إنقلاب على «الانقلاب» الأميركي

صحيفة الوطن السورية-

عبد المنعم علي عيسى:

مع دخول الصراع الأوكراني شهره الثامن عشر، بدت التداعيات التي خلفها هذا الأخير على ضفاف النظام الدولي شديدة التعقيد، وهي متشابكة بدرجة يصعب معها رسم مشهد واضح لما سترسو عليه، فالصراع حتى الآن، على أشده بل أن وتيرة النار تتسارع، ومن المؤكد أن محطة «فيلينوس» التي التأم فيها «ناتو» يوم الـ 11 من تموز المنصرم، كانت قد مثلت سقفاً لم يصله هذا الأخير تجاه أي صراع منذ الإعلان عن تأسيسه مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، ومن الراجح أن تلك «المحطة» لن تكون هي الأعلى في ما وصلت إليه، إذ لطالما احتوى البيان الصادر عنها، بين ثناياه، على مؤشرات توحي بإمكان أن يذهب مصدروه نحو خطوات أعلى «إذا ما اقتضت الضرورات ذلك».

لا شك في أن الولايات المتحدة قد استطاعت، بمساعدة حلفائها الأوروبيين، تحقيق مكاسب مهمة بعضها ذي طبيعة استراتيجية وإن كانت لا تزال غير متبلورة حتى الآن، وفعل التبلور، مرتبط بدرجة كبيرة بالنتائج التي سيؤول الصراع الأوكراني إليها، وما سيفضي إليه هذا الأخير من تغيرات في موازين القوى القائمة منذ ما قبل شباط 2022، والمؤكد أن كبرى المكاسب التي تحققت كانت تتمثل في إعادة «ضخ الدماء» في جسد «ناتو» بعد أن كان قد دخل في «حالة موت سريري» وفقاً لتوصيف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أطلقه زمن حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والفعل من حيث النتيجة وإن كان قد جاء بفعل الضرورة قبل أن يكون في سياق رسم استراتيجيات بعيدة المدى قياساً لمؤشرات عدة راحت تتراكم، وهي تهدد، بتداعي القبضة الأميركية على العالم، لكنه يخفي أيضاً بين ثناياه حالة تشنجية فاقعة راحت تتمظهر من خلال المحاولات الأميركية لخلق «فضاءات إيديولوجية» جديدة للحلف يمكن من خلالها أن يستعيد هذا الأخير «وهجه» و«تألقه» زمن الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الأمر الذي يمكن لحظه من خلال التركيز على «التهديد الشمولي» للصين على الرغم من أن ثمة افتراق واضح فيما بين الموقفين الأميركي والأوروبي حولها، ففي الوقت الذي أعلنت فيه واشنطن أن الصين تمثل «التهديد الإستراتيجي الأول» لها، و«للعالم الحر» برمته وفقاً لتوصيف وثيقة للأمن القومي الأميركي العام 2021 ثم عاد التوصيف ليصبح أكثر حدة في نظيرة لها العام 2022، فإن الأوروبيين اكتفوا بتوصيف الصين على أنها «خصم وشريك نظامي»، لكن واشنطن حققت، من خلال قمة «فيلينوس» 11 تموز المنصرم، نوعاً من النجاح تمثل في انزياح أوروبي نحو النظرة الأميركية للدور الصيني.

هذا «النجاح» مرحلي بمعنى أن ترسيخه سيكون مرتبطاً بدرجة كبيرة بالتطورات التي ستشهدها المرحلة الجديدة من الصراع الأوكراني والذي يمثل عنوانها الأبرز، بالنسبة للغرب، دحر القوات الروسية من إقليم الدونباس وشبه جــزيرة القــرم، فإذا ما اســتطاعت أوكرانيــا فعــل ذلك، بدعم وإســناد غربيين، فــإن الآمال الغربية ســـتنتعش في إمكــان حصار روســيا وعزلهــا تمهيداً لإضعافها بل وتفكيكها عبر سيناريوهات تقوم على اللعب على التناقضات الداخلية وتنمية النزعات الانفصالية عند مكونات عرقية واثنية تنضوي تحت راية الاتحاد الروسي، وهذا، فيما لو حصل، فإنه سيساعد بدرجة كبيــرة في تعزيــز الإســـتراتيجية الأميركيـــة الرامية إلى احتواء الصين، كما وسيزيد من متانة «اللاصق» الرابط بين أنسجة الغرب على ضفتـــي الأطلسي بنتيجة استعادة ضفة هذا الأخير الأوروبية لثقتها بالدور والقدرات الأميركية من جديد، في حين أن السيناريو النقيض، أي إخفاق القوات الأوكرانية في دحر نظيرتها الروســية من الدونباس والقرم، فإن ذلك سيدفع نحو قبــول الغرب بسيناريو التفاوض للوصول إلى تسوية ســياســية لــن تكــون مقتصــرة فقط على المطالب الروسية التي أعلنت عشية انطلاق «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا شهر شباط من العام المنصرم، وهذا لوحده سيشكل انتصاراً سياسياً كبيراً لروســيا سوف تكون له تداعيـــات إيجابية شديدة التأثير على الجبهة الداخلية الروســـية، ونظيرة لها شديدة السلبية على تلاحم الغــرب بعد إخفاق «مشــروعه» الروسي الذي لم يكن سوى خطوة على طريــق «مشـــروعه» الصيني.

من المقرر أن تعقد مجموعة «البــريكس» قمة لها على مستوى القادة شهر آب المقبل فيما تشير التقارير إلى أن المهمة الأولى على جدول أعمال تلك القمة ستتمثل في الاتفاق على استصدار «عملة مشتركة» لدول المجموعة مرتبطة بالذهب، وهذا سيكون، فيما لو حصل وأصبح أمراً واقعاً، أهم تحول جيوسياسي عالمي منذ ما يزيد على نصف قرن مضى، أي منذ أن قام الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون باتخاذ قراره الشهير، العام 1971، القاضي بفك الارتباط ما بين الذهب والدولار، الأمر الذي أتاح وقتها للولايات المتحدة طبع كميات هائلة من الدولارات استطاعت الأخيرة من خلالها الهيمنة على جميع مجالات النشاط التجاري العالمي، والفعل من حيث النتيجة كان له دور في تعزيز السطوة الأميركية، بل ودور في حسم الصراع الذي كان دائراً ما بينها وبين الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، وبذا يصح توصيف القرار المزمع اتخاذه من قبل «البريكس» خلال شهر آب المقبل «انقلاباً» على «الانقلاب» الأميركي الحاصل مطلع السبعينيات من القرن الماضي.

هناك مؤشرات يمكن لها أن تشير إلى أن فرص النجاح في خطوة من هذا النوع مرتفعة على رأسها واحد يقول: إن «البريكس» أضحت تمثل 35 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، في حين أن مجموعة «G7»، التي تمثل درة الغرب وثقله الأكبر، لا تنتج أكثر من 31 بالمئة من هذا الأخير، هذا يعني أن تحولاً استراتيجياً مهماً بوزن صدور عملة مشتركة جديدة يمتلك مشروعية وازنة تمنحها فرصة نجاح كبيرة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.