الأزمة الاقتصادية في سوريا: توليفة من الأسباب الداخلية والخارجية

موقع قناة الميادين-

زياد غصن:

يمكن القول إن الأسباب أو العوامل الخارجية كان لها الأثر الأكبر في تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ منتصف العام 2019.

عاد سعر صرف الليرة السورية ليسجل دورة جديدة من الانخفاض المؤثر، بطبيعة الحال، في أسعار السلع والخدمات من جهة، وفي ما تبقى من القوة الشرائية لدخل المواطن المتدني أساساً من جهة ثانية. ومع أن الأعوام الثلاثة الماضية شهدت نسب انخفاض تكاد تكون مساوية لنسبة الانخفاض الحاصلة حالياً وربما أكثر، فإن ما ولّدته الضغوط الاقتصادية والمعيشية من تراكمات سلبية على مدار السنوات السابقة يجعل من نسبة الانخفاض الحالية مثيرة للمخاوف والقلق، لا سيما مع تراجع التمويل الدولي للعمل الإغاثي، وهو ما يعني أن شريحة واسعة من المحتاجين سوف تكون وحيدة في مواجهتها للظروف المعيشية، والتي تزداد سوءاً. كما أن نسبة الانخفاض الحالية في قيمة سعر الصرف تتزامن مع تطورات جديدة على الساحة السورية تتمثل في الحشود العسكرية الأميركية في الشرق السوري وتصاعد وتيرة العقوبات الاقتصادية الغربية، وهو ما يؤشر إلى إمكانية أن تزداد الضغوط الاقتصادية على البلاد أكثر في الفترة القادمة.

لكن، هل يمكن اختزال الأزمة الاقتصادية التي تمر بها سوريا منذ ثلاثة أعوام بما شهده -ويشهده- سعر صرف الليرة من تقلبات متتالية؟

علمياً، فإن ما يطرأ على سعر صرف الليرة من تقلبات ليس سوى نتيجة لعوامل اقتصادية، وتالياً فإنه لا يمكن التعامل مع انخفاض سعر الصرف على أنه المسبب الرئيسي لتدهور الأوضاع الاقتصادية، وإنما هو من ضحايا السياسات والإجراءات والأوضاع الاقتصادية السائدة في البلاد كتراجع الإنتاج المحلي، محدودية الصادرات، ضعف موارد البلاد من القطع الأجنبي، زيادة الطلب على القطع الأجنبي، التمويل بالعجز، وغير ذلك. ولهذا، فإنه من الخطأ القاتل تسخير الموارد والإمكانيات الاقتصادية الوطنية لضبط سعر الصرف بدلاً من تنمية تلك الموارد واستثمارها بشكل أفضل.

نتائج تراكمية
ما تعانيه سوريا اليوم من أوضاع اقتصادية صعبة يمكن إيجاز نتائجه بالنقاط الآتية:

-ارتفاع مستمر في معدل التضخم، الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، إذ إن معدل التضخم المسجل رسمياً خلال العام 2020 وصل إلى 114.2% وفي العام 2021 وصل إلى 118.8%، فيما تتحدث التقديرات غير الرسمية عن ارتفاع الرقم القياسي العام للأسعار بمقدار 6 أضعاف خلال الفترة الممتدة بين 2019 ومنتصف 2022، فيما ارتفعت الأسعار الغذائية بمقدار 6.7 أضعاف.

-تراجع الإنتاج المحلي وفقاً لمعيارين: الأول المستوى المفترض أن يبلغه الإنتاج بعد استقرار الأوضاع الأمنية في مناطق عديدة. والمعيار الثاني تراجع الإنتاج مقارنة بسنوات سابقة، وهذا يمكن ملاحظته بوضوح في القطاعين الزراعي والصناعي ولأسباب موضوعية وغير موضوعية.

-تراجع سعر الصرف، وتالياً تراجع القوة الشرائية لليرة، بشكل كبير خلال العامين الأخيرين، حيث انخفض سعر الصرف من نحو 450 ليرة مع بداية العام 2019 إلى نحو12500 ليرة حالياً وفقاً لسعر السوق الموازية. فمع تحوّل البلاد إلى مستورد للعديد من السلع الأساسية، التي كانت تؤمن سابقاً محلياً (القمح-المشتقات النفطية…) فإن إيرادات البلاد من القطع الأجنبي تراجعت بشكل كبير جراء العقوبات والدمار الذي لحق بالقاعدة الإنتاجية للبلاد وفشل السياسات الحكومية في إنعاش القطاع الإنتاجي.

