الأمم المتحدة في «خريفها» الـ78

صحيفة الوطن السورية-

عبد المنعم علي عيسى:

كان الميثاق الذي أقرته «الأمم المتحدة» في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية العام 1945 تعبيراً مباشراً عن النتائج التي أفضت إليها تلك الحرب، وصيغتاه المعروفتان بـ«الجمعية العامة» و«مجلس الأمن» كانتا ترمزان أيضاً إلى تقسيم العالم إلى مجموعتين، الأولى تلك التي يندرج صوتها في سياق فعل «الضجيج» وتضمها الجمعية العامة، أما الثانية فهي تضم الأصوات التي لها فعل التأثير والنفاذ وهي تلك التي حملت صفة العضوية الدائمة في مجلس الأمن الذي كان قوامه الأبرز دول «الحلفاء» المنتصرين بالحرب، مع استثناء الصين التي لم تشارك في هذه الأخيرة وكان تمثيلها آنذاك ينحصر بحكومة «تايوان»، ما يفسر الكثير من إسناد تلك الصفة لها في حينها، وعندما عادت حكومة بكين واستحصلت عليه العام 1971 نتيجة لعوامل عدة كان أبرزها التقارب الحاصل ما بينها وبين واشنطن في عهد الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون آنذاك، لم يكن هناك من بد «غربي» للقبول بتلك الوضعية.

كانت نظرة الحالمين بقيام نظام عالمي جديد على أنقاض نظام قاد إلى حربين عالميتين فاصلهما الزمني لا يزيد، سوى قليلا، عن عقدين، تقول إن ميثاقاً «يجبّ» التجارب السابقة ويعتمد أرقى القوانين والشرائع التي اختبرتها البشرية، من شأنه أن يفضي إلى صيغة حافظة للأمن والسلم الدوليين خصوصاً إذا ما توافرت القوة اللازمة لفرض تلك القوانين، الأمر الذي تحسب له، فأفرد «الميثاق» له فصلاً كاملاً كان يحمل الرقم 7، الذي سيصبح ذائع الصيت في غضون الأزمات التي سيشهدها العالم في مراحل لاحقة، لكن سرعان ما تكشف أن نظرة هؤلاء هي أبعد ما تكون عن الواقعية، وأن المواقف التي تتبناها الدول التي «اصطفاها» الميثاق، فوضعها في خانة من يحق له «النقض» فحسب، من الصعب عليها أن تكون محكومة بالمعايير والقوانين التي اجترحها عتاة المشرعين في ذلك العصر، وما يحكمها هو حسابات المصالح أولاً، ثم تليها اعتبارات عدة من نوع موازين القوى وما تضيفه تلك المواقف على هذه الأخيرة أو تنقصه منها، ومن حيث النتيجة تحولت اجتماعات «الجمعية العامة» للأمم المتحدة، التي تنعقد سنويا، شهر أيلول من كل عام، إلى تقليد، تشي مراسم انعقاده، بحقيقة مفادها أن حال «الانفجار» لم يحن أوانه بعد، أو هو يشير في أفضل حالاته إلى «محفل» تجري فيه «اللقاءات الديبلوماسية السريعة» التي قد تُخرج للعلن صورة مفادها ترسيخ الحال آنف الذكر، لكن مع ذلك ظل «المحفل» يحظى بدور ما في سياق نسج بعض التفاهمات الناجمة بفعل اللقاءات الثنائية، أو الثلاثية أو تزيد، التي تجري على هامش الاجتماعات الرسمية على مرأى ومسمع العالم، وبمعنى آخر أضحت اجتماعات الكواليس، هي النتاج الأهم للمناخات التي يوفرها شهر أيلول «العالمي».

انطلقت الدورة 78 هذا العام وفي جعابها عناوين عدة والكثير منها شديد الأهمية بدرجة تلامس مصير حضارة ومستقبل الإنسان على الأرض، من نوع التساؤلات حول التغير المناخي وسبل مواجهتها، ومن العناوين أيضاً سبل إعادة الثقة واستعادة التضامن العالمي، ثم كيفية تسريع العمل بشأن «خطة عام 2030» وتحقيق أهدافها في التنمية المستدامة وصولا إلى تحقيق السلام والازدهار لكل شعوب المعمورة، الأمر الذي يعني خلو هذه الأخيرة من الجياع والفقراء ومن في حكمهما، ومن المؤكد أن تلك الجعاب، التي قذفت بكل تلك العناوين، فيها الكثير مما يوحي بأن العالم لم يخل بعد من «العقلاء» و«المهتمين» بمصائر الشعوب في عالم ترتبط فيه هذه الأخيرة بعضها ببعض بدرجة تكاد تكون لا انفصام ممكناً فيما بينها، لكن كل ما يجري من أحاديث حول كل تلك العناوين يظل مرتهنا بالكثير من الحسابات، كما يظل مرتهنا أيضاً بطبيعة التحالفات التي كرستها المحاور التي ما انفكت تقوم، هنا وهناك، بين أطراف عدة كنوع من الهروب بعيداً عن أثقال «الميثاق» بعيداً عن الشرائع والقوانين التي سنّها «حالمون» عاشوا في عصر لم يكن من المتوقع فيه أن يعمد الإنسان، في مقبل الأيام والمراحل، إلى وضع حضارته برمتها على شفا حفرة من النار، أو هو يدفع بها لتصير أقرب إلى جفن الردى.

باتت «الأمم المتحدة» اليوم أقرب لأن تكون «منتدى» سياسياً يقوم أعضاؤه بعرض «نتاجهم» أو رؤاهم حيث المنبر لا يزال يحظى ببعض الأضواء وعناصر الإثارة، والراجح هو أن «مصمميه» باتوا على يقين راسخ بأن ذلك الكيان الذي اصطنعوه لم يعد مناسبا لما اصطنع لأجله، بل الراجح أيضاً أنهم موقنون بأن إنتاج البديل لا يزال أمراً متعثراً قبيل أن ترسو التوازنات العالمية على شواطئها التي تبدي هذه الأيام اضطراباً يشير إلى أن فعل «الرسو» قد يطول ويطول.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.