية، أو على أعتاب تحول عظيم، وفق مفهوم كارل بولاني، وكانت ثورة هايتي (وليس الثورة الفرنسية أو الإنكليزية) ودم الثوار “السود” وتضحياتهم الفاعل التاريخي لهذه النقلة الكبرى.

بعد 189 عاماً بالضبط من إعلان ديسالين ورفاقه النسخة الأولى من وثيقة استقلال هايتي في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1803: “باسم كل السود والملونين في سانت دومينغو، نعلن استعادة كرامتنا الإنسانية الفطرية وتأكيد حقوقنا، ونقسم أننا لن نتنازل عنها لأية قوة على وجه الأرض”، في 16 شباط/فبراير 1992، أعطى السيد حسن نصر الله الأمر بإطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستعمرات الصهيونية في شمال فلسطين للمرة الأولى[9].

كان العالم مرة أخرى، كما يبدو لنا اليوم، بعد 209 أعوام على انتصار ثورة هايتي، و40 عاماً على انطلاقة حزب الله، و30 عاماً على تسلم السيد نصر الله الأمانة العامة، على أعتاب تحول عظيم آخر، كما سنرى، وسيكون الحزب المقاوم أحد الفاعلين التاريخيين لهذه النقلة الكبرى، على الأقل على المستوى الإقليمي.

ربما ظن من شهد الحدث أو تابعه حينها أنَّ مجاهدي حزب الله الذين أطلقوا تلك الصواريخ تنفيذاً لأوامر السيد، كانوا يردون فقط على عدوان الكيان الصهيوني على لبنان، أو أنهم كانوا يساهمون في الثأر لدماء أمين عام الحزب الشهيد عباس الموسوي، أو أن إدخال الكاتيوشا حينها كان مجرد إضافة نوعية أخرى لأدوات معركة تحرير الأراضي اللبنانية من قبل مقاومة جدية ومن طراز جديد، لكن بعد 30 عاماً من ذلك اليوم، و40 عاماً على انطلاقة الحزب، لا يمكن لأي قراءة موضوعية أن ترى أنَّ صلية الكاتيوشا الأولى تلك، كما انطلاقة حزب الله قبلها بعشر سنين، كانتا مجرد مرحلة جديدة أو أخرى من تطور المقاومة الإسلامية في لبنان.

بعد 40 عاماً، وبالنظر إلى حال لبنان والمنطقة والعالم، يمكن القول وبثقة إن كاتيوشا شباط/فبراير 1992، كما انطلاقة الحزب قبل ذلك، لم تشكّل رفضاً أو مجرد انقلاب على الترتيب الإقليمي القائم حينها فحسب، وعلى خضوع المنطقة للهيمنة الأميركية-الصهيونية بشكل مطلق، بل كان الحزب أيضاً جزءاً أساسياً ومهماً وفاعلًا، إن لم يكن رأس حربة مسار إقليمي (وحتى عالمي، لاحقاً، لأن المنظومة الدولية وحدة تحليلية واحدة) في معركة التنظيم الإستراتيجي المضاد للإقليم ككل، التي نرى بشائر خواتيمها في مخاض شيخوخة الكيان وأفول هيمنة الإمبراطورية الراعية له وتراجع مكانتهما في الإقليم والعالم.

حتى نعرف شيئاً عن التحدي الهائل الذي واجهته مقاومة حزب الله، والمصالح الكونية الهائلة التي اصطدم بها الحزب بمجرد صعوده، وتحديداً منذ قيادة السيد نصر الله للمقاومة، يكفي أن نعرف أن قرار السيد بإطلاق الكاتيوشا، وبالتالي الانتقال بالمقاومة إلى مرحلة جديدة رأينا تبعاتها قريبة المدى في تفاهمات تموز/يوليو 1993 ونيسان/أبريل 1996، جاء بالضبط في الوقت الذي أجمل فرانسيس فوكوياما انتصار أميركا والمنظومة الغربية النهائي، وإعلان هيمنتها المطلقة غير القابلة للتشكيك على كل العالم وفي كل المجالات، حرفياً، بإعلان نهاية التاريخ؛ فحين جادل فوكوياما في “نهاية التاريخ” أن “الديمقراطية الليبرالية تشكل نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية” و”الشكل النهائي للحكومة البشرية”، وعلى هذا النحو تشكل “نهاية التاريخ”[10]، كان يُجمل حال العالم والمنطقة ولبنان، والتي كان حزب الله يتمرد عليها، وطبيعة المهمة التي تصدى السيد لقيادتها.

في هايتي 1791-1803، كما في لبنان 1982-2022 (وصولاً إلى معادلة ما بعد-بعد كاريش)، كان الثوار والمقاومون يواجهون شروطاً موضوعية تبدو لمن عاشها واختبرها مباشرة شبه مستحيلة، ليس فقط بسبب معنى وتبعات حراكهم الذي يتجاوز هايتي ولبنان، ليؤثر مباشرة في التنظيم الاستراتيجي الأبعد من هايتي ولبنان إقليمياً ودولياً، ولكن لأن وجودهم بحد ذاته أيضاً، عدا عن معنى انتصارهم وتبعاته، وضعهم مباشرة في مواجهة مصالح محلية وإقليمية وكونية هائلة جداً ومترابطة، تستند إلى الترتيبات الإقليمية والدولية الصلبة القائمة، وتجعل من مجرد التفكير في تحديها في تلك اللحظة ضرباً من الجنون.

ففي حين أن انطلاقة كل حركات المقاومة والتحرر الوطني السابقة على حزب الله في القرن العشرين، مثلاً، حدثت في ظروف مد ثوري عالمي وإقليمي ومحلي (فيتنام، الجزائر، كوبا، وحتى الثورة الفلسطينية المغدورة)، وحتى في ظل انقسام عالمي وإقليمي ومحلي واضح وفر لها حاضنة محلية وإقليمية ودولية، جاءت انطلاقة حزب الله وتصاعدت مقاومته في ظل تراجع ثوري عالمي، وحتى في حالة ردة ثورية محلياً وإقليمياً ودولياً بفعل الهيمنة الأميركية شبه المطلقة على المنظومة الدولية بعد تشكل نظام القطب الواحد.

لكن، رغم كل ذلك، وربما بعكس أي تقدير ممكن حينها، كان انتصار ثورة هايتي 1803، ومقاومة حزب الله (2000، 2006) هما الانتصارين الوحيدين الكاملين والنظيفين والواضحين، بعكس تجارب مرحلة المد الثوري التي انتهت في أغلبها إلى حالات كلاسيكية من دول “ما بعد الاستعمار” في أحسن الأحوال، إذ خرج الاستعمار العسكري، فيما استمرت مفاعيل البنى الاستعمارية الأخرى (الاقتصادية، السياسية، الثقافية…) إلى يومنا هذا.

لكن، في كلا الحالتين، ورغم ظاهرية حالة العالم والإقليم والحالة المحلية، كانت المنطقة والعالم (في 1791 و1982) على أعتاب انقلاب تاريخي وتأسيس عالم جديد وإعادة تشكيل لجغرافيا العالم السياسية، ما يفترض تضحيات هائلة من القوى المتضررة من حالة الأمر الواقع.

ما يلي هو بعض من التحدي الذي واجهته مقاومة وثورة بدتا مستحيلتين لمن عاش مخاضاتهما الأولى، لكنهما ساهمتا في التأسيس لإقليم جديد وحتى عالم جديد. هكذا فقط يمكن تقدير بعض قيمة هذه التجارب العظيمة.
الثورة “المستحيلة”

عام 1789، أي قبل اندلاع الثورة بعامين فقط، “كانت مساهمة مستعمرة سان دومينغو الفرنسية (هايتي) تشكل وحدها ثلثي (66%) كل التجارة الخارجية لفرنسا، وكانت في الوقت ذاته أكبر سوق فردي لتجارة العبيد الأوروبية المربحة جداً، فضلاً عن أنها كانت أيضاً جزءاً لا يتجزأ من الحياة الاقتصادية لكل العصر، كما كانت أعظم مستعمرة في العالم، وفخر فرنسا، وحتى حسد كل دولة إمبريالية أخرى”.[11]

كانت هايتي حينها المستعمرة الأوروبية الأكثر ربحاً، لأنها كانت المنتج الأكبر للسكر في العالم؛ السلعة الأهم في التجارة الدولية. لكن رغم كلّ ذلك (نعم، رغم كل ذلك)، لم تكن خسارة هذه المستعمرة حتى مصدر القلق الفرنسي والأوروبي والأميركي الأساسي من الثورة؛ فعشية المعركة النهائية في حصن فيرتيير في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1803، كتب نابليون بونابرت إلى جنوده: “إن قراري بتدمير سلطة هايتي لا يستند إلى اعتبارات التجارة أو المال بقدر ما يقوم على الحاجة إلى منع مسيرة السود وتقدمهم في العالم إلى الأبد”.[12]

رسالة نابليون لجنوده تكشف لنا عن جانب مهم لفهم السياسة الإمبريالية والاستعمارية الغربية المستمرة حتى اليوم، والقائمة على أولوية السياسة من أجل الهيمنة دائماً، وليس الأرباح أو التبعات الاقتصادية المباشرة التي تعتمد في المدى البعيد على الهيمنة الإمبريالية.