-ارتفاع معدل الفقر بين السوريين بشكل واسع، والتقديرات الأممية تتحدث عن دخول أكثر من 91% من السوريين في دائرة الفقر، لكن توقعات الباحثين تذهب إلى تأكيد أن الأثر الأهم للأوضاع الحالية يكمن في زيادة نسبة الذين يعانون من فقر مدقع.

-اتساع نسبة الأسر السورية التي تعاني من انعدام شديد أو متوسط في أمنهم الغذائي، وتراجع نسبة الأسر التي تتمتع بأمن غذائي. فمثلاً وفق المسح الرسمي المعد مع برنامج الغذاء العالمي، فإن 8.3% من الأسر السورية تعاني من انخفاض حاد في أمنها الغذائي، 47.2% من انخفاض متوسط، 39.4% تتمتع بمستوى مقبول من الأمن لكنها معرضة لفقدان أمنها الغذائي، وفقط 5.1% هي نسبة الأسر الآمنة.

والسؤال…. لماذا تدهورت الأوضاع الاقتصادية على هذا النحو رغم انحسار مساحة المعارك العسكرية، وحصول تحسن في بعض المؤشرات الاقتصادية بدءاً من أواخر العام 2018؟

على خلاف ما كان ينتظره السوريون من حدوث تحسن في الأوضاع الاقتصادية، فإن اجتماع عدة أسباب أدى تدريجياً إلى حدوث تدهور اقتصادي كانت حدته تزداد مع مرور الوقت، ويمكن تصنيف هذه الأسباب في خانتين، الأولى داخلية والثانية خارجية. مع الإشارة إلى أن تعمق الأوضاع الاقتصادية مؤخراً لم يكن وليد اللحظة، وإنما نتيجة لتراكم سنوات من مجموعة من الضغوط الخارجية والداخلية، وفشل السياسات الحكومية المطبقة، وعدم موضوعية معظمها.

الأسباب الداخلية
هناك عدة أسباب داخلية يمكن إيجازها بالنقاط الآتية، وسوف نبدأ بحسب تسلل حدوثها الزمني:

-مع استعادة الحكومة السيطرة على مناطق واسعة من البلاد خلال عامي 2017 و2018، زادت الأعباء الاقتصادية والخدمية الملقاة على عاتق مؤسسات الدولة، التي وجدت نفسها مطالبة بإعادة إصلاح المرافق العامة والبنى التحتية وتأهيلها في المناطق المحررة وتأمين احتياجات سكانها، هذا في وقت كانت تعاني الخزينة العامة للدولة من عجز كبير جراء زيادة حجم الإنفاق ومحدودية الإيرادات المحققة، وهو ما دفع الحكومة إلى تمويل احتياجاتها عبر الاستدانة من المصرف المركزي.

-حالة التشظي التي بات الاقتصاد السوري يعيشها اليوم، وما يعنيه ذلك من هدر في عملية استثمار الثروات والموارد وضياع منافع الموقع الجغرافي. فاليوم، هناك أربعة اقتصاديات موجودة على الأرض السورية: اقتصاد مناطق سيطرة الحكومة، اقتصاد مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، اقتصاد المناطق الخاضعة للفصائل المدعومة تركيا، واقتصاد إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام.

-استمرار تسخير الموارد والثروات في معظم مناطق الجغرافيا السورية لخدمة المجهود الحربي، وهذا يتجلى بوضوح في التعامل مع ثروة البلاد النفطية، وفي الأوضاع الخدمية والاقتصادية السائدة في إدلب وشمال حلب.

-ثم جاء تهديد فيروس كورونا ليزيد من صعوبة المشكلات التي يواجهها الاقتصاد السوري، إذ تسببت الإجراءات التي اتخذتها دول العالم في محاولة منها للتصدي لانتشار الفيروس في ارتفاع كلف استيراد سوريا لاحتياجاتها من السلع والمواد من جهة، وفي حدوث تراجع في الإنتاج المحلي جراء تأثيرات الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها سوريا منتصف شهر آذار/مارس من العام 2020 وما رافقها من ضعف في القوة الشرائية وفقدان مصادر دخل للكثير من الأسر من جهة ثانية.

