الضعف الأوروبي وأسبابه: طغيان الأنانية.. والتبعية لواشنطن

موقع العهد الإخباري-

د. علي دربج:

في الوقت الذي لا يزال فيه مآل العمليات العسكرية الروسية غير محسوم، وبالرغم من كل الاجتماعات والاصطفافات والهبّة الأوروبية المفاجئة ضد موسكو، إلا أن الأزمة الأوكرانية كانت مزعزِعة للقوة الأوروبية، إذ كشفت عن غيابها وضعفها وحتى عجزها عن مجاراة المتغيرات أو مواجهة التحديات والاخطار المستجدة أو تلك التي تشكل تهديدًا مباشرًا لها مستقبلًا.

من يستطيع أن ينسى مناورات ألمانيا التي أرسلت خوذات أولاً، ثم صواريخ معطلة في وقت لاحق إلى أوكرانيا؟ ومن يستطيع أن ينسى وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لو مير، الذي وعد بـ “حرب اقتصادية ومالية شاملة” ضد روسيا، ثم تراجع بعد ذلك بوقت قصير؟ أو تخلي بولندا عن صفقة الطائرات المقاتلة ميغ -29 الى كييف، وقبلها، رفض أوروبي مطلق لمنطقة حظر طيران مخافة الدخول في اشتباك مباشرة مع الكرملين هي غير مستعدة له؟

كانت فترة التفاؤل الأوروبي في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خادعة. منذ تلك الأيام، تراجعت الأسهم الأوروبية. بالمعنى الحرفي للكلمة: خفضت الأزمة المالية العالمية بشكل مؤقت مستويات إنتاج الاتحاد الأوروبي مقارنة بما كان عليه الأمر في التسعينيات من القرن الماضي، في حين أُسقطت الشركات الأوروبية تمامًا من قائمة أكبر عشر شركات في العالم في أي صناعة من خلال رسملة السوق.

بالمقابل، برزت الصين كمنافس صناعي لأوروبا بمنتجات ليست فقط أرخص، بل تتوافق بشكل أوثق مع الجودة الأوروبية. إذا أخذنا ألمانيا، نجد أنها تنقذ نفسها في مجال من السلع الاستثمارية، في حين أن فرنسا، التي لم تعد تنتج شيئا حقيقيًا بعد الآن، تتاجر في فلولها من القوة السياسية والعسكرية العالمية.

ولكن من أين ينبع ضعف أوروبا؟

يمكن القول إن القارة الأوروبية تراكمت عليها ديون استراتيجية لأكثر من نصف قرن، حيث برزت أوجه القصور فيها لا سيما على المستوى التكنولوجي والعسكري. كان هذا واضحًا منذ عام 1967 على الأقل، عندما حذر الصحفي والسياسي الفرنسي جان جاك سيرفان شرايبر من “فجوة تكنولوجية” بين أوروبا والولايات المتحدة، في كتابه المقروء على نطاق واسع “التحدي الأمريكي”، وحتى يومنا هذا لم تتمكن الدول الأوروبية من سد هذه الفجوة.

ما هي ركائز تلك الفجوة؟

تتمثل الركيزة الأولى لهذه الفجوة بفشل الدول الأوروبية الكبيرة في بناء مشاريع استراتيجية مشتركة ذات مغزى كان من الممكن أن ترفع من حجم الاستثمارات الضرورية لتحدي القوى التكنولوجية مثل “داربا الأميركية” (وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة)، وهي للعلم مصدر حسد كبير في أوروبا.
أما السبب الآخر لهذا الفشل، فهو الأنانية الوطنية (سيئة السمعة في الدول الأوروبية) وإحجام من يعرفون بـ”الوطنيين في أوروبا” عن مشاركة أفضل تقنياتهم، مع غيرهم.

صحيح أن نموذج التعاون الناجح مثل طائرة إيرباص ذات التصنيع المشترك الفرنسي ـــ الألماني، لا يزال استثناءً، لكن على المقلب الآخر، منيت المشاريع الفرنسية – الألمانية ذات التقنية العالية مثل “محرك البحث كوايرو” بالفشل الذريع.

