انبعاث الجنوب العالمي من جديد

صحيفة البعث السورية-

عائدة أسعد:

كان من أهم ما اتفقت عليه قمة البريكس- جوهانسبرج، والتي جذبت الاهتمام العالمي وأسفرت عن نتائج مثمرة، هو الموافقة على انضمام ستة أعضاء جدد إلى المجموعة.

وللدلالة على الأهمية، يسعى الجنوب العالمي، الذي يضمّ اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، إلى إحداث تغييرات تحويلية في المجال العالمي ومن خلال وجهات نظر جديدة وأساليب مبتكرة، تلتزم مجموعة البريكس بإصلاح نظام الحكم العالمي، وإعادة تشكيل توزيع السلطة في المنظمات والمؤسّسات الدولية من أجل المساعدة في تحسين حياة غالبية الناس في العالم.

كان أبرز ما في قمة البريكس هو ضمّ الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة كأعضاء جدد، وستصبح الدول الست أعضاء كاملة العضوية في البريكس في الأول من كانون الثاني 2024، كما تعهّدت البريكس أيضاً بفتح أبوابها أمام المزيد من دول الجنوب العالمي، وتوسيع المجموعة تدريجياً.

لقد سخّرت مجموعة البريكس القوة الجماعية لأعضائها الخمسة الحاليين (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) لكي تصبح قوة عاتية تؤثر على العلاقات الاقتصادية والتجارية العالمية، ويمكن أن يعزى ذلك إلى مصداقيتها الكبيرة، وحقيقة أن بلدانها الخمسة الأعضاء تمثل بالفعل 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي الاسمي، ومن حيث الناتج المحلي الإجمالي وما يعادل القوة الشرائية، فقد تجاوزت القوة الاقتصادية المشتركة لدول البريكس قوة دول مجموعة السبع.

تجدرُ الإشارة إلى أن دول البريكس تمثل 40% من سكان العالم ما يجعل المجموعة ذات أهمية كبيرة في عالم اليوم، وبعد أن تصبح الدول الست أعضاء كاملة العضوية في البريكس، فإن حصة المجموعة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي الاسمي سترتفع إلى 29%، مما يجعل نفوذها الاقتصادي أكثر وضوحاً وتأثيراً.

أيضاً تعكس شعبية البريكس المشاعر المتطورة للدول وشعوبها، فقد أصبحت بلدان الجنوب العالمي تشعر بالضجر من النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب، لأنه لا يزال خاضعاً لهيمنة القوى الغربية وحلفائها، وقد سئموا من هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وميل الولايات المتحدة وحلفائها إلى رسم الخطوط على أساس الإيديولوجية، والأنظمة السياسية، ونماذج التنمية الاقتصادية، بل وحتى أساليب الحياة.

وهناك أيضاً حالة عدم الرضا المتزايد إزاء فرض وتعزيز القيم الغربية على البلدان النامية، وربط الاستثمار والتجارة ونقل التكنولوجيا بالأجندات السياسية، كما أن القوى الغربية كثيراً ما تستخدم رأسمالها الاستبدادي كأدوات للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

وتدلّ الجاذبية المتزايدة لمجموعة البريكس على تحوّل في ديناميكيات القوة الدولية، مع ميل التوازن من الشمال العالمي إلى الجنوب العالمي، فمنذ نهاية الحرب الباردة تضاءلت مساهمات التحالفات الغربية في السلام والأمن والتنمية العالمية، بسبب الأزمات الاقتصادية المتكرّرة والصراعات العسكرية الطويلة، وهذا ما أجبر القوى الغربية على التحريض على المواجهة بين القوى العظمى، وإشعال حرب باردة جديدة، والدعوة إلى فك الارتباط، واستخدام الإكراه الاقتصادي وإساءة استخدام العقوبات لاستعادة قوتها ونفوذها.

إن بلدان الجنوب العالمي عازمة على صياغة مساراتها الخاصة للتنمية، وحماية حقوقها التنموية، ومواصلة التحديث بطريقة تناسب ظروفها الحقيقية، وهي تهدف إلى رسم مسارات جديدة تتميّز بالشمولية والتنمية، وتجنّب التشابكات الجيوسياسية والخلافات الأيديولوجية ومن شأن هذا النهج أن يعزّز الأساس التعاوني للتعددية والأممية، ويعزز التنمية والرخاء المشترك للجميع.

لقد شبّه البعض قمة جوهانسبرج بمؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945 وفي نهاية المطاف، تمّ استخلاص نتائج مؤتمر سان فرانسيسكو في ميثاق الأمم المتحدة الذي أنشأ الإطار التأسيسي للنظام القانوني الدولي في فترة ما بعد الحرب وعلى نحو مماثل، أكدت قمة جوهانسبرج من جديد على مبادئ وروح ميثاق الأمم المتحدة، وكانت بمثابة إشادة مؤثرة بالنوايا الأصلية وراء إنشاء الأمم المتحدة، كما أكدت على أهمية تعزيز التعاون المتعدّد الأطراف ومعارضة الأحادية.

أيضاً شبّه آخرون قمة جوهانسبرج بمؤتمر باندونغ عام 1955، حيث اجتمعت العديد من الدول الآسيوية والإفريقية المستقلة حديثاً دون مشاركة أي قوى كبرى، ووضع مؤتمر باندونغ معالم بارزة في التعاون والتنمية ومناهضة الاستعمار والتعايش السلمي وعلى نحو مماثل، تعكس قمة جوهانسبرج مشاعر المقاومة ضد القوى الغربية والاستعمار الجديد، وتدلّ على انبعاث الجنوب العالمي من جديد، وتأكيد تصميمه على تشكيل مصيره ومستقبله.

ولا يزال آخرون يقارنون قمة جوهانسبرج ببداية حركة عدم الانحياز في عام 1961، فقد بدأت حركة عدم الانحياز بخمس وعشرين دولة عضو مؤسّس بهدف التحرّر من إطار الحرب الباردة، واليوم تضمّ المنظمة أكثر من 150 دولة ومراقباً، والتي تضمّ ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، و55% من سكان العالم، وأغلبها دول نامية من آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية.

لقد رفعت قمة جوهانسبرج راية حركة عدم الانحياز من خلال التمسّك بمبادئ الحوار وليس المواجهة، والشراكة وليس التحالف، وقد ضخت قوة جديدة في الحركة، مما مكّن الجنوب العالمي من أن يصبح قوة دافعة لتشكيل نظام عالمي جديد يقوم على الاحترام المتبادل والتنمية المشتركة والرخاء المشترك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.