الجيش الصيني… من العقائدية إلى الإحتراف

موقع قناة الميادين-

شاهر الشاهر:

بما أن للصين حدوداً برية طويلة مع 14 دولة، فإن ذلك سيرتّب عليها أعباء استراتيجية وأمنية كبيرة لحماية بيئتها الإقليمية.

الصين، خلال تاريخها الطويل، أحاطت نفسها بسور عظيم يفصلها عن الآخرين، وكانت الاستراتيجية الصينية “استراتيجية دفاعية” تتركز على حماية حدودها ومنع الاعتداء عليها. فالصين، منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، كانت دولة هزمتها بريطانيا وفرنسا، وغزتها روسيا واليابان أكثر من مرة.

وخلال العقود الماضية، ركّزت الصين على التنمية والتطور الاقتصاديَّين، فحققت قفزات كبيرة جعلت الاقتصاد الصيني ثاني اقتصاد على مستوى العالم.

وانطلاقاً من الحكمة الصينية القائلة: “كن شجاعاً، وإذا لم تكن كذلك فتظاهر، ولن يلاحظ أحد الفارق”، باشرت الصين، منذ تسعينيات القرن الماضي، مساراً شاملاً في تحديث قدراتها العسكرية، وجعل جيش التحرير الشعبي قوة عصرية أكثر حداثة، قادرة على شن حروب سريعة على درجة عالية من الشدة والكفاءة في مواجهة الخصم المتقدم تكنولوجياً.

ولأن دور الجيش لا يقتصر فقط على حماية حدود الدولة الجغرافية القائمة، بل يمتد ليشمل حماية مصالحها الاستراتيجية فيما وراء الحدود، ومع طرح مشروع الحزام والطريق في عام 2013، تغيرت حدود الصين من الحدود الطبيعية إلى “الحدود الشفّافة”، فأصبحت حدودها تصل إلى حيثما تصل مصالحها في العالم. وكذلك، تغير مفهوم السيادة الإقليمية للصين، لينتقل من أراضي الدولة الصينية إلى مناطق أخرى من العالم وفقاً لنظرية الامتداد الإقليمي.

ومع تغير تلك المفاهيم والأسس، كان لا بد من استراتيجية ردع من نوع آخر، تكون قادرة على حماية المصالح الصينية أينما وُجدت، وفي أي نقطة في العالم.
“الدبلوماسية العسكرية” ذات الخصائص الصينية

في ضوء المهمّات المستقبلية المعقَّدة والملقاة على عاتق الجيش الصيني، وخصوصاً في ظل مواجهة التحديات الخارجية الكبيرة، سيتوجّب على بكين تعزيز علاقاتها العسكرية بالخارج للارتقاء بمستوى التعاون العسكري الدولي وتوسيع مجالاته، ومواصلة الإصلاحات في بعض المجالات من أجل تحفيز حيوية “الدبلوماسية العسكرية”، وإطلاق “الدبلوماسية العسكرية ذات الخصائص الصينية”، لكن ذلك لن يتحقق بسهولة بكل تأكيد. فالعالم، اليوم، يشهد واحداً من أكبر التحولات في ميزان القوى الدولية، لجهة بروز قوى دولية كبرى تنافس القوة الأميركية. وتلك القوى بدأت تُظهر تحدياً واضحاً للقوة الأميركية على الصعيد الإقليمي، وتطمح إلى تحدي الولايات المتحدة عالمياً في المستقبل القريب ربما.

في ظل هذه التطورات، كان لا بد من وجود استراتيجية أمنية جديدة سيكون على الجيش الصيني تحقيقها في الأعوام المقبلة. فالصين بدأت تدرك أن تحقيق التنمية يفرض عليها العمل على تهيئة بيئة سلمية لشركائها في التنمية. أمّا تحقيق الأمن فيحتّم عليها خلق منطقة آمنة يعيش فيها جيرانها جميعاً. لذا، سيتوجب عليها تعزيز التعاون مع شركائها وجيرانها، وربما الدفاع عنهم.