أدرك نابليون متأخراً أو كان يخشى على الأقل، كما يبدو، تماماً مثل باقي الأوروبيين والأميركيين أيضاً، أنّ هايتي لن تكون مجرد ثورة معزولة بلا تبعات أبعد من تلك الجزيرة البعيدة، بل إنها كانت مؤهلة، وخصوصاً بتحريرها المستعبدين ووصولهم إلى السلطة وإقامة أول جمهورية سوداء وثاني جمهورية في القسم الغربي من العالم، لأن تكون البداية، وأن تكون الشرارة التي قد تغير العالم وتعيد ترتيب الجغرافيا السياسية للاقتصاد العالمي القائم على العبودية والاستعمار جذرياً.

ربما يفسر ذلك أن الثوار لم يكن عليهم مواجهة المستوطنين البيض المحليين ومالكي الأراضي وجنود المَلَكية الفرنسية (قبل الثورة)، بل وغزو إسباني عنيف أيضاً، حملة عسكرية بريطانية قوامها نحو 60 ألف جندي، ولاحقاً حملة عسكرية فرنسية أخرى (فرنسا الثورة هذه المرة) من الحجم نفسه (60 ألف جندي) بقيادة صهر بونابرت، الجنرال فيكتور لوكلير[13].

وربما يفسر ذلك أيضاً إصرار نابليون، ابن التنوير الأوروبي بامتياز، على ضرورة إعادة فرض العبودية في مستعمرات أخرى، كالمارتينيك وتوباغو وسانت لوسيا في 1802، برغم تعهدات فرنسا (الثورة) السابقة بإلغائها. لهذا، لم يثق ثوار هايتي بالوعود الفرنسية بإلغاء العبودية وعدم العودة إليها مستقبلاً، كما حصل فعلاً في الجزر الأخرى.

هذا بالضبط ما أعطى معركة فيرتيير النهائية وهزيمة فرنسا فيها أهمية تاريخية مفصلية. كان الثوار “السود”، محقين، على قناعة بأن هزيمة فرنسا العسكرية وطردها من الجزيرة هي الضمانة الوحيدة للقضاء على مؤسسة العبودية البشعة وحصولهم على حرية حقيقية.

لهذا السبب، لم يأتِ التحدي للثورة من فرنسا فقط، فحتى بريطانيا والدول الأوروبية الأخرى التي كانت في حال عداء وحرب مع فرنسا منذ الثورة، اصطفت معها، رغم ذلك، ضد الثورة في هايتي. ورغم استئناف الحرب بين فرنسا “الثورة” من جهة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى (كالنمسا) من جهة أخرى[14]، ورغم كون استئناف الحرب في البداية خبراً ساراً لثوار هايتي، على أمل أن تُضعف الفرنسيين، وخصوصاً مع الحصار الذي فرضته السفن البريطانية على الجزيرة، إلا أن الثوار السود في سان دومينغو تعلموا بسبب هذه التجربة كل ما يمكن ويجب معرفته عن المذهب الإمبراطوري.

كانت السياسة البريطانية انتهازية جداً حينها، فقد دفع القلق البريطاني والأوروبي من تحرر المستعبدين في هايتي وتسلمهم السلطة رغم الصراع الكبير مع فرنسا “الثورة” إلى اتباع سياسة مختلفة في هايتي عن كل نقاط الاشتباك البريطاني (والأوروبي) مع فرنسا الثورة، فهم (البريطانيون) لم يمتنعوا فقط عن أي أعمال عدائية ضد الفرنسيين في المدن الساحلية في الجزيرة، بل وحتى سمحوا للسفن الأميركية بتزويد القائد العسكري الفرنسي روشامبو وجيشه بما يحتاجونه من عتاد وبضائع. كان الإنكليز، كما يبدو، ينتظرون ويراقبون إذا كان بإمكان روشامبو أن يفوز بانتصار مؤقت، على الأقل في جزء من سان دومينغو، حتى يتدخلوا لاحقاً ويستولوا على الجزيرة من الفرنسيين[15].

كان على ثوار الجزيرة الصغيرة (هايتي) المتواضعي التسليح والتدريب، وحتى القليلي العدد، إذاً، مواجهة الفرنسيين والأوروبيين الآخرين ذوي المصالح الهائلة في الاستعمار والعبودية (بريطانيا وإسبانيا تحديداً) وأميركا والانتصار عليهم رغم ذلك.

تلك المهمة بدت مستحيلة جداً حينها، لكن العالم كان على أعتاب انقلاب يحتاج، مثل كل نقلات التاريخ الكبرى، إلى مجموعة من الأبطال ليدفعوا حياتهم ثمناً للقضاء على العبودية، حتى يكون هناك عالم أفضل لمن يبقى حياً بعدهم.
المقاومة المستحيلة

في 21 تموز/يوليو 2006، وعن منصة وزارة الخارجية الأميركية، وقفت كونداليزا رايس لتجيب عن أسئلة الصحافيين، وتعلن عن رحلتها إلى الشرق الأوسط بعدها بيومين، رغم مشارفة العدوان الصهيوني على لبنان على دخول أسبوعه الثالث، وجاءها السؤال التالي: “سيدتي الوزيرة، لقد سَمعتِ الأصوات التي تطالبك خلال الأيام الماضية بضرورة الذهاب إلى المنطقة. لماذا اخترتِ الآن فقط الإعلان عن الرحلة والذهاب؟”.

لم يكن الجواب، طبعاً، صادماً لمن عرف طبيعة الصراع في المنطقة، ولكن حتى مسؤولة الدبلوماسية الأميركية الأولى حينها عجزت عن التعمية في إجابتها على مدى الوقاحة الإمبريالية وحقيقة الصراع: “ليس لدي أي مصلحة في الدبلوماسية من أجل إعادة لبنان وإسرائيل إلى وضعهما الراهن. أعتقد أن هذا سيكون خطأ. ما نراه هنا، وبشكل ما يتصاعد، هو آلام/مخاض ولادة شرق أوسط جديد. ومهما فعلنا، علينا أن نكون على يقين بأننا نتقدم وندفع باتجاه شرق أوسط جديد، وليس العودة إلى القديم”[16].

ورغم أن هذه العبارة أصبحت معروفة لدى الجميع، واعتبرت كاشفة للإستراتيجية الأميركية لإعادة تنظيم الإقليم إستراتيجياً (شرق أوسط جديد)، فإنها لم تكن العبارة الأهم التي تكشف طبيعة الصراع وجوهره الذي يتجاوز لبنان كثيراً، وحتى المنطقة العربية برمتها.

وإضافة إلى ذلك، قالت رايس: “رداً على استفزاز حزب الله الفاضح في منطقة متوترة بالفعل، انضمت الولايات المتحدة إلى دول مجموعة الثماني في إعلان مهم في سان بطرسبرغ”، مشيرة أيضاً إلى انتقاد الدول العربية، “بقيادة السعودية ومصر والأردن، هذا الاستفزاز أيضاً”.

وقبلها بأيام، في 17 تموز/يوليو 2006، صدر البيان الختامي للقاء الدورة الثانية والثلاثين لـ”مجموعة الثماني” التي تمثل لقاء القوى الاقتصادية الأكبر في العالم (أميركا، بريطانيا، كندا، ألمانيا، فرنسا، روسيا، اليابان، إيطاليا)، إضافة إلى ما سمي حينها مجموعة الثماني زائد (البرازيل، الصين، الهند، المكسيك، جنوب أفريقيا)، وتضمن مطالبة بـ”عودة الجنود الإسرائيليين في غزة ولبنان سالمين، ووقف قصف الأراضي الإسرائيلية، ووقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، والانسحاب المبكر للقوات الإسرائيلية من غزة”.[17]

لنتجاهل للحظة أنَّ بيان مجموعة الثماني تضمن حرفياً المطلب الصهيوني الأساسي بعودة جنودهم، ولنتجاهل أيضاً أنه لم يدعُ حتى إلى وقف إطلاق النار، لكن ما حدث من تسريب لحوار الميكروفون المفتوح بين الرئيس الأميركي جورج بوش الصغير ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير فسّر، ولحد كبير، تأخير زيارة رايس للمنطقة، وكشف أنها كانت محاولة مقصودة لإعطاء الإسرائيليين مزيداً من الوقت لغياب أيّ إنجاز صهيوني حتى ذلك الوقت؛ ففي الحوار الذي فضيحة الميكروفون المفتوح، يتضح أن بوش رفض طلب بلير لزيارة المنطقة، وأصر على تسلم رايس ووزارة الخارجية الأميركية للملف وفق الزمن الأميركي.[18]

لم يكن حزب الله، إذاً، يواجه الكيان الصهيوني وحده في 2006، لكنه لم يكن يواجه حتى مجموعة الثماني وبعض الدول العربية فقط أيضاً؛ فبعد تصريحها السابق بسبعة أيام، في 27 تموز/يوليو، وصلت رايس إلى روما للقاء ما سمي “مجموعة لبنان الأساسية” التي تشمل في عضويتها مصر، السعودية، الأردن، البنك الدولي، الاتحاد الأوروبي، فرنسا، روسيا، بريطانيا، الولايات المتحدة، الأمم المتحدة، إيطاليا، إسبانيا، ألمانيا، وتركيا، لنقاش الأزمة، وكانت القضية الأساسية تعزيز وجود القوات الدولية (كان توني بلير هو من اقترح الفكرة في لقاء مجموعة الثماني، لكن بوش كان يريد إعطاء الكيان المزيد من الوقت، وكان يريد للولايات المتحدة، لا بريطانيا، الإمساك بالملف).