-غياب استراتيجية حكومية واضحة للتعامل مع التطورات الاقتصادية الحاصلة، فالقرارات الحكومية الاقتصادية بمعظمها كانت أقرب إلى ردات الفعل منها إلى استشراف الأزمات والمشكلات والحيلولة دون وقوعها أو التخفيف من تأثيرها. والكثير من السياسات الاقتصادية الحكومية كانت تسهم في زيادة الضغوط الاقتصادية. وربما التعامل مع تقلبات سعر الصرف منذ بداية الأزمة وحتى الآن يشكل دليلاً على ضعف السياسات الحكومية، كذلك التعامل مع ملف معالجة عجز الموازنة عبر زيادة أسعار حوامل الطاقة والسلع المدعومة…إلخ.

-تداعيات الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في شهر شباط/فبراير الماضي والأثر الاقتصادي والاجتماعي الممتد زمنياً. والتقديرات غير الرسمية والدولية تتحدث عن خسارة البلاد لما يزيد على 5-6 مليارات دولار.

الأسباب الخارجية
يمكن القول إن الأسباب أو العوامل الخارجية كان لها الأثر الأكبر في تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ منتصف العام 2019، سواء حدث ذلك الأثر بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذه الأسباب هي:

-تحضر العقوبات الغربية والأميركية على وجه التحديد كأهم مسبب لتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في سوريا، وتالياً فهذه العقوبات مسؤولة بشكل مباشر عن معاناة ملايين السوريين الذين يصعب عليهم الحصول على أبرز الاحتياجات اليومية للبقاء على قيد الحياة. ومرت هذه العقوبات خلال السنوات العشر الأخيرة في عدة مراحل بيد أن أخطرها بدأ مع بداية العام 2019، وفيها كان التحرك الأميركي على محورين:

-الأول، الضغط على دول الجوار لوقف أي تعامل تجاري واقتصادي مع دمشق، فكانت زيارات المسؤولين الأميركيين المتتالية لكل من الأردن ولبنان والعراق والضغط على حكومات تلك الدول وقطاعات الأعمال فيها لوقف أي تطور محتمل في العلاقات الاقتصادية مع سوريا، وهذا على خلاف ما يشاع حالياً من سماح واشنطن بحدوث انفتاح اقتصادي على دمشق، والدليل أن الحدود السورية – الأردنية تقفل عند الساعة السادسة مساء من كل يوم.

– الثاني وتمثل في العمل على إعادة إحياء مشروع فرض عقوبات جديدة على دمشق بحجة حماية المدنيين حمل اسم “قيصر” وقد صدر القانون مطلع العام 2020 ودخل حيز التنفيذ في حزيران/يونيو من العام نفسه. وهناك حالياً مشروعان جديدان من شأن تنفيذهما إطالة أمد معاناة السوريين.

وتستهدف العقوبات بشكل مباشر قطاعات حيوية مثل الطاقة والبناء، المصرف المركزي، التعامل المباشر مع أي مؤسسة حكومية سورية، والحيلولة دون تدفق الاستثمارات على سوريا لإعادة الإعمار. ورغم أن القانون لا يفرض عقوبات على توريد الغذاء والدواء فإن مواده وضعت قيوداً لا تحصى وهو ما أسهم في ارتفاع تكاليف استيراد سوريا لاحتياجاتها من الدواء والغذاء وصلت نسبها أحياناً إلى نحو 50%، فضلاً عن تهرب شركات عالمية من التعامل مع المؤسسات السورية تجنباً للعقوبات الأميركية المباشرة أو غير المباشرة.