وبما أن للصين حدوداً برية طويلة (22800 كم)، مع 14 دولة، فإن ذلك سيرتّب عليها أعباء استراتيجية وأمنية كبيرة من أجل حماية بيئتها الإقليمية. هذه الحدود الكبيرة والتهديدات الأمنية الإقليمية فرضت على بكين إعطاء “تأمين البيئة الإقليمية” أولوية، فبقيت المشكلات التي تثيرها لاوس وكمبوديا وتايوان والكوريتان والهند، تبدو من وجهة نظر القادة الصينيين أكثر إلحاحاً من تلك التي تثيرها الأوضاع والسياسات في مناطق أخرى من العالم، كأوروبا أو أميركا اللاتينية.
نظرية التهديد العسكري الصيني

تُعَدّ الصين اليوم من أكبر القوى العسكرية في العالم، سواء على صعيد الإنتاج والتصدير العسكريين، أو على صعيد استيراد السلاح والميزانية العسكرية. فآلة الحرب العسكرية الصينية معظمها صناعة وطنية، كما تساهم في تكوين الناتج القومي الصيني.

وما لا شك فيه أن تطور القوة العسكرية للجيش الصيني سيُقلق أعداء الصين، الذين بدأوا الترويج لنظرية “التهديد العسكري الصيني”. فبادرت الحكومة الصينية، منذ عام 2002، إلى إصدار عدد من الكتب البيضاء (تقارير رسمية) تشرح فيها أبعاد الاستراتيجية العسكرية الصينية وسلميتها، وأنها ليست موجَّهة ضد أحد، لكنها ضرورية لحماية التطور الذي تشهده الصين والذي يقلق أعداءها، وربما يدفعهم إلى ارتكاب الحماقات ضدها.

وانطلاقاً من الحكمة الصينية القائلة: “الذكي من تكلم ببطء وفكّر بسرعة”، برعت بكين في استخدام قوتها الناعمة في كتابة تلك التقارير، فاستطاعت عبر ذلك تبديد القلق والخوف لدى كثير من الدول التي تأثرت بداية بالدعاية الغربية. وهو ما تجسّد بإقامة علاقات تعاون في المجال العسكري بين الصين وأكثر من 150 دولة في العالم، وإطلاق آلية حوارات دفاعية وتشاورات استراتيجية مع وزارات 22 دولة أو جيوشها. كما شاركت في نحو 50 مناورة عسكرية مشتركة مع قوات من 30 دولة. وشاركت بنشاط في الشؤون الدولية. ومن الأمثلة على ذلك: إرسال نحو عشرين ألف عسكري للمشاركة في العمليات الأممية لحفظ السلام، وإرسال 31 سفينة إلى خليج عدن للمشاركة في عملية حماية الملاحة ومكافحة القرصنة الدولية.
القوة البحرية المهمَلة

لم يهتمَّ الصينيون، عبر تاريخهم الطويل، بالبحر، ولا بالقوة البحرية، حتى إن جزيرة تايوان، التي هي جزء من جمهورية الصين الشعبية، اكتشفها البرتغاليون في بداية الأمر وعاشوا فيها. فالصين كانت دولة منغلقة على نفسها، متحصّنة بسور شاهق يحميها من غزوات المعتدين.

في اللغة الصينية، تتكوّن كلمة “كارثة” من حرفين: الأول يمثّل الخطر، والآخر يمثّل الفرصة. لذا، منذ أزمة مضيق تايوان عام 1996، بدأت الصين تفكر في تحويل تلك الأزمة إلى فرصة، فشرعت في تطوير قواتها البحرية، وبدأت تحديث غواصاتها التي ستشكل قوة ردع في وجه حاملات الطائرات الأميركية التي تجوب منطقة بحر الصين الجنوبي.

وفي اعام 2017، قامت ببناء أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في جيبوتي، لتضمن حماية تجارتها الدولية المارة عبر مضيق باب المندب بعد انتشار عمليات القرصنة في تلك المنطقة.

لقد بدأ التفكير الجِدّي في عملية إصلاح الجيش الصيني في عام 2019، لكن التنفيذ الفعلي له بدأ بعد الحرب في أوكرانيا والاستفزازات الأميركية للصين من خلال تايوان ومنطقة بحر الصين الجنوبي، وهو ما يحتّم على بكين تطوير قوتها البحرية.
التركيز على القوة الجوية

السيادة في الفضاء أمر مهم في العقيدة الصينية. لذا، أدرك الصينيون أهمية القوة الجوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة في حربها ضد أفغانستان والعراق، فبدأوا التفكير في تطوير قوتهم الجوية لتكون قادرة على مواجهة التفوق الجوي للجيش الأميركي، فاهتموا بالفضاء، وطوّروا أقمارهم الاصطناعية. واليوم، تُعَدّ القوة الجوية الصينية ثالث قوة على مستوى العالم.