ورغم أن هذا الاصطفاف العالمي ضد المقاومة يؤشر إلى طبيعة التحديات الهائلة التي واجهت مشروع حزب الله حينها، إضافة إلى الميدان المباشر للمعركة والمصالح الكونية والإقليمية والعربية والمحلية الهائلة التي اصطدم بها الحزب بمجرد اصطدامه بالكيان الصهيوني، فإنها لم تكن المرة الأولى، أو حتى الأصعب، التي يكتشف فيها الحزب أن “إسرائيل” الحقيقية والعدو الحقيقي هي في الحقيقة ليست مجرد ذلك الكيان الاستيطاني الذي يستعمر أرض فلسطين ويحتجز تطور الأمة العربية وتنميتها ويمنع وحدتها واستقلالها الحقيقي فقط، بل إنها (“إسرائيل” الحقيقية) كل هذه الدول مجتمعة أيضاً. “إسرائيل” الحقيقية، عدو العرب الحقيقي، هي هذه المنظومة الدولية والعربية والمحلية التي يشكل الكيان امتداداً نسيجياً لها (وقلعتها المتقدمة، كما يقال).

قبل ذلك بعشر سنين، في 13 آذار/مارس 1996، حين كانت المقاومة في بداياتها، وكانت أضعف بما لا يقاس من اليوم الذي أعلن فيه السيد معادلة ما بعد-بعد كاريش، عُقد في شرم الشيخ ما يسمى “مؤتمر قمة صانعي السلام”، وهو تحالف دولي (غربي) – صهيوني – عربي ضد المقاومة اللبنانية والفلسطينية، حضره ممثلو 30 دولة، أغلبها دول عظمى بتصنيف التأثير والنفوذ والقوة في السياسة الدولية.

ولنعرف قليلاً عن وزن القوى المشاركة في هذا التحالف العالمي ضد المقاومة وحجمها وقوتها، وحجم التحدّي الهائل الذي واجه المقاومة ومشروعها منذ البداية، يكفي أن نذكر أن بعض ممثليهم في المؤتمر المذكور كانوا الرئيس الأميركي بيل كلينتون، والرئيس الروسي بوريس يلتسين، ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، والمستشار الألماني هيلموت كول، ورئيس وزراء الكيان الصهيوني شمعون بيريس.

ويكفي أيضاً أن نذكر أن دولاً عربية عدة (مصر، المغرب، الأردن، السلطة الفلسطينية ممثلة بياسر عرفات) حضرت المؤتمر، ودعمته دول عربية أخرى من دون حضور، فيما كانت سوريا ولبنان الدولتين الوحيدتين اللتين قاطعتا المؤتمر وتحفّظتا عنه[19].

وللدلالة أيضاً على حجم التحدي الذي واجهته المقاومة حينها، يكفي القول إن منتجع شرم الشيخ لم يكن الخيار الأول لعقد المؤتمر، رغم محاولة استغلال رمزية المكان المصطنعة لاحقاً (دعاية “سلام” ناجح بين مصر والكيان). كانت طابا في الحقيقة هي الخيار الأول لعقد المؤتمر، لكن المنظمين اكتشفوا مبكراً أن الحشد الدولي الهائل لدعم الكيان الصهيوني والمعادي للمقاومة وحجم الوفود المشاركة كان أكبر من قدرات وإمكانيات فنادق ومرافق طابا بكثير، فتقرر نقله إلى شرم الشيخ؛ أكبر مدن محافظة جنوب سيناء (480 كم2)، التي يقارب حجمها 5 أضعاف طابا (تقريباً 140 كم2).

لم يأتِ رد حزب الله على المؤتمر بالتذكير بالآية الكريمة 173 من سورة آل عمران: {ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ} فقط؛ فقبل مرور أقل من أسبوع على المؤتمر، في تمام الساعة 1:45 من بعد ظهر يوم الأربعاء، 20 آذار/مارس 1996، فجّر الاستشهادي علي منيف أشقر نفسه بقافلة عسكرية صهيونية متجهة من مستوطنة “مسكاف عام” باتجاه العديسة – رب ثلاثين، موقِعاً العديد من الخسائر (قتلى وجرحى) بعد نجاحه في التسلل إلى المنطقة المحتلة، استتبعها حزب الله بسلسلة من عمليات القصف لمواقع الجيش الصهيوني وعملاء لحد [20].

كان هذا الإعلان يتوافق مع ما قاله السيد في تشييع الشهيد عباس الموسوي: “هذا الطريق سنكمله”. كانت المقاومة تبدو مستحيلة، لكن مقاومة حزب الله لأربعين عاماً أثبتت مرة أخرى أن ما كان يظنه قصار النظر ضرباً من الجنون، أثبتت التجربة العملية والنتائج البعيدة المدى أنه عين العقل، وأن المقاومة هي عقل التاريخ.
معركة فيرتيير

كان ديسالين القائد العسكري الفعلي لثورة هايتي لسنين مضت، ولكن بعد اختطاف (ولاحقاً استشهاد قائد الثورة) توسان لوفيرتور وتسلمه القيادة، انتقلت معه الثورة إلى مرحلة جديدة تميزت بأداء مدهش في تكتيكات حرب الشعب.

كان ديسالين حينها، كما كتب جايمس، “عبقرياً”، وكان “الرجل المناسب لهذه الأزمة، وليس توسان”. ربما يكون السبب في هذا التقدير أنَّ ديسالين، ورغم تصعيده الجانب الكفاحي بشكل ملحوظ، كان يدرك بعمق أيضاً أهمية الأبعاد غير العسكرية في الصراع، ويعمل بجدية على كسر روح المستوطنين الفرنسيين والجنود على حد سواء، ودفعهم إلى الإحباط واستدخال الهزيمة في وعيهم.

حين قام الجنرال الفرنسي روشامبو، مثلاً، بإعدام 500 شخص من الثوار وأنصارهم ودفنهم في حفرة كبيرة تم تجهيزها أمام أعينهم فيما كانوا ينتظرون الإعدام، قام ديسالين بالرد مباشرة وإعدام 600 من البيض وأنصارهم، وحتى رفع مشانقهم عالياً حتى يتمكن روشامبو والسكان البيض من رؤيتهم بوضوح[21].

أبعد من ذلك، كان ديسالين وجنرالاته يبدعون في استخدام الحيل والخداع للنيل من معنويات الجنود الفرنسيين، ففي كثير من الأحيان، كان يستخدم بعض العمال المحليين في القواعد العسكرية لنشر الإشاعات عن هجوم مرتقب، ما يجعل الفرنسيين يتجهزون وينتظرون هجوماً مفاجئاً لا يأتي طول الليل، وأحياناً يأتي في مكان آخر.

هذه الخدع التي حرمتهم من النوم لليال طويلة (وكأنهم وقفوا على رجل ونصف)، أصابت معنويات الفرنسيين الذين لم يستطيعوا تجاهلها في مقتل، حتى لو كان لديهم أي شك في عدم صحتها. أما في البحر، فقد قام الثوار باستمرار بشن هجمات مفاجئة لم يكن لدى الفرنسيين أي حل لها؛ فقد “كانوا يبنون زوارق خفيفة، سهلة الحمل والإخفاء، ويبحرون بها في الأنهار وحول السواحل، ثم يهاجمون السفن الفرنسية فجأة، يقتلون من فيها، ثم يستولون على ما فيها”.

كان الفرنسيون عاجزين تماماً ضدهم، فقد “كان السود يحملون قواربهم الخفيفة على الشاطئ، ويشنون الهجمات ضد الجنود الفرنسيين، ثم يختفون بسرعة مبحرين عبر الأنهار، وكانوا دائماً يظهرون بشكل غير متوقع في البحر”. لا نعرف إن كان ديسالين وجنرالاته قد قرأوا كتاب صن تسو “فن الحرب” (وطبعاً نعرف بالتأكيد أنهم لم يقرأوا كلاوزفيتز، لأن كتابه “عن الحرب” نشر بعد الثورة)، لكن أداءهم المدهش يشهد على أنهم وصلوا لكل دروس الكتابين بالتجربة العملية.