الى يومنا هذا، هناك غياب واضح للعمالقة الرقميين الأوروبيين المنافسين لأمثال GAMA الأمريكية أو BATX الصينية. في الوقت نفسه، لا تزال أوروبا تعاني من نقص حاد في تقنيات مثل “أشباه الموصلات” (رقائق السليكون التي تكون موجودة في الأجهزة الكهربائية والإلكترونية) والذكاء الاصطناعي.

وحتى في قطاعات القوة التقليدية في أوروبا، مثل الصناعات والسيارات، فإن الأمور لا تبدو أفضل بكثير. رغم إعلانه السعي وراء “الحكم الذاتي الاستراتيجي” الأوروبي منذ عام 2016، يبدو أن الاتحاد الأوروبي يواصل تخريب فرصته في الانتعاش الاقتصادي.

في عام 2019، منعت المفوضية الأوروبية الاندماج بين العملاق الصناعي الفرنسي “ألستوم” ونظيرته الألمانية “سيمنز”. وبينما أصر المدافعون عن الاندماج على ضرورة إنشاء شركات عملاقة قادرة على المنافسة دوليًا لمجاراة تلك الموجودة في الولايات المتحدة والصين، خرجت المفوضية الأوروبية بموقفها القائل إن الاندماج كان يمثل مشكلة من وجهة نظر مكافحة الاحتكار، مما أثار مخاوف من أن المفوضية لا تعمل في الواقع من أجل المصالح الافضل الطويلة الأجل للأوروبيين.

ما هو دور أميركا في العجز الأوروبي؟

تتخلص الركيزة الثانية لديون أوروبا الاستراتيجية، في عجزها عن التأثير عسكريًا على الساحة الدولية، وهو ما أسماه المعلقون “التسييس الجغرافي” للتجارة في العام 2010، أي أن التحول نحو “الرأسمالية الاستراتيجية”، حرم القارة تدريجيًا من حقوقها.

كان على الأوروبيين أن ينظروا إلى شركاتهم التي فرضت عليها أميركا عقوبات أمريكية، على خلفية تعاملها مع إيران. في العام 2018، وفي نفس اليوم الذي انسحب فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من جانب واحد من الاتفاق النووي الايراني الذي كان تم توقيعه عام 2015، حثّ السفير الأمريكي لدى ألمانيا الدولة الألمانية على ضرورة مغادرة شركاتها وسحب استثماراتها من إيران التي تعدّ سوقا ناشئة واعدة، وقد حدث ذلك على الرغم من أن طهران بقيت ملتزمة تمامًا بالتزاماتها التى نص عليها الاتفاق.

علاوة على ذلك، تم بيع قسم الطاقة في شركة “ألستوم”، وهي بقايا المجمع الصناعي الأساسي السابق في فرنسا CGE، -الذي تم تحطيمه وخصخصته في عام 1987- إلى الأمريكيين بعد أن ضغطوا عليه للامتثال لمطالبهم، من خلال سجن أحد كبار مسؤوليه في تطبيق للتشريعات الأمريكية خارج الحدود الإقليمية. في ذلك الوقت، كان الاستحواذ يحصل بناءً على الضوء الأخضر النهائي من قبل وزير اقتصاد شاب وواعد يدعى إيمانويل ماكرون.

أثبتت الحادثتان أعلاه للأوروبيين أن واشنطن كانت على استعداد لاستخدام عضلاتها العسكرية والاقتصادية لمعاملة الأوروبيين بازدراء، وأنه في نهاية المطاف لم يكن هناك شيء يمكن للأوروبيين القيام به للانتقام.

في المحصلة، إن البديل المتمثل في “الاستقلال الأوروبي”، يبدو وهميًا كلما برزت مسائل أمنية مثل قضية أوكرانيا إلى الواجهة. وأوكرانيا هي مشكلة قديمة كان على أوروبا مواجهتها للتخلص من ضعفها ولكنها اختارت التلطي تحت مظلة الحماية الأميركية التي لم تكن على قدر التطلعات والآمال الأوروبية، فكانت النتيجة تراكم الأخطار وتصاعد التحديات، وفي مقدمتها ما تواجهه حاليًا بسبب المعارك الروسية الاوكرانية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.