-استمرار الاحتلال الأميركي لحقول النفط والغاز وحرمان البلاد من استثمار ثرواتها الوطنية وتأمين احتياجاتها المحلية من المشتقات النفطية. وحسب بيانات وزارة النفط السورية فإن نحو 93.5% من إنتاج البلاد النفطي، والمقدر قبل الأزمة بنحو 385 ألف برميل يومياً، كان يأتي من الحقول المكتشفة في المنطقة الشرقية، والتي وصل إنتاجها اليومي آنذاك إلى نحو 360 ألف برميل موزعة على المحافظات الثلاث تبعاً لما يلي: الحسكة بإنتاج يومي قدره 225 ألف برميل، دير الزور نحو 125 ألف برميل، والرقة نحو 10 آلاف برميل. أما الثروة الثانية فهي الزراعة، وتبعاً لتقديرات بحثية مستقلة غير منشورة، فإن نسبة مساهمة الناتج المحلي لقطاع الزراعة والغابات والصيد في المحافظات الشرقية إلى إجمالي الناتج المحلي للقطاع على مستوى البلاد، وصلت في العام 2010 إلى نحو 31%،

-الأزمة الاقتصادية في لبنان والتي لا تقل تأثيراتها عن باقي الأسباب، إذ كان لتدهور الأوضاع الاقتصادية في أعقاب التظاهرات الشعبية وأزمة المصارف ومن ثم انفجار مرفأ بيروت أثر كبير في تعمق المشكلات الاقتصادية التي تواجهها سوريا، فمن لبنان كانت تمر معظم الحوالات الخارجية في اتجاه الداخل السوري، ولبنان كان بمنزلة خيار لكثير من المستوردين السوريين للتحايل على العقوبات الغربية لتأمين بعض السلع والبضائع، والتقديرات تتحدث أن ودائع السوريين في المصارف اللبنانية تتراوح ما بين 20-40 مليار دولار، والأزمة اللبنانية أثرت أيضاً في تجارة الترانزيت التي كانت تتم عبر مرفأ بيروت فالأراضي السورية فدول الخليج والأردن.

-تأثيرات الحرب الروسية – الأوكرانية في الأسواق العالمية لجهة تسببها بارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وهذا ضاعف بشكل كبير من صعوبة تأمين البلاد احتياجاتها من المشتقات النفطية والغذاء وغيرها من المستوردات الضرورية.

ماذا عن الأفق؟
هناك أربعة سيناريوهات لمستقبل الأزمة الاقتصادية في سوريا هي:

-استمرار الوضع الاقتصادي على ما هو عليه، وربما يزداد سوءاً نتيجة بقاء الضغوط الخارجية وتصاعدها، تأخر الحل السياسي ومفاعيله، وفشل الجهود الحكومية في انتهاج سياسات اقتصادية موضوعية توقف حالة التدهور التي يعيشها الاقتصاد السوري أو تقلل من حدة الضغوط الاقتصادية والمعيشية التي يواجهها المواطن.

-نجاح الجيش السوري في قلب موازين القوى ميدانياً لصالحه بدءاً من العام 2015 يجعل كثيرين يعتقدون أن البلاد قادرة على تجاوز أزمتها الاقتصادية بعد فترة من الزمن تماماً كما حصل في الميدان. لكن، إذا كان ما حصل في الميدان هو ثمرة تدخل روسي واضح، فمن هي الدولة أو الدول التي يمكن أن تدعم سوريا في المجال الاقتصادي لتتمكن من عكس النتائج الحالية أو تغيير اتجاه الأوضاع؟ وللعلم، هذا الدعم، إن حدث، لا ينطلق من فراغ، وإنما يستند في جزء كبير منه إلى استثمار الموارد والإمكانيات والقدرات السورية.

-حدوث توافق دولي على إيجاد حل سياسي للأزمة السورية تنعكس تأثيراته على الملف الاقتصادي من خلال: تخفيف العقوبات الغربية، السماح بدخول بعض الاستثمارات العربية والأجنبية إلى البلاد، تحسن سعر الصرف، زيادة النفاذية للأسواق المجاورة والدولية، المساعدة على إصلاح البنى التحتية وتأهيلها، تحسن معدلات الإنتاج، وما إلى ذلك.

-نجاح الحكومة في تطبيق جملة سياسات وبرامج توقف حالة التدهور الحاصلة في الوضع الاقتصادي والمعيشي وتسهم في التخفيف من حدة الأزمات والمشكلات التي باتت ضاغطة على حياة الناس. لكن هذا واقع مؤقت وغير مستقر تحكمه ظروف الأزمة والمواقف الدولية، وتالياً فهو لا يضمن استدامة أي متغيرات إيجابية قد تحصل ضمن هذا السيناريو.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.