كانوا يعرفون بالضبط أين وماذا ومتى. في إحدى المرات، في عام 1802، قام الثوار بالاستيلاء، وبشكل مفاجئ، على السفينتين الفرنسيتين الوحيدتين اللتين نجتا من الحصار الإنكليزي في عرض البحر، فقتلوا جميع من كان على متنها ونهبوها، ما دفع الفرنسيين إلى الاعتقاد بأنهم يواجهون حرب إبادة، فاندلع الخلاف بين الجيش والمستوطنين البيض المحليين ووصل حد التمرد.

ورغم كل التعزيزات العسكرية الكبيرة للجيش الفرنسي في هايتي، وصل المستوطنون (ما يشبه الجبهة الداخلية للعدو اليوم) بفعل المقاومة الجدية والشرسة للثوار إلى حال من فقدان الأمل تماماً في إمكانية استعادة الجيش لهيمنته على الجزيرة مرة أخرى، كما وعدتهم الحكومة.

ورغم الدعاية واستعراض القوة من الجيش الفرنسي، كان المستوطنون يرون مزارعهم مدمرة، ومستعمرتهم، سان دومينغو، في حال خراب كامل والنار تشتعل في كل أطرافها، فيما حياتهم وحياة عائلاتهم في خطر دائم وحقيقي. لهذا، انقلب المستوطنون على جنرالهم السفاح روشامبو، وطالب بعضهم، ليأسه، بالسلام مع السود.

ثم جاء يوم الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1803، فقاد الجنرال كابوا ما يصفه المؤرخون بنصف لواء (demi brigade) من المتطوعين لاقتحام الحصن المنيع. كان تسليحهم الأساسي من السيوف والسلاح الأبيض. بدأت الهجمة الأولى في فترة ما بعد الظهر. ورغم نيران البنادق والمدفعية الفرنسية، قاد كابوا الهجوم على الحواجز الأمامية للحصن وهو يصرخ: “إلى الأمام، إلى الأمام”.

تحصن الفرنسيون بقوة، وردوا الثوار السود مراراً وتكراراً، ليروهم فقط يعودون إلى الهجوم بحماسة غير منقوصة ومن كل الجهات. وفي إحدى الهجمات، أصابت رصاصة حصان الجنرال كابوا وأسقطته أرضاً. وبدلاً من أن يرتدع أو يخاف، نهض وهو “يغلي غضباً”، شاهراً سيفه وبعينيه نظرة من الاحتقار للفرنسيين الجبناء، وواصل التقدم والصراخ: “إلى الأمام إلى الأمام”.

“الفرنسيون الذين قاتلوا في العديد من الأماكن” في العالم، يقول جايمس، “لم يروا أو يعرفوا قتالاً مثل هذا من قبل”[22]. في ذلك اليوم، أظهر كابوا ورفاقه شجاعة فائقة ونادرة سجّل أحد الجنود الفرنسيين دهشته منها: “أي نوع من الرجال هؤلاء الرجال السود؟ كيف يقاتلون وكيف يموتون! على المرء أن يشن حرباً ضدهم ليعرف ويرى شجاعتهم المتهورة في مواجهة الخطر، عندما لا يعود بإمكانهم اللجوء إلى الحيلة. لقد رأيت طابوراً صلباً منهم يتقدم نحو الحصن، تمزقه قذائف المدافع العنبية، لكنهم يواصلون التقدم من دون التراجع حتى ولو خطوة واحدة إلى الوراء. وكانوا كلما سقط منهم عدد أكبر، بدت شجاعة البقية أكثر”[23].

كانت شجاعة كابوا ولواء المتطوعين الذي يقوده في ذلك اليوم فائقة جداً حد التهور، حتى إنها لم تدهش الفرنسيين فقط، وكانت بالتأكيد أحد أسباب انهيارهم لاحقاً، وأذهلت الثوار أنفسهم. فحتى ديسالين، قائد الثورة الفذّ الذي كان يوصف عن حق بـ”أشجع الشجعان”، كان يراقب مجريات المعركة من تلة قريبة مذهولاً بشجاعة وإصرار جنراله كابوا ورفاقه على اقتحام الحصن. ولأن لشجاعة الثوار جدواها في مثل هذه المعارك، لم تغب شمس ذلك اليوم العظيم حتى انهار الفرنسيون كلياً وقرروا الاستسلام والموافقة على الانسحاب من هايتي إلى الأبد.

في عالم آخر وزمان آخر، كانت معركة فيرتيير ستصنّف كأحد أعظم الملاحم في التاريخ الإنساني على الإطلاق. نادراً جداً ما عرف التاريخ بطولة وشجاعة مدهشة، كما حصل في ميدان حصن فيرتيير: آلاف من المتطوعين الشجعان حد التهور يتقدمون وحناجرهم تصدح بأغنية الثوار: “انسَ أمك، انسَ أباك، انسَ سلامتك الشخصية. إلى الأمام أيها المقاتلون”، ويواجهون زخات من قذائف المدافع العنقودية ورصاص البنادق الحديثة، ويصرون رغم ذلك على اقتحام الحصن الذي تمترس خلفه أقوى جيش في العالم، ولا يتراجعون حتى خطوة واحدة، بل يستمرون في الهجوم حتى بعد استشهاد 3 أرباعهم في ساحة المعركة.

في عالم آخر وزمان آخر، كانت هذه المعركة ستكون كفيلة وحدها باستعادة الثقة بالإنسان، وبالإنسانية، وبالتاريخ. لكن، وكما يبلغنا جان بيار لوجلونيك في كتابه “صرخة فيرتيير”، فإن الأرشيف الكولونيالي أراد لهذه المعركة بالذات أن تُمحى، ليس من التاريخ الفرنسي فحسب، بل ومن الذاكرة الإنسانية كلها أيضاً[24]. فعلى أطراف باريس، في “شاتو دي فينسين”، يقبع 27 صندوقاً مليئاً بالمواد الأرشيفية حول ما يسمى “حملة سانت دومينغو” (رسائل، أوامر عسكرية، تقارير عسكرية، نسخ من بعض الصحف)، لكنها لا تذكر المعركة إلا عرضاً، وتختزل الثورة العظيمة كلها بـ”عصابة” متمردة من السود بقيادة ديسالين على الحضارة الفرنسية.

وحتى بعد ما يقارب قرنين، شاءت الوقاحة الاستعمارية الفرنسية أن تحتفي بذكرى مرور قرنين على وفاة نابليون بإعلان 2021 “عام نابليون”، وتناست كلّياً في تمجيدها له إحدى أهم هزائم الجنرال العسكرية في فيرتيير، والتي وضعت حداً لأحلامه ولطموح فرنسا الإمبراطوري.
توطين المقاومة: بانوراما تموز

كانت “الثورة (في هايتي) هي ثورة المستعبدين الوحيدة الناجحة في التاريخ”، كتب جايمس في “اليعاقبة السود”. ورغم “الاحتمالات الهائلة التي كان يجب على الثوار التغلب عليها، (والتي كانت) دليلاً على حجم المصالح الهائلة التي كانت متورطة” في استعمار هايتي، فإنّ جايمس رأى الثورة الحقيقية، أو شرط نجاح الثورة الأساسي، رغم ذلك، في مكان آخر.

الثورة الحقيقية كانت في “تحول المستعبدين الذين كانوا (قبل الثورة) يرتجفون خوفاً بالمئات أمام رجل أبيض واحد، إلى شعب قادر على تنظيم نفسه وهزيمة أقوى الدول الأوروبية في عصره”. كان هذا، كما رآه المؤرخ الفذّ، هو “إحدى أعظم ملاحم النضال والإنجاز الثوريين”[25].

أما في لبنان، وعلى مدى 40 عاماً من المقاومة، كنا والعالم أمام بانوراما تاريخية ثورية مدهشة بكل المعاني. لم تكن هذه بانوراما كتلك التي نراها على الشاشات، أو في اللوحات الفنية، أو في ملاحم الشعراء. كانت بانوراما حقيقية وحية من لحم ودم ونار.

كنا نشاهد مقاومين عرباً من لحم ودم، يقودهم قادة عرب، أيضاً من لحم ودم، في ثاني أصغر دولة عربية، ويحاربون القاعدة المتقدمة للنظام الإمبريالي العالمي (والأكثر تسليحاً ودعماً وتغطية)، ويحاربون عبرها أكبر وأغنى وأقوى الإمبراطوريات في التاريخ.

كانت مجرد فكرة التمرد العربي على المنظومة الغربية الحاكمة للعالم، وخصوصاً بعد 1991، في إحدى أهم مناطق العالم وأغناها، تهديداً يستوجب الرد بحروب مدمرة وساحقة، لكن، ورغم المقدرات البسيطة والاختلال الهائل جداً في موازين القوى المادية، وحتى الأيديولوجية، لمصلحة العدو والمنظومة الإمبريالية التي اعتقدت أن لا تاريخ بعد حاضرها، كنا نرى مقاومين عرباً، إخوةً لنا، من لحمنا ودمنا يشقون الطريق لأمتنا وللمستضعفين في المنطقة والعالم بالدم والفولاذ والنار، حتى نكون، وحتى يكون لنا في نهاية المطاف موطئ قدم بين الأمم والشعوب.