والقوة الجوية لا تعني الطائرات الحربية فقط، أو ما يمتلكه سلاح الجو، بل تعني أيضاً كل المكونات، بما في ذلك العقيدة العسكرية المطبَّقة، ومفاهيم العمليات، والتدريب، والتكتيك، والاحترافية، والقيادة، والخبرة العملية. وكل هذه العناصر تتباين بين سلاح جو وآخر، حتى لو كانت هذه الأسلحة تستخدم الأنواع نفسها منع الطائرات والمعدات، بحيث إن تفاعل هذه المكونات جميعها لتحقيق الهدف هو الفيصل في قياس قدرة القوة الجوية. بالإضافة إلى ذلك، فإن القوة الجوية لا تنفصل عن الفضاءَين المعلوماتي والاستخباري لمسرح العمليات. فوفقاً لتقرير عام 2021، الذي يُصدره البنتاغون سنوياً بشأن التسلح الصيني، فإن القوات الجوية الصينية والقوات الجوية للبحرية الصينية أصبحت تشكل أكبر قوة طيران في المنطقة، وثالث أكبر قوة عالمياً. لقد تحولت القوات الجوية الصينية من وضعية الدفاع إلى وضعية الهجوم، من خلال بناء جيش قادر على استخدام القوة الجوية على نطاق بعيد.
من جيش عقائدي إلى جيش محترف

عمل الرئيس ماو تسي تونغ على تأسيس “جيش عقائدي” تتركز مهماته على الدفاع عن الوطن والحزب، فألغى الرتب العسكرية.

أما الرئيس الصيني دينغ شياو بينغ فأطلق في عام 1978 “سياسة التحديث”، التي كان تحديث الجيش الصيني أحد محاورها الأربعة، فبدأت عملية تطوير الجيش الصيني من جيش عقائدي يعتمد على الكم، إلى جيش محترف، فأعاد نظام الرتب العسكرية، وعمل على تأهيل الضباط وتدريبهم، وسرّح أكثر من مليون عسكري في الثمانينيات من القرن الماضي، واستعاض منهم بنظام الخدمة الإلزامية لكل من يبلغ التاسعة عشرة من عمره.

وفي عام 1997، قرّر الرئيس جيانغ زيمين تخفيض نصف مليون جندي من الجيش الصيني قبل عام 2000. وعلى الرغم من عملية تقليص عدد العاملين في القطاع العسكري في عام 2005، فإن حجم الجيش الصيني يبقى الأكبر في العالم، بحيث يضمّ نحو 2.5 مليون جندي من دون احتساب القوات الاحتياطية.

أمّا الرئيس شي جين بينغ فكرّس فكرة تأسيس جيش احترافي عصري، فالحروب المقبلة هي من نوع الحروب السيبرانية وحروب الذكاء الاصطناعي.

إن القواعد الجديدة التي وُضعت لبناء جيش محترف تهدف إلى تلبية الحاجة الملحّة إلى زيادة الفعالية القتالية من خلال تطوير قدرات الأفراد العسكريين، وإنشاء نظام أفضل للتجنيد والتدريب والترقية في الرتب العسكرية والامتيازات التي سيحصل عليها هؤلاء. كذلك، فإن أولوية التجنيد ستكون للطلاب المتخصّصين بالعلوم والهندسة وذوي المهارات اللازمة للاستعداد للحرب. وبموجب القواعد الجديدة، سيتم تقسيم ضباط الصف إلى فئتين: الإدارة وضبط الصف المَهَرة، كما سيكون هناك نظام جديد لمطابقة الخبرات المهنية للضباط. كذلك سيتوقف ترفيع الضباط بناءً على أعوام المهنة، وبدلاً من ذلك، سيتجه الجيش إلى نظام الترقية بناءً على القدرات والمؤهلات. كما تم رفع الأجور وتعويضات السكن، وتأمين راتب تقاعدي وتأمين تعويض نهاية الخدمة، ليكون مجزياً، ويساعد العسكريين المتقاعدين على بدء مشروع جديد لو أرادوا.