وكنا نرى قائداً عربياً من طراز لم نعرفه سابقاً. كنا نرى واحداً منا، من دمنا ومن لحمنا، فذاً ومدهشاً، حقيقته المذهلة وموهبته الفريدة كانت تبدو لنا، حتى رأيناه بأم أعيننا لنصدق حقاً، أقرب إلى الأسطورة والخيال والحلم والأماني منها إلى الواقع الحي والحقيقي، لكننا شاهدناه بأم أعيننا، وسمعناه يخاطب عقولنا مباشرة وعلى الهواء: “مصيرك بيدك”. سمعناه يعيد إلينا الروح ويسحق روحهم: إنهم “أوهن من بيت العنكبوت” فـ”هزمت الروح هنا الروح هناك”. سمعناه يقول ويفعل: “إلى حيفا وما بعد حيفا”، وسمعناه يحسم المعركة في بدايتها: “انظروا إليها تحترق”، ورأيناها تحترق.

واحد منا، من لحمنا ودمنا، يقود مواجهة الحروب المتعددة (لا حرب واحدة) علينا وعلى أوطاننا وعلى أمتنا كلها (عسكرياً، سياسياً، إعلامياً، اقتصادياً، أيديولوجياً) وينتصر بها جميعاً، وفي كل مرة. كنا نرى بذهول ودهشة صعود زعيم عربي منا في منعطف تاريخي مفصلي يتوحد فيها ويتوافق التكوين الفكري والعقائدي والقيادي والسياسي والكفاحي الخاص بهذا الرجل العظيم مع الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والكفاحية في زمانه ومكانه لإحداث تأثير تاريخي هائل ودائم، وعلى نطاق إقليمي، وحتى عالمي.

لهذا، أصبح جوابنا المختصر، لكن الكامل والكافي تماماً، عن سؤال سبب قناعتنا المطلقة بحتمية النصر وتحرير فلسطين والأمة دائماً كلمتين فقط: حسن نصر الله. معه كنا نرى ما يعيد لنا الاعتبار والثقة بأنفسنا، بعروبتنا، بإسلامنا، بمسيحيتنا، بتاريخنا، بتراثنا، بثقافتنا، وبحضارتنا، وهو كان بحق، ومنذ البداية، التعبير الأسمى والأجمل والأرقى والأطهر والأصدق لتاريخنا الحقيقي، وحضارتنا الحقيقية، وثقافتنا الحقيقية، وتراثنا الحقيقي، وعروبتنا الحقيقية، وإسلامنا الحقيقي، ومسيحيتنا الحقيقية، ولكل ما نفخر به.

هذه البانوراما المدهشة التي تابعناها يوماً بيوم، ولأربعين عاماً، كانت المشهد الأكثر صدقاً وحقيقةً وثوريةً في تاريخنا المعاصر. إنها بانوراما تاريخية علمتنا يوماً بعد يوم أن السيوف يجب أن تسبق المحاريث دائماً، وأن الرمح يجب أن يسبق المنجل. وفقط، كما رأينا في جنوب لبنان بعد تموز 2006، بعد أن تنجز أسلحة الحرب عملها، سيكون هناك مكان للمحاريث والمناجل. فـ”في تحدٍ أخير” ضَمِنَ السلام في جنوب لبنان منذ 2006، رأينا “حزب الله يطلق 250 صاروخاً على إسرائيل في الساعات الأخيرة التي سبقت وقف إطلاق النار”[26] فقط، ثم عم السلام في الجنوب. هكذا يعمّ السلام.

السيد نصر الله قاد وأسَّس أول مشروع توطين حقيقي وجذري وكامل للمقاومة في المنطقة العربية منذ استعمار فلسطين، ما يفسر تميز تجربة حزب الله عن غيرها والتأييد الواسع لها حتى من خارج البيئة اللبنانية والعربية والإسلامية، ونجاحها المدهش أيضاً. ومنذ 1992، بدأنا نرى أكبر عملية استكشاف وإعادة إنتاج ممنهجة لكل ما هو ثوري في التاريخ العربي والإسلامي وتسخيره في المعركة والتأسيس لعقيدة ثورية مقاومة محلية أصيلة قادرة على مواجهة التحدي الهائل.

رأينا تراثنا وتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا ورموزنا الأهم في التاريخ كلها تدخل المعركة بطريقة غير مسبوقة لم نعهدها سابقاً. أصبح الحديث عن “مصارع الكرام” تياراً عاماً أو يكاد، ودخلت ثورة الامام الحسين كلّ بيت: “والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد”، وعاد للشهادة وهجها وشرفها: “إن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة”.

إنّ توطين المقاومة ليست مجرد عملية لوجستية تتضمن التأقلم مع خصوصيات جغرافيا وطوبوغرافيا وديموغرافيا الصراع، على أهميتها، وليست حتى فقط في اختيار السلاح المناسب والأفضل لمتطلبات الصراع أيضاً، أو حتى في تعديل السلاح وفق معطيات الواقع والإمكانيات، بل، وربما، أهم من كل ذلك، تصدى السيد لمهمة التأسيس العقائدي والثقافي والتاريخي والحضاري والسياسي والكفاحي للمقاومة وفق طبيعة ومتطلبات الواقع والسياق التاريخي والثقافي العربي والإسلامي والعالمثالي.

وإذا كان بإمكانك أن تستورد السلاح أو أياً من متطلبات المعركة المادية، فلا يمكنك أبداً أن تستورد عقيدة قتال ومقاومة. لا يمكنك أن تقاتل وتنتصر بعقيدة مترجمة، ولا يمكنك أيضاً أن تبني مقاومين مثل الذي رأيناهم ورآهم العالم بدهشة يسحقون نخبة جيش العدو في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب وخلة وردة بعقائد مستوردة ومترجمة، وتتجاهل تاريخك وثقافتك وحضارتك ورموزك.

كان توطين المقاومة هو الدّرس الذي عرفه القائد العسكري فونجوين جياب في فيتنام جيداً حين أطلق اسم “تران هونغ داو” على الوحدة الأولى من الجيش الشعبي، تيمّناً بأحد أعظم الأبطال في التاريخ الفيتنامي الذي قاد مقاومة 3 غزوات منغولية لفيتنام، وانتصر عليها في القرن الثالث عشر. استعاده جياب من التاريخ البعيد ليعطي هوية وطنية/قومية للمقاومة، وليبشر بالنصر المحتوم.

ورغم قراءة جياب لكلّ ما كتبه ماو تسي تونغ، المرجع الأهم لحرب العصابات على الإطلاق، فإنه لم يقتبس رائد حرب التحرير الشعبية في كل ما كتب إلا قليلاً جداً. كانت الرموز الوطنية الفيتنامية والدعاية والاستثمار المعنوي الهائل للانتصارات العسكرية بهدف إعادة خلق وتشكيل روح الشعب الفيتنامي في كل مرحلة لضمان استمرار المقاومة محط اهتمامه الأهم.

لكنّ مهمة السيد نصر الله لإعادة تشكيل ثورية للروح العربية والإسلامية كانت أعقد بما لا يقاس من فيتنام، ليس لاختلاف السياق الثقافي والتاريخي والسياسي فقط، ولكن لأنَّ معنى وتبعات نهوض أمتنا وتحرير فلسطين أكثر بكثير مما تحتمل القوى الأكبر والأغنى والأقوى في العالم، ولأن مشاريع المذهبة والتطييف والتقسيم الاستعمارية لأمتنا لعقود أنتجت حولها مصالح هائلة، وبعضها حتى عربية، وساد “نمط الثقافة الإمبريالية”[27]، الذي يتوافق مع المصالح الإمبريالية حتى بين بعض النخب العربية التي أصبحت تردد كالببغاءات الدعاية المعادية وتجنّد بعضهم في المعركة في صفوف العدو ضد المقاومة.

لم يكن التحدي الذي واجهته المقاومة منذ اليوم الأول خارجياً فقط، مع أنَّ الداخل والخارج هما في نهاية الأمر شيء واحد، ولا يشكّلان ثنائية بقدر ما أن هذا القسم من الداخل هو امتداد نسيجي للخارج، ويتشارك معه الأمن المصلحي الذي تهدده فكرة المقاومة.

ومع أنَّ المقاومة العربية واجهت هذا التحدي منذ البداية، إلا أن الظروف التاريخية وحالة العالم التي رافقت صعود حزب الله (نظام القطب الواحد) شكلت تحدياً أكبر لهذه المقاومة يختلف عن كل المقاومات السابقة، لكنّ النتائج التي رأيناها بأم أعيننا تجعل مقولة “كلّما كان التحدي أكبر، كان الانتصار أعظم” صحيحة، وكان الانتصار أعظم.
عن رؤساء أركان: أين دان حالوتس؟

في الثالث عشر من شباط/فبراير 1973، أصدر المجرم ديفيد اليعازر، رئيس أركان الجيش الصهيوني حينها، الأمر بإسقاط الطائرة المدنية الليبية (رحلة 114)، والتي كانت في طريقها من طرابلس إلى القاهرة عبر بنغازي، فاستشهد 108 مدنيين عرب كانوا على متنها.

لم تتم محاسبة اليعازر، طبعاً، أو حتى مجرد التحقيق في الجريمة أو إدانته، بل تجنّدت كل أدوات الإعلام والدعاية، كالعادة، لتبرير قتل المدنيين العرب – فحين يكون المدنيون العرب يقتلون كل يوم، كما يحدث في فلسطين، فهذا يصنف كـ”فترة هدوء” في الدبلوماسية الدولية، يتجند كل العالم من أجل العودة لها مع كل اشتباك يقلق قدرة الصهاينة على قتلنا.

لكن ستنتظر دماء شهدائنا 8 أشهر أخرى للانتقام؛ ففي 6 تشرين الأول/أكتوبر، سيتواجه الجيش الصهيوني، ليس مع المدنيين هذه المرة، بل مع أبطال الجيش العربي السوري-المصري الذين مرغوا رؤوسهم بالتراب (حتى خان السادات دماء الجميع في الحرب أولاً، والسياسة لاحقاً).

نتائج لجنة أغرانات التي شُكلت للتحقيق في حرب تشرين، حَمَّلت اليعازر، إضافةً إلى عسكريين آخرين، مسؤولية الفشل (هكذا يسمون هزائمهم فشلاً، حتى لا يعطوا العرب أي دور أو فضل في النتيجة)، ما دفع اليعازر إلى الاستقالة استباقاً لطرده بحسب توصية اللجنة: “في ضوء ما تم ذكره أعلاه، فإننا نعتبر أن من واجبنا التوصية بإنهاء تعيين الفريق ديفيد اليعازر كرئيس للأركان”[28].

كان اليعازر هو رئيس الأركان الأول والوحيد الذي قدّم استقالته، والوحيد الذي أوصت لجنة تحقيق كبرى بطرده من منصبه، حتى حرب تموز 2006، كما كان الوحيد أيضاً الذي لم يكمل السنوات الثلاث في المنصب من بين كل رؤساء الأركان الصهاينة منذ 1947 (باستثناء دان حالوتس في أعقاب حرب تموز).

كذلك، كان اليعازر الوحيد من بين كل رؤساء الأركان (باستثناء حالوتس أيضاً، كما سنرى) الذي لم ينتقل من الحياة العسكرية إلى العمل السياسي وفق التقليد السائد. فمنذ 1947 وحتى الآن، تم تعيين 22 رئيس أركان لجيش الكيان، غالبيتهم انتقلوا بعد نهاية فترتهم إلى العمل السياسي، وأصبحوا رؤساء وزراء (إيهود باراك، إسحاق رابين)، ونواب رئيس وزراء (ييغال يادين، رفائيل ايتان، موشيه يعلون)، ووزراء أمن (موشيه ديان، إسحاق رابين، إيهود باراك، شاؤول موفاز، موشيه يعلون، بيني غانتس)، ووزراء خارجية (موشيه ديان، إيهود باراك، غابي أشكنازي)، وغالبيتهم عملوا وزراء في وزارات متعددة أخرى وأكثر من مرة، وطبعاً كانوا أعضاء كنيست أيضاً، وحتى قادة أو منافسين على قيادة الأحزاب الكبرى (العمل، الليكود، كاديما). يستثنى منهم 2 فقط، ديفيد اليعازر ودان حالوتس.

في زحمة دروس حرب تموز الكثيرة، سقط مصير دان حالوتس وتم تناسيه، مع أن دلالات ما حصل معه وله كبيرة جداً لأي قراءة مقارنة لتاريخ “رؤساء الأركان” الاثنين والعشرين، وخصوصاً أنَّ تقديرات وتوصيات لجنة فينوغراد وجهت توبيخاً غير مسبوق إلى حالوتس؛ فحتى اليعازر لم يوبخ بهذه الطريقة: “عندما حدث الاختطاف، استجاب (حالوتس) بتهور. لم ينبّه القادة السياسيين إلى تعقيد الوضع، ولم يقدم معلومات وتقييمات وخططاً كانت متوفرة في جيش الدفاع الإسرائيلي على مستويات مختلفة من التخطيط والموافقة، والتي كانت ستتيح استجابة أفضل للتحديات”. اللجنة أجملت تقديرها الطويل: “في كل ذلك، فشل رئيس الأركان في مهامه كقائد أعلى للجيش وكجزء مهم من القيادة السياسية والعسكرية، وأظهر عيوباً في الاحتراف والمسؤولية والحكم”[29].

لم يكمل حالوتس فترة الخدمة التقليدية لثلاث سنوات كأسلافه ولاحقيه، رغم أن بعضهم أيضاً خدم لأربع أو 5 سنوات بعد تمديد مدته (باستثناء اليعازر طبعاً، ومردخاي ماكليف الذي خدم لعام واحد (1952-1953)، واستقال طوعاً ليلتحق بالقطاع الخاص).

ورغم أن لجنة فينوغراد حمّلته مسؤولية أساسية عما حصل، مشيرة أيضاً إلى أن هذه المسؤولية “تتفاقم بسبب حقيقة أنه كان يعلم جيداً أن كلاً من رئيس الوزراء ووزير الدفاع يفتقران إلى المعرفة والخبرة الكافية في هذه الأمور”، إلا أن من يدرس تاريخ رؤساء الأركان الاثنين وعشرين، وأنا فعلاً قمت بمسح سريع لهم سأنشره قريباً، سيستنتج أن حالوتس هو أفضلهم بلا منازع، وربما بفارق هائل حتى، من ناحية المعرفة والوعي وإدراك علاقة العمل العسكري بالجوانب غير العسكرية – ربما لهذا السبب كان البعض ينتقده كمغرور: “لست بحاجة إلى أن تكون نعجة حتى تقود القطيع”، قال حالوتس رداً على منتقدي تعيينه “قائد سلاح الطيران” لرئاسة الأركان الذي جاء تقليدياً من سلاح المشاة؛ فحالوتس هذا، المسؤول الأكبر عن ابتكار وتصميم وتصعيد الموجة الجديدة من سياسة الاغتيالات ضد المقاومين الفلسطينيين للنيل من معنويات المقاومة، ربما يكون رئيس الأركان الأكثر إدراكاً لمعنى الردع، وبالتالي وعياً بالهزيمة – “الردع مسألة وعي” كتب مرة.

وهذا ربما يفسر هوسه الكبير بمحاولة إثبات أن “إسرائيل” ليست “أوهن من بيت العنكبوت” أثناء حرب تموز، ما دفعه، لسوء حظه، إلى الذهاب إلى بنت جبيل ومحاولة رفع العلم الصهيوني في مكان خطاب السيد. إن حالوتس، الذي قال، كما نقلت عنه “جيروساليم بوست” في 17 تموز/يوليو، بعد 5 أيام من الحرب فقط، أن “الطريقة التي ننهي بها هذه [العملية في لبنان] سيكون لها تداعيات على الشرق الأوسط بأكمله”[30]، كان يعي معنى الحرب تماماً.

ورغم أن هذه التداعيات الكبرى المتعددة الأشكال لحرب تموز ما زالت تتواصل وتتصاعد إلى يومنا هذا، وستظل لوقت طويل، إلا أنَّ حالوتس عرف جيداً تداعياتها على مستقبله الشخصي والمهني أيضاً حتى قبل نهاية الحرب. فحين كان يراقب مجريات المعركة “من قبوه في تل أبيب”، كما نقل خبير عسكري أميركي، “تلقى رسالة تفيد بأن حزب الله أسقط إحدى طائرات الهليكوبتر التابعة للجيش الإسرائيلي من طراز “سيكورسكي سي اتس 53″، ما أسفر عن مقتل الطاقم بأكمله، فصرخ رئيس الأركان بأنّه “شعر بالهزيمة على الصعيدين الشخصي والمهني”[31].

لكن، حتى مقارنة بسيطة بين حالوتس ورفائيل أيتان (1978-1983)، مثلاً، ربما تستنتج أن كليهما مستوطن فاشي يمارس قتل العرب كرياضة، لكن أيتان كان يحارب “كالفيل في محل زجاج”، ولولا رعاية الإمبراطورية وضمانتها التفوق العسكري للكيان لعرف العالم عن حق ما ومن هو رئيس أركانهم الحادي عشر (أيتان)، وما هي إمكانياته الحقيقية.