إن التوجه الاستراتيجي، والواقع العسكري للصين، سيكونان متغيرَين رئيسَين في تحديد الاستقرار والأمن الإقليميَّين في القرن الحادي والعشرين، كما أن المظاهر المتعددة للتطور العسكري الصيني فاجأت المحللين الغربيين.
الجيش الصيني مؤسسة اقتصادية رابحة

يرى نابليون بونابرت أن مقومات الحرب ثلاث، وهي: “المال، والمال، والمال”. لذا، أدرك الصينيون أهمية العامل الاقتصادي بالنسبة إلى الجيش، فبالإضافة إلى دوره، أمنياً وعسكرياً واستراتيجياً، يقوم جيش التحرير الصيني بدور اقتصادي فاعلٍ ومؤثّرٍ، من حيث تدعيم البنى الاقتصادية للدولة، ومدّها بالمقدّرات الاقتصادية ورفدها بالخبرات والإمكانات، التي تجعلها تتقدّم على مستوى الاقتصاد، في أبعاده ومستوياته كلها.

ولأن عصب الحرب هو المال، كما يقول وينستون تشرشل، وانسجاماً مع هذه المقولة، أخذت الصين العبرة من الدرس السوفياتي، إذ كانت النفقات العسكرية الكبيرة لبرنامج سباق التسلح سبباً في الانهيار الاقتصادي للاتحاد. أمّا الجيش الصيني، خلافاً لكل جيوش العالم تقريباً، فهو قطاع منتج يحقق أرباحاً هائلة، تُقَدَّر بمئات المليارات من الدولارات سنوياً، بحيث تدير المؤسسة العسكرية عدداً من القطاعات الاقتصادية والخدمية ومعامل إنتاج السلاح وتصديره. ومع ذلك، بعد بدء الحرب في أوكرانيا، أعلنت بكين زيادة إنفاقها العسكري بنسبة 7.1 % هذه السنة، وهي النسبة الأعلى منذ عام 2019، بحيث تم تخصيص 230 مليار دولار لتكون بذلك أكبر ميزانية دفاعية في العالم بعد الولايات المتحدة (740 مليار دولار). كما أمر الرئيس شي القوات المسلحة بالقيام بتدريبات تحاكي معارك حقيقية، وحثّها على زيادة قدراتها في المجال السيبراني، تحسباً لأي طارئ.

إن التفكير الصيني في إصلاح الجيش، جاء في وقت تتزايد فيه التوترات الإقليمية والدولية، وكل الاحتمالات تقول إن الصين ربما ستكون في عين العاصفة، إذا لم تستعدّ لذلك. ويبدو أن بكين تؤمن بأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب. لذا، أصبح مجرد “التفكير في دخول حرب مع الصين” هو من “التفكير الذي لا يتقبله العقل”. أمّا الصين كدولة، فهي لا تعلن نيّاتها في شن الحروب على الآخر. ونموذج بناء الدولة العظمى، التي يسعى الرئيس شي لبنائها، قائم على القوة الناعمة، بحيث إن الاقتصاد والتجارة والمصالح الاقتصادية التي تربط بين الدول، هي التي تربط الدول بالصين، كما كانت تفعل إمبراطورية تشينغ تاريخياً.

كما أن بكين تدرك أنه لا يمكن لأيّ دولة عظمى أن تبقى وتتمدد، إلّا إذا كانت قادرة على حماية مصالحها عند الضرورة. من هنا، بدأ التفكير في ضرورة بناء جيش قادر على خوض الحروب وكسبها، تكريساً لشعار “دولة مزدهرة وجيش قوي”.

بدأ الرئيس شي جين بينغ إصلاح هيكلية جيشه عبر مكافحة الفساد فيه، وإعداده للحرب ضد الأعداء والطامعين، بحيث قام بتقوية كل فروع الجيش، وخصوصاً القوات الجوية والبحرية، التي خطفت الأضواء من القوات البرية، فكان ذلك بمنزلة تأكيد، مفاده أن الجيش الصيني سيسود البحر والجو ليكون قادراً على الدفاع عن شعبه ودولته.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.