ربما يكون العسكري الصهيوني الآخر الذي كان بمستوى حالوتس فقط وعياً بمعنى ما يجري في الميدان، هو عودي آدم، قائد المنطقة الشمالية منذ عام 2005 – وبالتالي كان يعرف حزب الله جيداً. اللافت أن آدم الذي استقال مباشرة بعد الحرب، ليس فقط استباقاً لحتمية قرار طرده بعد الحرب الذي تسرب للإعلام، ولكن أيضاً بسبب إهانة استبداله من منصبه قبل نهاية الحرب بأربعة أيام بموشيه كابلينسكي بسبب ما وصف بـ”أدائه الرديء في الحرب”[32]، كان قد صرح لـ”جيروساليم بوست” في منتصف الحرب (21 تموز/يوليو 2006) ليس فقط أنه “لا يوجد حل عسكري للصراع”، وقصد طبعاً أنه “لا يوجد حل عسكري لحزب الله”، لكن أيضاً تصريحه: “لا أعتقد أن أحداً يريد العودة إلى لبنان”[33].

قليلون توقفوا عند معنى أن يستبدل الكيان “قائد المنطقة الشمالية” في منتصف الحرب مع الشمال، وقليلون عرفوا حتى إنه قد يكون من أفضل جنرالاتهم – لهذا ربما يكون حظ إيهود باراك، الذي يعتبر أهم العسكريين عندهم، والذي عمل رئيس أركان بين 1991-1995 أنه لم يتعرض لامتحان جدي في مقابل عماد مغنية ومصطفى بدر الدين ورفاقهما.

لهذا بالضبط، فإن المقارنة ستكتمل فقط لو تمت مقارنة أفضل قادة أركانهم (وأنا أصر، وعن دراسة مقارنة تفصيلية، أنه حالوتس في هذه الحالة، وليس باراك، الذي ربما يكون أمهر فقط بقدرته على توظيف أدوات الدعاية والعلاقات العامة) بقادة أركان المقاومة.

لهذا كتبت قبل عدة سنوات: “منذ الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 (رفائيل أيتان) وحتى انتصار تموز في 2006 (دان حالوتس)، شغل هذا المنصب (رئيس الأركان) ثمانية من أهم جنرالات الكيان الصهيوني على الإطلاق (وكلهم برتبة فريق، ومنهم إيهود باراك الذي حصل على أكبر عدد أوسمة في تاريخهم وأصبح رئيس وزراء ووزير دفاع)، وكلهم فعلوا كل ما بوسعهم فعله للقضاء على المقاومة.

لكن، ولأن عماد مغنية كان يقود المقاومة المسلحة في الطرف الآخر، انتهت المعركة في أيار/مايو 2000 وتموز/يوليو 2006، كما أراد لها الحاج رضوان أن تنتهي بالضبط، انتهت في مشهد من الانسحاب المذل والفوضوي الذي لطّخ سمعة كل عسكري صهيوني إلى الأبد”[34].

في أعقاب استقالته المكللة بعار الهزيمة العسكرية، لم يجرؤ حالوتس حتى على تجربة حظه في العمل السياسي، وانتهى أولاً رئيساً لشركة بيع سيارات، ثم انتقل بعدها ليرأس “جمعية إتغاريم (التحدي) الخيرية لذوي الاحتياجات الخاصة”. لكن، لو كان أي من رؤساء الأركان الاثنين والعشرين السابقين واللاحقين على حالوتس في منصبه أثناء حرب تموز، لما تغيّرت نتيجة الحرب في الحد الأقصى، إن لم تكن قد أصبحت أسوأ لهم، فالكيان قدّم أفضل ما يمكن أن يقدمه أفضل رئيس أركان في تاريخه.

أما هزيمة حالوتس وهزيمة الجيش الذي قاده، ونهاية حياته السياسية والمهنية بائعاً للسيارات، فقد كان سببها الأساسي أنَّ من قاد المعركة في الجانب الآخر عقول من طراز عماد مغنية ومصطفى بدر الدين ورفاقهم. هذا السبب لمحت إليه لجنة فينوغراد ذاتها، ويمكننا قراءته بين سطور التقرير:

“بدأت إسرائيل حرباً طويلة انتهت من دون انتصار عسكري واضح. قاومت منظمة شبه عسكرية قوامها بضعة آلاف من الرجال، لبضعة أسابيع، الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، الذي تمتع بتفوق جوي كامل وتفوق بالحجم والمزايا التقنية. (لكن) استمر وابل الصواريخ الذي استهدف السكان المدنيين في إسرائيل طوال الحرب، ولم يقدم الجيش الإسرائيلي رداً فعالاً على ذلك. تعطل نسيج الحياة تحت النيران بشكل خطر، وغادر العديد من المدنيين منازلهم مؤقتاً أو أمضوا وقتهم في الملاجئ. بعد فترة طويلة من استخدام قوة النيران الموجهة وأنشطة برية محدودة، بدأت إسرائيل هجوماً برياً واسع النطاق، قريباً جداً من قرار مجلس الأمن الذي يفرض وقف إطلاق النار. (لكن) لم يسفر هذا الهجوم عن مكاسب عسكرية ولم يكتمل. كان لهذه الحقائق آثار بعيدة المدى بالنسبة إلينا، وكذلك على أعدائنا وجيراننا وأصدقائنا في المنطقة وحول العالم”[35].
خاتمة 1: الثورة الأفضل

لم تكن ثورة هايتي مثل أي ثورة أخرى يفتخر بها الغرب، ويُدَرَّسْ تاريخها وتجربتها في المدارس والجامعات، فلم تكن مثل ما سمي “الثورة الإنكليزية” التي أنهت الصراع الطويل بين الملك والبرلمان، وتفتقت في النهاية عن نتيجة التوفيق بين ما سمته حقوق الشعب ولقب الملك.

لم تكن مثل الثورة الأميركية التي حصلت على استقلال المستعمرات التابعة لبريطانيا وحوّلتها فقط إلى ولايات مستقلة، لكنها أبقت على كل شيء آخر تقريباً كما هو (وأبقت على العبودية ومكانة المرأة الدونية). لم تكن حتى مثل الثورة الفرنسية، التي صدع الغرب عقولنا بعظمتها، والتي أنهت نظاماً ملكياً واستبدلته بإمبراطورية وإمبراطور (نابليون) حارب لإعادة فرض العبودية على المستعمرات.

لهذا، ولأسباب كثيرة أخرى، تقف ثورة هايتي وحيدة حين تقارن بكلّ هذه الثورات، فقد استمر الثوار من دون تعب أو إحباط أو يأس 13 عاماً متواصلة من الثورة (من 22 آب/أغسطس 1791 إلى كانون الثاني/يناير 1804)، برغم الطابع الشرس والدموي جداً للنضال، والعدد الهائل للشهداء، واصطفاف أغن وأقوى دول العالم حينها ضدها. فثورة هايتي لم تؤسّس لكيان اجتماعي وسياسي جديد فقط، بل وضعت حداً أيضاً لعهد كامل في التاريخ الإنساني وغيرت العالم.

ربما يؤكّد بعض ما حصل لاحقاً في أعقاب انتصار الثورة أنّ قلق الأوروبيين والأميركيين (الذين ساهموا تقريباً في كل حملة عسكرية على هايتي ماليا وماديا) لم يكن بلا أسس، فقد ألهم انتصار ثورة هايتي مباشرة كل انتفاضات المستعبدين في الولايات المتحدة، بدءاً بالانتفاضة التي قادها غابرييل بروسر (1800)، ونات تيرنر (1822)، ولاحقاً دنمارك فيسي (1831)، ثم الحرب الأهلية.

لكنّ ثورة هايتي لم تكن مجرد ملهم للمستعبدين والمضطهدين وحجة عليهم فقط، فقد شكّلت أيضاً مصدر الدعم المادي (سلاح ومال) والبشري (ثوار ومقاتلين ضد الاستعمار) المباشر للثورات في أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية بين أعوام 1806-1826، وهو ما قاد إلى خسارة إسبانيا كل مستعمراتها حينها (باستثناء كوبا وبورتوريكو – وحتى أثناء الثورة الأميركية، وقبل الثورة، شارك معهم 500 متطوع من هايتي).

أكثر من ذلك، وربما أيضاً الأهم بما لا يقاس، قدمت ثورة هايتي أيضاً الأساس الأيديولوجي المطلوب لكل حروب الاستقلال، ومحاربة الاستعمار، وتحرير المستعبدين في كل المستعمرات الأوروبية، وقدمت أيضاً الحجة القاطعة بإمكانية هزيمة الإمبراطوريات الأوروبية الكبرى من قبل الثوار، برغم الاختلال الفادح في موازين القوى، وبرغم المصالح الكونية الهائلة التي اصطدمت بها الثورة.

ربما لهذا السبب، قال جايمس إنّ الثورة الحقيقية كانت في “تحول المستعبدين الذين كانوا يرتجفون خوفاً بالمئات أمام رجل أبيض واحد، إلى شعب قادر على تنظيم نفسه وهزيمة أقوى الدول الأوروبية في عصرهم، ما جعلها أحد أعظم ملاحم النضال والإنجاز الثوريين”.[36]

ربما لهذا السبب يعتبر الرئيس الهايتي الثاني بعد الثورة، ألكسندر بيتيون (1807-1818)، الذي خلف ديسالين، الأب الحقيقي للحركة القومية الأميركية اللاتينية، ويذكّر دوره بالدور الثوري العالمي لفيديل كاسترو، أنبل ثوار القرن العشرين، لاحقاً في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؛ فهو لم يدعم مادياً وعسكرياً وبشرياً كل الحركات الثورية والتحررية في أميركا اللاتينية فحسب، بل كان دعمه بالسلاح والذخيرة والمال والمقاتلين لسيمون بوليفار في فنزويلا وكولومبيا مشروطاً بإلغاء العبودية في فنزويلا، وفي أي دولة يتم تحريرها لاحقاً بعد الاستقلال (كولومبيا، الاكوادور، بيرو).

وقد طالب بإرسال أي سفينة من سفن تجارة العبيد إلى هايتي ليتم تحريرهم مباشرة. كانت المادة الرابعة والأربعون من دستور استقلال هايتي تنص على أن “أي شخص أسود أو من السكان الأصليين المستعبدين يصبح حراً ومواطناً كاملاً في الجمهورية بمجرد وصوله إلى شواطئ هايتي”.

هكذا تحرر الآلاف الذين وصلوا إلى هايتي من سفن تجارة العبيد أو الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية والكاريبي.[37] فبفضل هايتي، وبفضل ألكسندر بيتيون، نجح سيمون بوليفار في هزيمة الجيش الإمبراطوري الإسباني وإعلان استقلال كولومبيا 1819، ثم فنزويلا 1821، ثم البيرو 1821، والإكوادور 1822.

ليس من المستغرب، إذاً، أنَّ معاصري الثورة في مستعمرة سانت دومينغو الفرنسية، حيث بنى كولومبوس أول مستوطنة أوروبية في العالم الجديد، لم يستطيعوا حتى مجرد تخيل تأثيرها الهائل في التطورات المستقبلية في نصف العالم الغربي أولاً، ولاحقاً العالم. فالناس تفكّر عادة وفق معايير الواقع القائم وأسسه، والثورة تعني التفكير بمعايير وأسس عالم آخر وواقع مختلف.
خاتمة 2: الأفضل لم يأتِ بعد

حين انطلق حزب الله، وحتى حين حارب نيابةً عنا جميعاً منذ 1982، وفي تموز 2006، أصرَّ بعض العرب الذين حاربوه منذ البداية، ولا يزالون، على وصفه بالمغامر، خدمة لمصالحهم المرتبطة بالعدو، وتبريراً لتخاذلهم وتآمرهم علينا وعلى دمائنا.

لكن بعد 40 عاماً، ورغم كل الأموال العربية والصهيونية والغربية التي أنفقت لشيطنة المقاومة، ورغم آلاف أطنان السلاح، وكل الصواريخ وقذائف المدافع والنار التي سقطت على رؤوس أطفالنا وأهلنا في لبنان وسوريا واليمن والعراق وفلسطين، وعلى البيوت والمدارس والمشافي والمساجد والحسينيات والكنائس في الضاحية والجنوب في لبنان، أصبح ذكر هذا الاسم، حزب الله، لا يستدعي مباشرة فقط واحدة من أرقى حركات المقاومة في التاريخ الحديث، أو حتى واحدة من أنبل تجارب النضال من أجل التحرير في تاريخ وطننا العربي أيضاً، بل أصبح كذلك يستدعي اسم واحد من أعظم الرجال والقادة الاستثنائيين في تاريخ العرب الحديث، قائد أكبر انتصاراتنا (وأكثر هزائمهم مرارة)، قائد المقاومة التي بدت فعلاً مستحيلة، والذي انتصر رغم كلّ شيء، حتى في أسوأ حالة للعالم والمنطقة ولبنان، وهزيمة الكيان الصهيوني مراراً وتكراراً، وأيضاً، والأهم، التمهيد لتحرير فلسطين بجعل المهمة تبدو على حقيقتها سهلة وواقعية.

حزب الله لم يدعم المقاومة الفلسطينية مادياً وبشرياً فقط، وغزة والضفة وباقي فلسطين كلها شاهدة على ذلك، بل قدم أيضاً الأساس الأيديولوجي للمقاومة في أعقاب فشل مشروع منظمة التحرير، وأسَّس لنظرية المقاومة المحلية الأصيلة التي يحتاجها المقاومون الجدد.

ومن يتابع ويسمع جيداً ما قاله ويقوله السيد، سيرى أكبر عملية تأسيس أيديولوجي/نظري، وفلسفي، وكفاحي، وسياسي، وتاريخي للمقاومة والتحرر الوطني في التاريخ العربي الحديث. لهذا، لم يلبث السيد أن يخاطبنا في أيار/مايو 2000: “يا شعبنا في فلسطين، مصيرك بيدك. الخيار عندكم والنموذج ماثل أمام أعينكم”[38]، حتى خرجت فلسطين بعدها بأربعة أشهر، في 28 أيلول/سبتمبر 2000، عن بكرة أبيها في جولة جديدة ومختلفة من المقاومة لم ولن تكون الأخيرة.

ثم جاءت معركة “سيف القدس” في أيار/مايو 2021، لتذكرنا بأيار 2000، ولتعلن مسار فلسطيني مقاوم جديد. كانت هذه إحدى تبعات مسار مقاوم انتصر في أيار/مايو 2000 وتموز/يوليو 2006، وتبعات جهود رجال أبطال لم يتركوا فلسطين وحدها يوماً، ودفعوا أثماناً هائلة، ستظل دين في أعناق الأمة. فبدلاً من أأن نراهن على انتظار تغير العالم والمنطقة حتى نرى أفقاً جديداً لقضيتنا، علّمنا السيد أننا يمكن (بل ويجب) أن نغير المنطقة والعالم بتغيير بلادنا، وبالمقاومة أولاً.

لهذا وغيره الكثير، كل حديث عن حزب الله، وعن السيد نصر الله، لا يجب أن يكون مدفوعاً بالإعجاب بظاهرة مقاومة فذة فقط، أو بالقائد الشريف، أو بحزب من طراز جديد. ولكن أساساً، وللعرب خصوصاً، بواجب وحق الامتنان والشكر للسيد ولرجال ونساء مقاومين شجعان، ساروا على نهج العباس، فكانوا مثله “نافذي البصيرة، ذوي إيمان صلب”، يحملون جراحهم ويقاومون، ونهج السيدة زينب، فأصبحوا مثلها “الحجة على نساء الأرض”، يحملون أبناءهم شهداء، ودعاؤهم: “خذ حتى ترضى” و”ما رأوا إلا جميلاً”.

أي نوع من الرجال والنساء هؤلاء؟ عليك فقط أن تقرأ ما تيسر وانكشف فقط من تاريخ الأربعين عاماً الماضية في بلادنا لتعرف شيئاً قليلاً جداً عنهم، سيعيد إليك حتماً الثقة بالإنسان والإنسانية، أو عليك حتى أن تقرأ قليلاً مما كتبه العدو عنهم لتتيقّن حقاً أن هذا الليل الذي تعيش به أمتنا لا يمكن أبداً أن يكون أبدياً، وأنه حيث يشير أصبع السيد دائماً، هناك شمس في الانتظار. رجال ونساء قاوموا واستشهدوا وجرحوا وأسروا من أجل حريتنا جميعاً، كما قاتلوا من أجل حرية كل مضطهد ومستضعف، وليس من أجل حريتهم هم فقط، وقدموا من أجل ذلك أغلى ما يملك الإنسان.

حزب الله لم يخدم قضية المقاومة والحرية والتحرير بشكل كبير فقط، ولكنه قدم لنا أيضاً درساً فذاً في التاريخ، فليس سهلاً أن تصنع التاريخ، وليس سهلاً أن تغير العالم أو المنطقة أو حتى بلداً واحداً، وخصوصاً حين تكون أمتنا الأكثر استهدافاً من أعتى إمبراطوريات التاريخ، لكن مدرسة شعارها “مصيرك بيدك” لن تعرف المستحيل.

كل هذا التاريخ المذهل الذي تكشف لنا أمام أعيننا من لبنان إلى فلسطين، ومن سوريا إلى العراق واليمن، حتى حين كان حزب الله أضعف بما لا يقاس مما هو عليه اليوم، وأقل خبرة وتجربة ومعرفة وتسليحاً، لا يدفعنا إلى التفاؤل فقط، بل يسلحنا باليقين المطلق بالنصر وبحتمية تحرير فلسطين ووحدة الأمة يوماً ما أيضاً. أما أن المقاومة الآن أشد عوداً وأقوى عدة وعديداً وخبرة وحكمة وعلماً من أي يوم سبق، وبعد كل ما رأيناه، وبعد كل ما عرفناه عن تجربة حزب الله، فإنّ الأفضل حتماً لم يأتِ بعد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.